النكات تخبو قليلا في مصر بعد «ثورة ميدان التحرير»

طفل مصري يحمل لافته كتب عليها بيت شعر خلال مظاهرات ميدان التحرير (أ.ب)
TT

توقف تأليف النكات التي كانت سمة من سمات ثورة ميدان التحرير في القاهرة.

وكان المصريون لقرون طويلة يلجأون إلى مثل هذه الدعابة التي كثيرا ما كانت تكون مغلفة بالسخرية السوداء كدواء للنفوس المعذبة. وعلى الرغم من هذا الميل الفطري إلى السخرية من السلبيات، الذي يجري في دمائهم، فقد بدأ يخبو بعد ثلاثة عقود من جمود الحياة تحت حكم الرئيس السابق حسني مبارك. ثم جاءت ثورة ميدان التحرير كقوة الطبيعة الصادقة، التي أطلقت طموحات وغضب الملايين، وأطاحت بحاكم مستبد أركان حكمه راسخة، وألهمت قريحة المصريين وروح الدعابة التي يشتهرون بها، حيث ظهرت من خلال اللافتات والشعارات التي رفعوها، وتم تداولها عبر شبكة الإنترنت والرسائل القصيرة ونشرت حتى في الصحف المحلية. وقال إسكندر العمراني، الصحافي المستقل وأحد أشهر المدونين: «أعتقد الكثيرون أن روح الدعابة اختفت من حياة المصريين منذ ثلاث أو أربع سنوات، نتيجة شعورهم بالإحباط وأنها عاودت الظهور مرة أخرى في ميدان التحرير. فقد كان يحمل البعض لافتات مكتوبا عليها: (ارحل بأه عايز أذاكر) و(أنا طبيب أسنان وهنا من أجل خلع مبارك). وتضمنت بعض اللافتات إشارات تاريخية مثل: (قتل ناصر بالسم والسادات بالرصاص أما مبارك فبالـ«فيس بوك»)». لكن هذه اللحظة انتهت الآن بعد إدراك أن ظروف الحياة باتت أصعب على المصريين عن ذي قبل، خاصة بالنسبة إلى الفقراء الذين يجنون رزقهم من السياحة، مثل سائقي سيارات الأجرة الذين اضطروا إلى الصراع على عدد الركاب الضئيل. ويقول محمد صالح محمد، وهو صاحب سيارة الأجرة في وسط القاهرة: «لا أحد يروي نكات الآن، فلا توجد سعادة أو عمل. إن الفوضى تعم البلد». إن التحول المفاجئ من حس الدعابة إلى الإحساس بخفوت الثورة الذي انتشر في بلد كان يأمل أهله رؤية تغيير بين عشية وضحاها، فاستيقظوا ليجدوا أنفسهم في مواجهة الكثير من التحديات. ويقول الكثيرون في مصر إن أحدا لم يشعر باليأس على الأقل حتى الآن، لكنهم فقط يلتقطون الأنفاس ويتكيفون مع الواقع المتغير الذي تشهده مصر بعد الثورة. ويقول حسن نافعة، أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة: «لم تحقق الثورة أهدافها بعد. فهناك بعض الإحباطات، وفي هذه المرحلة الرمادية لا توجد أي فكرة واضحة عما ينبغي فعله. هناك انقسام وتوقعات وانتظار». لم تتبدد القوة المتوهجة التي أسقطت النظام وأطاحت بالرئيس، لكنها خبت قليلا. من الصعب على الناس الاعتياد على حالة عدم اليقين بعد ثلاثين عاما من الاعتياد على المعاناة المتوقعة. وهناك مؤشرات تدل على زيادة التوتر الطائفي ومعاناة الاقتصاد من مشكلات خطيرة. كذلك ازدياد معدل الجريمة، وفجأة لم يعد ينظر إلى الجيش باعتباره الرجل الطيب، حيث اتهم باللجوء إلى الضرب والتعذيب والمحاكمات العسكرية من أجل إسكات المنتقدين والمعارضين. كذلك لا تزال بقايا النظام البائد موجودة مثل جهاز أمن الدولة الذي ما زال العاملون به يؤدون مهامهم مثل السابق، على الرغم من تغيير اسمه. ويقول كريم البرلسي، رجل أعمال، (52 عاما)، وشارك في مظاهرات ميدان التحرير: «رحل رأس النظام، لكن النظام القديم الذي ظل راسخا ومتغلغلا في كل مناحي الحياة.. لم يختف بعد». ويمثل هذا تراجعا عن الروح المنتشية خلال الأيام الماضية عندما تجدد الحس القومي والإحساس بالوحدة بين الناس المجتمعين في الميدان دون النظر إلى الدين أو الطبقة الاجتماعية. ولعب حس الدعابة والسخرية دورا مهما في التكيف والانتصار خلال الثمانية عشر يوما». يقول فهمي هويدي، الكاتب الإسلامي والمعلق الاجتماعي، في إشارة إلى البلطجية الذين كانوا يقذفون المتظاهرين بالحجارة: «كان مؤيدو مبارك يقذفون الحجارة، بينما كان الشعب يرشق مبارك بالنكات والدعابة».

كان جزء من هذا على الأقل مخططا، حيث يقول عمراني، أحد المدونين: «كان حس الدعابة عفويا، فهو من السمات التي تميز الشخصية المصرية، لكن كانت هناك رغبة في إظهار أن المتظاهرين ليسوا شبابا غاضبين أو إسلاميين». وأوضح أن منظمي المظاهرات استخدموا الدعابة كجزء من استراتيجية التواصل وتشجيع الناس وحشدهم. تقول ليلى سويف، إحدى أشهر المدافعات عن حقوق الإنسان وأستاذة الرياضيات بجامعة القاهرة: «كان هناك أطفال يكتبون الشعارات ويرسمون الرسوم الكاريكاتيرية وما شابه. لقد كان ذلك من الوسائل الأساسية وأحد أهم أسلحتنا». وأضافت أنه عندما كانت طائرات الجيش تحلق فوق رؤوسهم، في محاولة لإرهاب الحشود، بدأ الشباب يقفزون ويهتفون قائلين: «حسني اتجنن، حسني اتجنن» وجعلوا من الأمر نكتة، ولم يعد الناس يشعرون بالخوف. وقال المنظمون إن السخرية كانت أمرا سهلا في ظل الأحداث الغريبة، مثل اقتحام رجال على ظهور الجمال والخيول الميدان الذي انتشت صوره في أنحاء العالم. وبعد دقائق من انقشاع الغبار، جمع المحتجون الأشياء التي كان يحملها هؤلاء، في ما يشبه الضريح. يقول إبراهيم الهضيبي، أحد الشخصيات القيادية الشابة السابقة في جماعة الإخوان المسلمين الذي ترك الجماعة منذ عامين: «كنت أذهب إلى الميدان يوميا بحثا عن نكتة جديدة. لقد اعتاد المصريون التعبير عن أنفسهم وآرائهم من خلال النكات والدعابة، لأنها الطريقة الوحيدة المتاحة». ويقول الناس إن حس الدعابة، الذي ازدهر أيام الثورة، بدأ يخبو بعد تصويت المصريين في الاستفتاء على التعديلات الدستورية، التي من شأنها أن تعجل عملية إجراء الانتخابات البرلمانية والرئاسية. لقد كان التصويت نداء أيقظ ونبه الكثير من العلمانيين والنشطاء الليبراليين الذين شاركوا في الثورة وفي الحملة المناهضة للاستفتاء، لاعتقادهم أن هناك حاجة إلى المزيد من الوقت لبناء مؤسسات تستطيع أن تنافس كيانات مثل جماعة الإخوان المسلمين. وبعد انتهاء الاستفتاء، كان هناك ازدهار للسخرية وحس الدعابة وإن لم تكن توحد تلك المرة بين التوجهات المختلفة التي عاودت الظهور على الساحة، حيث تقول إحدى النكات «على رجال الأعمال استيراد جلاليب يصل طولها إلى الركبة ولحى وأوشحة لتغطية الرأس من الصين»، في إشارة إلى التوجه الديني. وتقول نكتة أخرى «لن يكون للنساء حق التصويت، لأن صوت المرأة عورة». وبدأ حس الدعابة يتجه نحو الجمود التام مرة أخرى، فقد أكد إبراهيم السنوسي واثنان من أصدقائه، بينما كانوا يتسامرون في مساء أحد الأيام في مقهى يعج بالناس يقع بين بنايتين في حارة ضيقة، أن ليس لديهم أي نكات جديدة يروونها ولم يشعروا برغبة في رواية نكات قديمة. وقال السنوسي، (33 عاما)، الذي لم يستطع مقاومة رواية نكتة أخيرة عن مبارك: «نحن نتطلع إلى المستقبل الآن. لقد استطاع مبارك التوحيد بين الأديان، لأنه أهان المسلمين والمسيحيين واليهود». وابتسم السنوسي ابتسامة عريضة وشعر ببعض الرضا عن ذاته.

* خدمة «نيويورك تايمز»