صعود التيار السلفي والأصولي في مصر بعد سقوط مبارك

أطلق سراح المئات منهم بعد سنوات من السجن دون سند قانوني

TT

لقد أضاءت الثورة المصرية مستقبل نحو ثلاثة آلاف شخص في هذه القرية الزراعية ذات الطرق الترابية غير الممهدة، فقد توقف الناس عند دفع الرشى في مجلس المحافظة وامتنع أفراد الشرطة عن مضايقة الفلاحين، ولم يعد بمقدور رجال الأعمال الماهرين من المدينة عقد صفقات الأراضي المربحة. لكن يبدو أن أبرز الرابحين هم الرجال ذوو اللحى الطويلة، إنهم السلفيون أو الأصوليون المسلمون الذين يودون أن يروا تطبيق سكان القرية وأهل مصر والشرق الأوسط لأكثر أشكال الإسلام صرامة وتشددا.

كان يتم الزج بآلاف من السلفيين إبان فترة حكم الرئيس السابق حسني مبارك في السجون إلى أجل غير مسمى دون محاكمة أو تهمة في إطار حملة مبارك لمنع مصر من الانسياق وراء الدعوة إلى الجهاد التي أطلقها أسامة بن لادن وتنظيم القاعدة. وقد أتاح ذلك لأكثر المسلمين المتسامحين في القرية تطبيق النهج الإسلامي المحافظ السمح دون تشدد والذي تعرف به مصر منذ زمن طويل. لكن منذ سقوط نظام مبارك في الحادي عشر من فبراير (شباط) الماضي، تم إطلاق سراح الكثير من السلفيين المعتقلين منذ سنوات دون سند قانوني في مختلف أنحاء مصر. وعادوا إلى منازلهم في قرية دبانه الكبيرة ويسعى أكثرهم عدوانية إلى فرض آرائه المتشددة بجرأة لم يكونوا يتمتعون بها في عهد مبارك.

ودبانه الكبيرة ليست سوى قرية صغيرة في دولة يبلغ عدد سكانها 80 مليون نسمة وفي وطن عربي يبلغ عدد سكانه 340 مليون نسمة وتقع بالقرب من نهر النيل وتبعد نحو 70 ميلا عن القاهرة. لكن ما يحدث هنا بمثابة رسالة تحذيرية من العواقب التي لا يمكن التنبؤ بها والتي تلت تقريبا كل الثورات السياسية التي اندلعت في الشرق الأوسط منذ شهر ديسمبر (كانون الأول) الماضي.

وطالب المحتجون الشباب الذين احتلوا ميدان التحرير بتطبيق الديمقراطية الغربية وهو الهدف الذي أقرته واشنطن وباقي عواصم العالم. وقد وعد لواءات الجيش الذين تسلموا السلطة من مبارك بتحقيق ذلك الهدف في النهاية. لكن رحيل مبارك كان محركا لعملية يمكن أن تغير وجه مصر بطرق أخرى قد يكون من الصعب على واشنطن تقبلها.

ويرى أكثر أهل قرية دبانه الكبيرة الثورة من بعيد على شاشات التلفزيون لكنهم وافقوا على مطالبها على حد قول حسين عبد الستار، موظف في المجلس المحلي يبلغ من العمر 58 عاما. ويقول عادل شعبان ذو اللحية الطويلة المخضبة بالشيب إن السلفيين هم أسعد سكان القرية بالثورة لأنها أنهت عهدا من الظلم زج خلاله بالكثيرين منهم في غياهب السجون عقابا على معتقداتهم. وأضاف وأمامه كوب من المياه الغازية: «ستتحسن الأمور الآن». لكن يقول أهل القرية إن الأمر تجاوز إطلاق سراح السلفيين المسجونين، حيث لم يعد أفراد الشرطة يشعرون أنهم يتمتعون بسلطة توقيفهم في الشوارع إلا إذا خالفوا القانون بشكل واضح وصريح. وقال عبد الستار: «الشرطة مثل الناس. لكنهم كانوا في السابق يستطيعون إهانة الناس، بينما الآن لا يقولون أي شيء لأي شخص». لقد احتل السلفيون الفراغ الموجود حاليا، حيث وافق نحو 90 في المائة من الناخبين في هذه القرية على التعديلات الدستورية التي طرحت للاستفتاء العام في 19 مارس (آذار) الحالي في حين اعترضت عليها حركات الاحتجاج الشبابية في القاهرة. ويقول أهل القرية إن قادة السلفيين قادوا الحملة الداعية إلى الموافقة على التعديلات الدستورية. ويتمتع هؤلاء بنفوذ وتأثير على نحو ثلثي عائلات القرية وبصمتهم واضحة على الحياة في القرية.

وكان ثلث الرجال الذين يسيرون في شوارع القرية غير الممهدة في أحد أيام الجمعة يرتدون طاقيات الصلاة وجلابيب ولهم لحى غير مشذبة وهي الهيئة المعتادة للسلفيين. وترتدي أكثر السيدات اللاتي يخرجن من منازلهن النقاب وملابس فضفاضة، بينما تكمل بعضهن الهيئة الإسلامية بارتداء قفازات سوداء لتغطية كل جزء من جسدهن. واقترب أحد الدعاة السلفيين من مصور فوتوغرافي فلسطيني يزور القرية برفقة صحافي أميركي وأخبرهما أنه غير مسموح للأجانب بالتقاط صور فوتوغرافية. وبمساعدة من عدد من شباب القرية أجبر المصور على حذف الصور التي التقطها بآلة التصوير الخاصة به. وقال أحد فنيي الهواتف من أهل القرية بعد أن طلب منه التدخل إنه لا يستطيع أن يتحدى سلطة الداعية.

وفي شارع آخر أخذ سلفي ملتح ذو شعر مدهون بالزيت ويرتدي جلبابا ناصع البياض يصيح في الناس الذين كانوا يتحدثون مع الصحافي ويقول إنهم سذج لثقتهم في غربي ويجهلون نيته. وبعد تصدي بعض من أهل القرية له ومنهم تاجر كبير ذهب مغاضبا.

يثير التطرف الإسلامي قلق الكثيرين حيث سلط سقوط نظام مبارك الضوء على جماعة الإخوان المسلمين التي كانت محظورة والتي تبحث لها الآن عن مكان في المشهد السياسي الجديد. لكن الحركة السلفية أقل تنظيما وأكثر تشددا وليست أكثر من مجموعة من المعتقدات. فهي ليست ضمن أي إطار حزبي سياسي، لكن معتقداتها كانت مصدر إلهام لكثير من الجماعات السرية ومن بينها الجماعة التي أدينت بتهمة اغتيال الرئيس المصري الراحل أنور السادات عام 1981.

كذلك اتهم معتنقو الفكر السلفي مؤخرا بالتورط في حادث تفجير كنيسة في الإسكندرية ليلة رأس السنة والذي أسفر عن مقتل 21 شخصا. وتم القبض على أحد السلفيين يدعى سيد بلال للاشتباه في تورطه في ارتكاب الجريمة، لكنه توفي بحسب التقارير نتيجة التعذيب على أيدي رجال الشرطة قبل أن يحل لغز الجريمة. ومنذ ذلك الحين تصوره بعض منشورات السلفيين كشهيد. ويتمتع السلفيون بنفوذ قوي في القرى الزراعية النائية منذ فترة طويلة لجهل سكانها، لكن يبدو أن هذا النفوذ قد تزايد وأضحى أكثر وضوحا منذ اندلاع الثورة على حد قول كرم صابر، المدير التنفيذي لمركز الأرض لحقوق الإنسان في القاهرة.

* خدمة «واشنطن بوست» خاص بـ «الشرق الأوسط»