أهل «كفر المصيلحة» لـ «الشرق الأوسط»: من أخطأ فليأخذ جزاءه.. لكن الإعدام عقوبة قاسية

انقسمت حول مصير ابنها «حسني مبارك» عشية محاكمته غدا

TT

في هذا الشارع جرت خطواته الأولى، وفي هذه المدرسة تلقى بدايات العلم والمعرفة، وبالأمس القريب كان له «شنة ورنة» في أماسي القرية، التي أصبحت تبحث الآن عن مرثية لابنها البار، حيث فوجئوا بعرشه ينهار بعد ثلاثة عقود جلس فيها على حكم مصر.

«الشرق الأوسط» قطعت 75 كم إلى الشمال من القاهرة، باتجاه دلتا النيل، إلى مسقط رأس الرئيس المصري السابق حسني مبارك (كفر المصيلحة)، حيث تخبرك اللوحة الإرشادية بشرق مدينة شبين الكوم عاصمة محافظة المنوفية، بعد أن تقطع بداية طريق «مبارك» وميدان «سوزان مبارك».

بمجرد تنحي مبارك في 11 فبراير (شباط) الماضي؛ والقرية أصبحت مقصدا للمراسلين ووكالات الأنباء العالمية، التي تحاول تقصي طبيعة رحلة مبارك إلى الحكم. لكن ماذا عن القرية اليوم وابنها سيحاكم صباح غد (الأربعاء) مع نجليه بتهمة قتل متظاهري ثورة «25 يناير» التي أطاحت بنظامه؟

عند وصولك إلى القرية، ستجد أن معالم المدنية قد أصابتها، كحال كافة القرى المصرية، قد تظن أن ذلك التحول كونها مسقط رأس الرئيس السابق الذي ولد بها في عام 1928، لكن بحديثك مع أول فرد من أهل القرية ستدرك أن «القرية التي هجرها مبارك منذ عقود طويلة، ناسيا أو متناسيا جذوره بها، لم تعطه حبها هي الأخرى».

حلمي أبو غالية، أحد مواطني القرية، سنوات عمره التي تقترب من الخامسة والسبعين جعلتنا نسأله عن مبارك الشاب، ليجيب: «كنا في جهة وهو في جهة، ولم يكن له أصدقاء». أما عما ينتظر مبارك اليوم فيقول: «من أخطأ فليأخذ جزاءه، ولكني لست مع سجنه، ويكفي صدور حكم مع إيقاف تنفيذه».

عند التجول في مسقط رأس الرئيس السابق، ستطالعك صورة مبارك الرخامية على أحد جدران «نادي كفر المصيلحة الرياضي» الذي كان يحمل قبل أشهر قليلة اسم «نادي حسني مبارك»، أما قاعاته فكانت تحمل أسماء نجليه وزوجته وحفيده الراحل محمد علاء مبارك.

هاني حمدي، عضو جديد بمجلس إدارة النادي بعد أن تم حل المجلس القديم التابع لفلول النظام السابق، يقول: «تم تغيير اسم النادي بعد الثورة، واقترحنا اسم الحرية بديلا لكن حمل في النهاية اسم القرية، لكن واجهة النادي لا تزال تحمل صورة رخامية لمبارك، لم نستطع إزالتها لصعوبة ذلك، لكن هناك متبرعين من أهل القرية أبدوا رغبتهم في إزالتها على نفقتهم الشخصية، بعدما فشلت فكرة تغطيتها بعلم مصر».

أما هذه المدرسة، التي بنيت بمنحة صينية، فكانت تسمى «مدرسة حسني مبارك للغات»، وتم تسميتها باسم «مدرسة مصر الحرة» بعدما أصدر محافظ المنوفية قرارا بإزالة اسم الرئيس السابق من عليها.

على مقربة من المدرسة تسكن الحاجة فتحية مبارك، ابنة عم الرئيس السابق، لم نستطع مقابلتها بسبب شيخوختها، فهي تماثل ابن عمها في العمر (83 عاما)، لكن ما ينقله لنا أحفادها أنها تعلم أن محمد حسني السيد مبارك «اترّحل عن الحكم»، وعندما يكون باستطاعتها الكلام تتأسف على سجنه ولا تريده أن يشنق.

يخبرنا أحد الشباب بالقرية أنه مع اقتراب محاكمة مبارك ونجليه علاء وجمال ورجل الأعمال (الهارب) حسين سالم ووزير الداخلية الأسبق حبيب العادلي و6 من كبار معاونيه ومساعديه، فإن شباب القرية يختلفون حول الأحكام التي يجب أن تصدر بحقهم، فهناك من يرى أن ابن قريتهم «مالوش ذنب في اللي حصل» وأنه ضحية أبنائه وزوجته، وسجنه أو عقوبته بالإعدام هو نكران للجميل بعد أن خدم مصر طويلا عسكريا ومدنيا.

من بين هؤلاء سيد عبد العزيز، الذي يمتلك محلا ملاصقا لمنزل عائلة مبارك القديم يمارس فيه مهنة الكي، حيث يرفض محاكمة الرئيس السابق، وبرأيه أن «هذا الرجل لا يجب أن يحاكم، فقد حكمنا 30 سنة، جنّب مصر خلالها حروبا وأزمات متتالية، وإذا كانت لديه أموال يجب أن تعاد للدولة، ويعيش هو على مبلغ مالي (معاش) يخصص له».

على العكس؛ هناك إمام أحد مساجد القرية، الذي يطلب في كل خطبة له يلقيها يوم الجمعة بأن يحاكم مبارك ورجاله بأشد العقاب، يقول كلماته ثم يتجه بعدها قاصدا «مليونيات» ميدان التحرير، تاركا نقاشا ساخنا بين مواطني القرية، الذين يتحلقون في حلقات بعد الصلاة يناقشون فيها مصير مبارك.

من مواطني القرية يخبرنا حمدي الحناوي، وهو ضابط فني سابق بالقوات المسلحة المصرية، يعرف نفسه بأنه عاصر مبارك عندما كان الأخير مديرا للكلية الجوية، ويقول: «وقتها كان شريفا وحازما وملتزما لأبعد الحدود، لكن تغير الحال بعد الرئاسة بسبب الزبانية من حوله»، مضيفا أن «مبارك يجب أن يمثل للمحاكمة مثل أي مواطن مصري، والقضاء من يقرر إن كان بريئا أو متهما» وبرأيه أن عقوبة الإعدام ستكون قاسية لأن مبارك في النهاية رمز من رموز مصر.

ثمة شعور يمكن ملاحظته بوضوح بين مؤيدي ومعارضي مبارك بكفر المصيلحة على السواء، فجميعهم يحملون لوما كبيرا وألما لتجاهل الرئيس السابق لقريتهم، وعدم ذكره لها وتجاهله أن له جذورا بها، حتى إن آخر زيارة له كانت قبل توليه حكم مصر، بخلاف سابقه الرئيس محمد أنور السادات الذي كان مرتبطا بقريته «ميت أبو الكوم» في ذات المحافظة ويفخر بانتمائه إليها وكان يتردد عليها بشكل منتظم.

يقول مصطفى، أحد شباب القرية: «في عام 2005 عندما جاء الرئيس مبارك لعاصمة المحافظة شبين الكوم وأعلن وقتها أنه سيرشح نفسه للرئاسة مرة أخرى وطلب تعديل الدستور، لم يقم بزيارة قريتنا وتجاهلنا، رغم ما تردد عن زيارته لها وهو في طريقه، وهو ما جعل مسؤولي المحافظة يقومون برصف جميع الطرق بها وتزيين شوارعها.. ونحن اليوم نتجاهله، ولا نريد أن تنسب القرية إليه، بل لا نريد أن يدفن بها بعد موته».

يوافقه الرأي صديقه محمد فريد، الذي يزيد بقوله إن المحافظة كلها وليست القرية فقط لا تريد أن ينسب مبارك إليها، مشيرا إلى الدعوى القضائية التي أقامها محاميان من أبناء المحافظة ضد الرئيس السابق، يطالبانه فيها بتعويض 50 مليون جنيه (نحو 9 ملايين دولار) لتشويهه صورة أبناء المنوفية لأنه سبب لهم الخزي والعار، مطالبا بدفع مبارك لهذا المبلغ مثلما يحاكم بعد ساعات.

على النقيض من تلك المواقف، تستوقفك في القرية كلمات أهلها التي تفتخر أنها أنجبت عبد العزيز باشا فهمي، الذي يعد أبرز الشخصيات السياسية في تاريخ مصر الحديث، حيث انضم إلى الزعيم سعد زغلول في حركته الوطنية وكان عضوا بحزب الوفد. ففي القرية ستجد قصره وعددا من المدارس والمؤسسات الخيرية تحمل اسمه.

ويقول محمد عطية مروان، 72 عاما: «من ساعة ما مبارك ساب القرية لم يعرفها ولم يقدم لها خدمة واحدة، دي بلد عبد العزيز باشا فهمي مش بلد حسني مبارك».

بينما تخبرنا السيدة فتحية أن «مبارك كان صعبان علينا شيخوخته وقت تنحيه، لكنه فقد كل تعاطفنا بعدما علمنا بحجم السرقة والفساد الذي كانت فيه مصر».