الحكومة السودانية عرضت على أميركا في لقاءات سرية تسليمها بن لادن

البشير أوفد مبعوثا خاصا إلى واشنطن بعد اجتماع بين وزير الخارجية ومسؤولين أميركيين

TT

كشف مسؤولون، حاليون وسابقون، في كل من السودان والسعودية وأميركا، ان الحكومة السودانية، مستخدمة لقناة غير رسمية مباشرة بين رئيسها ووكالة المخابرات الأميركية، عرضت عام 1996 اعتقال أسامة بن لادن وتسليمه الى السعودية. وقد حاولت ادارة الرئيس الأميركي السابق بيل كلينتون جهدها أن تجد وسيلة لقبول العرض، الذي قدم عبر اجتماع سري عقد في فندق بارلينغتون (فرجينيا) في مارس (آذار) 1996. ولكنها أغلقت الباب أمام العرض في رسالة فاكسية أرسلتها بعد ذلك بعشرة أسابيع. وقد صرفت ادارة كلينتون النظر عن الموضوع، لأنها لم تستطع اقناع السعوديين بقبول بن لادن، ولم تكن تملك الأدلة التي تستطيع بمقتضاها تقديمه الى المحاكمة بالولايات المتحدة.

بعد ذلك طرد السودان بن لادن في 18 مايو (ايار) 1996، وأبعده الى أفغانستان. ومن موقعه الجديد يُعتقد ان بن لادن خطط وموّل تفجير السفارتين الأميركيتين في نيروبي ودار السلام عام 1998، ونفذ عملية تفجير المدمرة «كول» في عدن قبل عام، كما خطط وموّل الدمار الذي حدث الشهر الماضي في نيويورك وواشنطن.

تمكُن بن لادن من الافلات من بين أصابع الولايات المتحدة، يؤرق بعض المسؤولين الأميركيين السابقين الذين تطاردهم الفكرة بأن كل ما حدث بعد ذلك كان يمكن تفاديه. ومع ان بن لادن لم يكن يحتل الموقع المركزي الذي يحتله الآن في أجندة المخابرات الأميركية، إلا ان موقعه حينذاك في دائرة اهتمام هذه الأجندة كان مهماً وتزداد أهميته باستمرار، وكانت دوائر وزارة الخارجية الأميركية تصفه بأنه «واحد من أهم مصادر الدعم المالي لأنشطة التطرف في العالم اليوم»، وتحمله مسؤولية التخطيط لمحاولة فاشلة لتفجير الفندق الذي كانت تقيم فيه القوات الأميركية في اليمن عام 1992.

وقال مسؤول في ادارة مكافحة الارهاب الأميركية «لو كنا استطعنا القاء القبض على بن لادن وقتها، لتغير مجرى الأحداث بصورة كبيرة. وربما لم نكن لنشهد ما حدث في 11 سبتمبر (ايلول)».

ويصر مسؤولو ادارة كلينتون على انهم لم يكونوا يملكون ذلك الخيار عام 1996. وقالوا ان المناخ القانوني والسياسي والاستخباراتي الذي كان سائداً وقتها لم يكن يسمح إلا بمغادرة بن لادن للسودان بدون ان يصيبه الأذى.

وقال ساندي بيرغر نائب مستشار الأمن القومي السابق «اذا أتينا به الى الولايات المتحدة، فهذا يعني تسليمه للنظام القضائي، ولم يكن ذلك خيارنا الأول حينها. الواقع ان خيارنا الأول كان ارساله الى موقع آخر».

وأضاف بيرغر وستيفن سايمون، الذي كان وقتها مدير مكافحة الارهاب بمجلس الأمن القومي، ان البيت الأبيض كان يعتقد ان اخراج بن لادن من السودان يعد مكسباً في حد ذاته، لأن ذلك يفصله عن شبكته الواسعة الممتدة من الأعمال التجارية والاستثمارات ومعسكرات التدريب.

وقال سايمون «في الواقع كنت مهتماً بشيء واحد هو اخراجه من السودان. وكنت أتفهم الأسباب التي حدت بالسعوديين الى أن يرفضوه، فقد كان شخصاً ضاراً وغير مرغوب فيه، وكنت بصراحة، سأصاب بالصدمة اذا كانوا قد وافقوا على استقباله. وكانت حساباتي كما يلي: سيكلفه اعادة بناء شبكته كثيراً من الوقت، وهذا سيشغله ويعقد عليه الأمور».

ويقول أكثر من عشرة مسؤولين حاليين وسابقين جرى الاتصال بهم، ان الأجندة المتقاربة على ثلاث جبهات هي التي فوتت فرصة القبض على بن لادن. فادارة كلينتون كانت تزخر بالخلافات حول قبول التعامل مع الحكومة السودانية أم عزلها، مما أثر على تقييم مدى اخلاص العرض الذي تقدمت به تلك الحكومة. وعلى صعيد العلاقات السعودية ـ الأميركية، اختلف صناع القرار حول مدى الأولوية التي ينبغي ان تحظى بها عمليات محاربة الارهاب، على المصالح الأخرى مثل دعم محادثات السلام الاسرائيلية ـ الفلسطينية التي كانت تصطدم حينها بعقبات كبرى. وقد ظهرت حينها بدايات الجدل الذي احتدم في ما بعد حول ما اذا كانت الولايات المتحدة تريد ان تقدم بن لادن الى المحاكمة، أم تريد معاملته كعدو في اطار حرب سرية؟

وكان الرئيس السوداني عمر حسن البشير قد لمح في عام 1999 الى العرض الذي قدمته حكومته لتسليم بن لادن الى السعودية، ولكن دور الحكومة الأميركية والقناة السرية بين الخرطوم وواشنطن لم يكشف من قبل.

وترجع جذور العرض السوداني الى وجبة عشاء بمنزل وزير الخارجية ـ حينها ـ علي عثمان محمد طه بالخرطوم، وكان ذلك في 6 فبراير (شباط) 1996. وكانت تلك هي الليلة الأخيرة للسفير الأميركي تيموثي كارني قبل اخلاء السفارة ومغادرة السودان وفق تعليمات واشنطن. وكان رئيس وحدة الاستخبارات الأميركية (السي. آي. ايه) بالخرطوم، بول كواغليا، قد بذل جهوداً كبيرة وشن حملة مكثفة لاخلاء كل الأميركيين من الخرطوم، بعد ان تعرض هو وموظفوه الى مراقبة مكثفة، بل تعرضوا لاعتداءات شخصية كان احدها بمطواة والثاني بمطرقة. والآن جاء دور كارني لاخلاء كل الأميركيين الآخرين من السودان، رغم اعتراضاته الشخصية.

ووصف كارني وديفيد شين، الذي كان وقتها مسؤولاً عن شرق افريقيا بوزارة الخارجية، التهديدات الأمنية بأنها «كاذبة». ولكن صناع القرار الكبار حول السودان كانوا قد فقدوا الأمل في التعامل مع الخرطوم، وكانوا يعدون لعزل النظام والحاق الضرر به. وكان الدبلوماسيان المحترفان يعتقدان ان ذلك كان خطأ، وان واشنطن تهدر فرصاً نادرة في الاستفادة من جهود السودان وتعاونه ضد الجماعات الاسلامية المتطرفة. وزاد من عداء اميركا للنظام في الخرطوم، تلك المعلومة الاستخباراتية التي نقلها أحد مصادرها، حول ان السودان كان ينوي اغتيال انطوني ليك، مساعد مستشار الأمن القومي، وأعلى الأصوات الأميركية في انتقاد نظام الخرطوم. وقد تعاملت الأجهزة السرية مع هذه المعلومة بدرجة من الجدية جعلتها تنقل انطوني ليك من منزله، وتحوله من منزل سري الى آخر، وتصحبه بحراسة مسلحة في حله وترحاله. ولكن أغلب المحللين الأميركيين توصلوا في ما بعد الى ان المعلومة كانت كاذبة.

ولأن علي عثمان طه كان يشعر بقلق شديد من تدهور العلاقات، فقد دعا كارني وشين لتناول العشاء بمنزله في تلك الليلة من يوم الثلاثاء. وتساءل طه حينها عما يمكن ان تفعله بلاده لاقناع الولايات المتحدة بالتخلي عن رأيها، الذي عبرت عنه ممثلتها حينها لدى الأمم المتحدة، مادلين أولبرايت، والقائل بأن السودان مسؤول عن «دعم دائم للارهاب العالمي؟». وكانت بحوزة كارني وشين قائمة طويلة، وكان بن لادن، كما يذكران، قريباً من قمة القائمة. وكذلك كان الحال بالنسبة لأعضاء الجماعة الاسلامية المصرية الثلاثة الذين هربوا الى السودان بعد محاولة اغتيال الرئيس المصري حسني مبارك في اديس أبابا، وكان السودان يستضيف كذلك عناصر من حركة المقاومة الاسلامية (حماس) ومن حزب الله اللبناني.

ويذكر كارني ان تلك كانت «المحادثة الجادة الأولى مع حكومة الولايات المتحدة حول قضية الارهاب».

وكان طه ينصت في الغالب، ولم يعترض على طلب ابعاد بن لادن، ولكنه لم يوافق عليه في تلك اللحظة. وكانت اعتراضاته تنحصر فقط في حماس وحزب الله، اللذين تعتبرهما حكومته، مثلها مثل أغلب العالم العربي، يمارسان مقاومة مشروعة للاحتلال الاسرائيلي.

وفي خضم صراعه حول القيادة مع الدكتور حسن الترابي أرسل البشير اشارات واضحة الى الغرب. وكان وقتها قد سلّم الارهابي كارلوس الى فرنسا قبل فترة قصيرة. وبعد أقل من شهر من عشاء طه مع المسؤولين الأميركيين أرسل مساعداً موثوقاً به الى واشنطن، هو اللواء الفاتح عروة، الذي كان وقتها وزيراً للدولة بوزارة الدفاع. ووصل عروة الى واشنطن سراً، ونزل بفندق حياة آرلنغتون في 3 مارس (آذار) 1996، على طريقة عملاء المخابرات المحترفين، نزل بغرفة، وذهب راجلاً الى أخرى، عبر ويلسون بوليفارد من مترو روزلاين.

وكان كارني وشين في انتظاره، ولكن الاجتماع أشرف عليه عملاء سريون من القسم الأفريقي بوكالة المخابرات الأميركية (سي. آي. ايه).

وليس ممكناً تحديد الأعضاء العاملين بهذه الخدمة السرية، وقد رفض فرانك نوت، رئيس القسم الافريقي وقتها في ادارة العمليات، الاجابة على أية اسئلة.

وفي وثيقة يرجع تاريخها الى 8 مارس 1996، حدد الأميركيون مطالبهم. وتحدد المذكرة ذات الصفحتين، بعنوان «خطوات يمكن للسودان اتخاذها لتحسين العلاقات مع الولايات المتحدة»، 6 مطالب، وكان المطلب الثاني في القائمة يتعلق بموضوع بن لادن. (المطلب الأول كان عبارة عن احتجاج غاضب على الهجمات على السفارة الأميركية بالخرطوم، وما يترتب على ذلك).

وتطلب المذكرة تحديداً «امدادنا بأسماء وتواريخ وصول ومغادرة المجاهدين الذين جلبهم بن لادن الى السودان والأماكن التي قصدوها وتفاصيل جوازات سفرهم». وقال عملاء الـ«سي. آي. ايه» للفاتح عروة، انهم يعلمون ان هناك حوالي 200 من اتباع بن لادن داخل السودان.

وبعد أسابيع من ذلك اللقاء، رفع عروة حدود العرض. وقال ان اجهزة الأمن السودانية يمكن ان تفرض على بن لادن مراقبة صارمة بالوكالة عن الولايات المتحدة. واذا كان هذا ليس كافياً فإن الحكومة مستعدة لاعتقاله وتسليمه لجهة لم تحددها. وفي أحد الخيارات التي طرحها عروة قال ان السودان سيقبل أية قائمة اتهامات جنائية ضد بن لادن. وأضاف ان السعودية هي أكثر الخيارات منطقية، لتسليمه اليها.

وتتذكر سوزان رايس مسؤولة قسم افريقيا في مجلس الامن القومي، دهشتها ولكن شكها العميق في العرض السوداني، ولكن على العكس من صمويل بيرغر وسايمون، جادلت في ان مجرد طرد بن لادن من السودان ليس كافيا. وقالت «نريد منهم تسليمه الى سلطة مسؤولة خارجية. لم نرد ان يتركوه يختفي».

وقد تم ابلاغ انتوني ليك ووزير الخارجية وارين كريستوفر بالعرض، طبقا لما ذكره زملاؤهما، والجهود التي جرت لاقناع الحكومة السعودية بتسلم بن لادن. وكانت الرياض قد طردت بن لادن في عام 1991 وجردته من جنسيته عام 1994، ولذلك لم ترغب في تسلمه.

وقبل المسؤولون الاميركيون رحيل بن لادن من السودان، الا ان بعضهم اثار امكانية اسقاط طائرته المستأجرة، ولكن الفكرة لم تناقش بجدية لان بن لادن لم يرتبط حتى ذلك الوقت بقتل اميركيين، كما لم يكن من المتخيل ان كلينتون سيوقع «امر القتل» الضروري في مثل هذه الظروف.

وأوضح الفاتح عروة «في النهاية ابلغونا بأن نطلب منه مغادرة البلاد. وقالوا: لا تدعوه يذهب الى الصومال. وقلنا سيذهب الى افغانستان، وقالوا لنا دعوه يذهب الى هناك».

وفي 15 مايو عام 1996 بعث وزير الخارجية علي عثمان طه بفاكس الى كارني في نيروبي، أبلغه فيه ان حكومته طلبت من بن لادن مغادرة البلاد، وانه حر في المغادرة.

وبعث كارني بسؤال الى طه: هل سيحتفظ بن لادن بالتصرف والسيطرة على ملايين الدولارات من الودائع التي جمعها في السودان؟

ولم يجب طه قبل استئجار بن لادن لطائرة بعد ثلاثة ايام لرحلته الى افغانستان. وكشفت التحليلات والمعلومات التي جمعتها اجهزة الاستخبارات الاميركية في ما بعد ان بن لادن تمكن من اعادة توجيه وتحويل استثماراته في السودان من مخبئه الجديد في افغانستان.

ومن وجهة النظر السودانية، فإن الجهود الفاشلة لاحتجاز بن لادن كانت ناتجة بصفة اساسية من انقسام ادارة كلينتون حول كيفية التعامل مع الحكومة السودانية، وهو انقسام مستمر حتى اليوم في الوقت الذي يدرس فيه الرئيس بوش ما يمكن القيام به مع حكومة ذات تاريخ في تأييد الجماعات الأصولية.

وأوضح عروة «ان واشنطن، لم تتمكن ابدا من تحديد ما اذا كانت تضرب الخرطوم او تطلب مساعدتها». وأضاف: «اعتقد انهم يريدون الامرين معا»،

* (خدمة «واشنطن بوست» ـ خاص بـ «الشرق الأوسط»)