حماه.. المدينة التي يخشى النظام السوري استفزازها

تخلو شوارعها من صور الأسد ووالده.. وسكانها لا يكتفون بالمطالبة بالحرية.. بل يمارسونها

حماه: منظر مهيب من أعلى لساحة العاصي في «جمعة أسرى الحرية» (أوغاريت)
TT

يجمع زوار مدينة حماه، الذين تسنى لهم التجول في شوارعها ولقاء أقاربهم في بيوتها، على أن المدينة الواقعة على ضفاف نهر العاصي، والتي تبعد نحو 210 كلم عن العاصمة دمشق، تكاد تخلو جدران شوارعها وأعمدة ساحاتها من صور الرئيس السوري بشار الأسد ووالده حافظ الأسد، كما لو أن النظام السوري قد سقط فعلا في هذه المدينة، كما يردد أهلها كل يوم جمعة قائلين: «يا شباب الشام، عنا بحماه سقط النظام».

ويوضح عامر، أحد منسقي التحركات الشعبية في المدينة، والذي يتنقل بحذر من منزل إلى آخر مستخدما اسما مستعارا خوفا من الوقوع في يد قوات الأمن الذين يلاحقونه منذ فترة، أن «سكان المدينة باتوا في قطيعة نفسية مع النظام ويتصرفون وكأنه سقط فعلا، إذ يعيدون تنظيم حياتهم بمعزل عن سلوكياته وممارساته». ويشدد لـ«الشرق الأوسط» على أن «أهالي حماه لا يطالبون بالحرية فقط، بل يحاولون ممارستها»، مشيرا إلى أنه «ربما قد لا نجد لهذا الكلام ترجمة على أرض الواقع، حيث إن النظام لا يزال يمتلك الدبابات والشبيحة وأجهزة الأمن، إضافة إلى دعم بعض الدول الغربية، لكن الناس من شدة رغبتهم في إسقاط النظام تحاول تجاهل وجوده، وتتمرن على العيش من دونه».

وكانت المدينة التي يبلغ عدد سكانها 800 ألف نسمة، قد فاجأت النظام في جمعة «إسقاط الشرعية»، حيث نزل نحو نصف مليون متظاهر من سكانها إلى ساحة العاصي، وسط المدينة، مطالبين بإسقاط النظام، مما استدعى حصارا شديدا من قبل دبابات الجيش السوري وموجة اعتقالات نفذت من قبل الأمن في بعض الأحياء بحق المتظاهرين، إضافة إلى عزل محافظ المدينة بقرار من الرئيس بشار الأسد وإجراء تغييرات في ضباط الأجهزة الأمنية. وأقدم سكان المدينة على إغلاق بعض الشوارع الرئيسية في المدينة، لمنع وصول الأمن إليها بواسطة حواجز بدائية مكونة من حاويات النفايات وإطارات السيارات.. ولم يحل الحصار الأمني على المدينة من دون استمرار الأهالي بالمشاركة في الاحتجاجات في «جمعة ارحل» بالزخم الجماهيري نفسه، ولتشكل حماه مؤخرا في «جمعة أسرى الحرية» ثنائيا مذهلا مع مدينة دير الزور، حيث نزل في المدينتين ما يقارب المليون متظاهر، كما قدرت العدد وسائل الإعلام العالمية.

وأوضح أحد الناشطين في المدينة وهو محام متقاعد لـ«الشرق الأوسط» أن «مدينة حماه وبسبب خصوصية الثمانينات التي تحملها يخشى النظام استفزاز جراحها، وهي استطاعت بفضل جرأة أهلها وشجاعتهم أن تجسد فكرة الساحة أو الميدان التي برزت بقوة في الثورات العربية، سواء في تونس أو مصر». وأشار إلى أن «المنتفضين السوريين حاولوا إيجاد هذا الميدان في مدينة دمشق حين زحف المتظاهرون إلى ساحة العباسيين وسط المدينة، فهاجمتهم أجهزة الأمن والشبيحة وأفشلت محاولتهم بعد اعتقال الكثير منهم، وكذلك الأمر في مدينة حمص، حيث أقام المتظاهرون اعتصاما سلميا في ساحة الساعة وسط المدينة، فداهمتهم فرق الشبيحة محمية من أجهزة الأمن وارتكبت مجزرة في المكان».

ورأى أن المدينة «تمكنت من إيجاد ساحة للثورة السورية تلفت عبرها أنظار العالم إلى حجم هذه الثورة، واستطاعت إقناع العالم بأن المظاهرات التي تخرج في سوريا وتطالب بالحرية والديمقراطية هي سلمية تماما لم تنجر إلى العنف والفوضى على الرغم من كل ممارسات النظام الوحشية والدموية، وهذا ما أكدته زيارة السفير الأميركي إلى المدينة وتجوله في شوارعها أثناء الاحتجاجات ولقائه المتظاهرين، ومن ثم تصريحه بأنه لم ير حتى سكينا في يد واحد منهم».

من ناحيته، أوضح سعيد، الذي يملك سوبر ماركت قرب ساحة العاصي ويقدم المياه المعدنية والمرطبات للمتظاهرين مجانا، أن «لمدينة حماه أسبابا إضافية للتظاهر ضد النظام، فعدا عن الحرية التي يطالب بها جميع السوريين هناك جرح قديم لم يندمل بعد». وقال: «أخي دخل السجن في أحداث الثمانينات واتهمه النظام بأنه منتسب إلى تنظيم الإخوان المسلمين علما بأنه لا علاقة له بهم، وأمضى ستة عشر عاما ليخرج بعدها مريضا نفسيا، إضافة إلى العاهات الجسدية التي يعاني منها بسبب التعذيب». وأضاف: «هناك ما بين عشرين وأربعين ألف ضحية قتلهم النظام في أحداث الثمانينات، إضافة إلى فقدان نحو 15 ألفا لا يزال مصير عدد كبير منهم مجهولا حتى الآن، وهذه الأرواح لا بد من أن تتظاهر معنا وتهتف ضد من قتلها».

وكان النظام السوري في عام 1982، وضمن سياق صراعه مع تنظيم الإخوان المسلمين، شن حملة عنيفة ضد مدينة حماه، أودت بحياة عشرات الآلاف من أهالي المدينة، بعد أن طوق النظام السوري المدينة وقصفها بالمدفعية ومن ثم اجتياحها عسكريا، وارتكاب مجزرة مروعة كان ضحيتها عشرات الآلاف من المدنيين من أهالي المدينة.

ويستبعد سعيد أن يكون بين المتظاهرين في مدينة حماه أي نزعات انتقامية أو ثأرية، إذ إن الأهالي «يريدون معرفة مصير أبنائهم الذين اختفوا في الثمانينات ومحاسبة من قتلهم، لكنهم لا يبحثون عن الثأر، وتحديدا بمعناها الطائفي. وقد أصدر سكان المدينة بيانا خاطبوا فيه أهالي القرى المجاورة الذين ينتمون بمعظمهم إلى الطائفة العلوية، مؤكدين أننا دعاة سلم ولسنا دعاة انتقام ونريد أن نطمئنكم».

وينتقد هذا الناشط بشدة تسمية إحدى الصحف اللبنانية المحسوبة على النظام السوري لمدينة حماه بقندهار، في إشارة إلى التطرف الديني المنتشر بين أهلها، مؤكدا أن سكان المدينة «محافظون بالمعنى الاجتماعي والديني، لكنهم ليسوا متطرفين عنفيين». وذكر أن «أحداث الثمانينات وتمركز جماعة الإخوان المسلمين في المدينة كانت لها ظروفها وسياقاتها، ولا يمكن أن نشخص الوضع في المدينة في الوقت الحالي بناء على تلك المرحلة». وخلص إلى أن «حماه تخرج الآن وتتظاهر بشكل سلمي ضد النظام الحاكم وتطالب بحقوقها بشكل حضاري، وهذا ما أظهرته صورة النصف المليون التي يتم التقاطها كل يوم جمعة عبر هواتف المنتفضين».