محمود البوسيفي لـ «الشرق الأوسط»: القذافي كان يخشى الإعلام القوي ويعتبره خطرا عليه

نقيب الصحافيين الليبيين: العقيد هدد بتعليقي على عمود عندما لم يكن راضيا عن سياسة صحيفة «أويا»

TT

كشف محمود البوسيفي، نقيب الصحافيين الليبيين، لـ«الشرق الأوسط»، النقاب عن أن القذافي هدده ذات مرة بتعليقه على عمود على خلفية استياء العقيد من سياسة صحيفة «أويا» التي كان البوسيفي يترأس تحريرها، وتصدرها شركة «الغد» للخدمات الإعلامية المحسوبة على سيف الإسلام القذافي.

وقال البوسيفي في حديث هو الأول من نوعه منذ هروب العقيد القذافي من معقله الحصين في باب العزيزية في طرابلس، إنه اختفى عن الأنظار في طرابلس بعد تعرضه لتهديدات علنية ومباشرة من القذافي ونظامه ووسائل إعلامه الرسمية، التي قال إنها فقدت علاقتها تماما بالشعب الليبي منذ عام 1973.

ولفت البوسيفي، في حديث أدلى به لـ«الشرق الأوسط» عبر الهاتف من طرابلس، إلى أن القذافي كان يعتبر الشعب الليبي عبئا على كاهله، لذلك حاول تهجيره إلى العالم العربي وإلى أفريقيا، مشيرا إلى أن القذافي كان مصابا منذ سنوات طويلة بوباء البارانويا ولا يرى في الأفق سوى ذاته، وأن مسلسل القتل بدأ معه مبكرا ضد رفاقه، وضد الطلاب، وكل صوت يقول لا. وأكد أنه طيلة سنوات حكم القذافي الـ42 لم تكن هناك مطلقا أي حرية للإعلام أو الصحافة، معتبرا أن العقيد رفض وجود إعلام قوي لأنه يعتقد أنه يشكل خطرا على نظامه.

وأوضح البوسيفي الذي عمل في السابق عن قرب مع سيف الإسلام القذافي، أنه خدع في البداية فيه، وتوهم أنه كان صادقا، قبل أن يكتشف أنه مجرد نسخة كربونية من أبيه، مشيرا إلى أنه كان يستخف هو الآخر بالليبيين وقدراتهم.. وهذا نص الحوار..

* أين كنت منذ اندلاع ثورة 17 فبراير (شباط)؟

- كنت في طرابلس. في 13 فبراير الماضي اجتمعت لجنة التنسيق الإعلامي العليا والتي تضم جميع المسؤولين بالأجهزة الإعلامية برئاسة أمين (وزير) الاتصال الخارجي، موسى كوسا، لمناقشة كيفية معالجة الإعلام لما هو متوقع حدوثه في السابع عشر من فبراير، وبعد نقاش طويل تم الاتفاق على ضرورة الالتزام بالتعاطي بشفافية كاملة مع ما يحدث تجنبا للجوء المتلقي في ليبيا لوسائل الإعلام الأخرى. وتم تسليم الرأي للسيد عمار الطيف، أمين (وزير) السياحة، الذي كان مقررا ورئيسا بعد ذلك للجنة، لعرضه على القذافي. اندلعت شرارة الثورة في 15 فبراير بحشد تجمع في بنغازي للإفراج عن المحامي فتحي تربل، محامي أسر ضحايا معتقل أبو سليم، ومرت أيام والشهداء يتساقطون في بنغازي والبيضاء ودرنة والشحات والمرج، والتلفزيون الليبي لا يبث سوى أغان وأناشيد، ووكالة الجماهيرية للأنباء (المصدر الإخباري المعتمد والوحيد) صامتة على ما يجري. تساءلنا بحرقة وكان الصمت هو الإجابة الوحيدة. التقينا في الإذاعة مرات كثيرة وهناك علمنا أن القذافي سيفتتح في السابع عشر من الشهر المقر الجديد للنادي الأهلي، ولعله سيتحدث عن الأمر. ظهر في المناسبة الكرنفالية وتحدث عن الكرة التي كان يكرهها قبل عشق ابنه الساعدي لها، وتحدث عن النوادي الليبية العملاقة.. ولم يشر بحرف واحد إلى ما يحدث في مناطق الشرق التي بدأت تتحرر من سطوته. ظل التلفزيون والوكالة معتمدين لغة الصمت لمدة خمسة أيام كاملة. وفى لقاء بمقر الإذاعة تساءلت بحرقة عن أسباب الصمت.. كان الحضور أمين المؤسسة العامة للثقافة ومدير الإذاعة ومديرة الوكالة ومدير «صوت أفريقيا» وأمين الهيئة العامة للصحافة، وموسى إبراهيم الذي كان يشغل موقع أمين مؤسسة الإعلام الجماهيري، وكذلك عمار الطيف أمين السياحة، ومصطفى الزائدي، المسؤول باللجان الثورية. وسألني الزائدي عن رأيي فقلت له لا بد من الحديث عما يجري ولا بد من أخبار حقيقية وبيان مسؤول يوضح ويشرح وبشفافية، كما اتفقنا في اللجنة العليا للتنسيق الإعلامي. هنا همست لي مديرة الوكالة بأن عمار الطيف لم يعرض مقترحنا.. فطلب مني الزائدي إعداد مقترح البيان فقمت وجلست في مكتب آخر وأعددت بيانا استهجنه ورفضه كاملا، وقال «هذا لا نقوله نحن»، فخرجت ولم أعد لهذه الاجتماعات.

* هل كنت تتوقع كل ما جرى بعد ثورتي مصر وتونس؟

- كل الليبيين كانوا ينتظرون ولا يتوقعون. الفارق الوحيد ربما أنهم توقعوا أن ثورتهم ستكون غير مسلحة، وأن الضحايا سيكونون كثيرين.

* لماذا كان نظام القذافي يقاتل شعبه؟

- القذافي كان يعتبر الشعب الليبي عبئا على كاهله، لذلك حاول تهجيره إلى العالم العربي وإلى أفريقيا. كان يلجأ إليه فقط للديكور الكرنفالي الذي يستحوذ على خياله المريض. القذافي كان مصابا منذ سنوات طويلة بوباء البارانويا ولا يرى في الأفق سوى ذاته. ومسلسل القتل بدأ معه مبكرا ضد رفاقه، وضد الطلاب، وكل صوت يقول لا.

* باستثناء صور لك بصحبة الخويلدي صهر القذافي، اختفيت عن الساحة.. كيف ولماذا؟

- كنت موجودا في الهيئة العامة للصحافة وحاولت مع أصدقاء من المثقفين والحقوقيين، أو من تبقى منهم، تقديم مبادرات لتجنب وقف نزيف الدم الليبي، وصلت في واحدة منها للمطالبة بالدعوة إلى تشكيل مجلس من 21 شخصا من خارج إدارة الدولة يتولون صياغة دستور وإدارة البلاد لمرحلة انتقالية يقرر فيها الشعب خياراته في شكل الحكومة، ولكن لا حياة لمن تنادي. وقررت مع آخرين العمل على تقديم المساعدات، على قدر الإمكان، للثوار المتخفين وتسهيل خروج بعضهم وتقديم العون والإيواء لبعضهم بعضا. تعرضت أثناء ذلك لحروب كثيرة يعرفها الزملاء في الإعلام الليبي بظهور تكتل داخل الهيئة بإسناد من بعض المسؤولين يتهمني بعدم وضوح الموقف، وأنني استقبل المعارضين وأساعدهم. ووزع منشور داخل الهيئة يتهمني بالهروب خارج البلد. ووصل الأمر إلى تقديم مذكرة موقعة من أكثر من خمسين اسما بذلك إلى أمين اللجنة الشعبية العامة (رئيس الوزراء)، وأمين مؤتمر الشعب العام (رئيس البرلمان)، وأمينة الرقابة الشعبية الثورية المتشددة هدى بن عامر. وخصصت المذيعة هالة المصراتي حلقة كاملة من برنامجها للهجوم علي للأسباب ذاتها، وكذلك فعل المذيع حمزة التهامي في جزء كبير من إحدى حلقات برنامجه. كنت في قبضة الخوف على أسرتي وإخوتي، خاصة أن شقيقي عميد في الجيش، رفض التكليف بالحرب في مصراتة واختفى بمساعدتي وبمعاونة أصدقاء من الثوار.

* كيف تعامل الإعلام الرسمي في تقديرك مع الثورة؟

- الإعلام الليبي ظل معلبا منذ 1973، وفقد علاقته بالناس تماما، وتعامله مع الثورة ظل في خانة التغييب.

* دعنا نتحدث عن حقبة القذافي: هل كانت هناك صحف وحرية إعلام ورأي؟

- أي حرية؟ أنا حاولت في مطلع عقد التسعينات من القرن الماضي عندما أصبحت نقيبا للصحافيين إصدار صحيفة مختلفة، صدر منها عدد يتيم وصدر قرار إغلاقها من القذافي شخصيا. صدرت «الصحافة» في 8 فبراير 1992، وأغلقت في اليوم التالي مباشرة. وحاولت أثناء رئاستي لتحرير مجلة «المؤتمر» تخطى الحواجز فتلقيت تحذيرا واضحا من اللجان الثورية. كان الإعلام الليبي قبل انقلاب القذافي مميزا في المنطقة العربية، وبعدها أدخل غرفة العناية المركزة، إلى أن اندلعت الثورة في السابع عشر من فبراير.

* لماذا أخفقت ليبيا وهي دولة نفط في إنتاج إعلام قوي ومنافس؟

- كان القذافي رافضا لوجود إعلام قوي.. نقل عنه أحدهم ذات مرة قوله إن الإعلام القوي يشكل خطرا على نظامه، ونقل عنه أيضا أن الإعلام المصري القوي في عهد الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر انقلب ضده. كان يريد إعلاما يسبح بحمده وحده فقط لا غير. كان ينفق على تلميع صورته في الخارج ويستخف تماما بالإعلام الليبي. أخبرني الصديق طلال سلمان ذات لقاء أنه سأل القذافي عن عدم دعمه للصحافيين الليبيين فقال له «لا يوجد لدينا صحافيون ولا صحافة».

* هل صحيح أن القذافي كان الصحافي الأوحد في ليبيا؟

- كان الأوحد في كل شيء. لكن ولله الحمد تجنبت تماما أثناء ولايتي لرابطة الصحافيين أن أقدم له أي مذكرة أو بطاقة رقم شخص أو أي شيء آخر. ولأنني كنت أطالب دائما بضرورة وجود قانون للصحافة يستجيب لمتطلبات العصر وضرورة انتقال التنظيم المهني للصحافيين من خانة الروابط إلى فضاء النقابة التي تدافع عن الحقوق، لم تقدم لي الدولة درهما واحدا لدورتين كاملتين، ولم يكن لنا مقر أو أي ميزة على الإطلاق. وبعد خروجي من الرابطة بتعليمات مباشرة من أحمد إبراهيم منحت الرابطة مقرا قيمته مليون دينار.

* فهمت أن القذافي يتدخل بنفسه فيما تقوله الصحف. أعطنا أمثلة؟

- إن ما يطلق عليه «القلم» وهو مكتب القذافي الذي يدير من خلاله الدولة هو الذي يتصل بجهازين إعلاميين هما وكالة الأنباء، وهى المصدر الرسمي والوحيد للأخبار، وكذلك بالهيئة العامة للإذاعة فيما يتعلق بالنشرات وخلافه. كان يتدخل حتى في الأغاني وقيافة المذيعين. كان هناك في باب العزيزية مفتاح يستطيع من خلاله التدخل لقطع الإرسال التلفزيوني وبث مواد أخرى، وأحيانا كان يضع على الشاشة فردة حذاء مقلوبة تظل في وجه المشاهدين لمدة يحكمها المزاج. كانت الصحف تتلقى التوجيهات عبر أمانة (وزارة) الإعلام أو عن طريق الوكالة. وكانت صحيفة «الزحف الأخضر» وأحيانا صحيفة «الشمس» تنشران أحيانا مقالات موقعة بأسماء غير معروفة يتم بثها في الإذاعات، وهنا يعرف الجميع أنها منه.

* هل صحيح أن القذافي كان يكتب مقالات ويوقعها بأسماء آخرين؟ - القذافي لم يكن يميل كثيرا للكتابة. هو مولع بالأضواء وتروقه الثرثرة أكثر أمام العدسات وهو هنا من النوع الاستعراضي الذي يستهويه سرد المعلومات العامة وكأنها من بنات أفكاره، يسوقها متناثرة في حديثه متوهما أنه يبهر المشاهدين والمستمعين. ومن المفارقات أنه كان يكره الفضائيات والإنترنت لأنهما خلقا خيارات أمام الليبيين، وفتحا لهم نوافذ المعرفة التي كانت مغلقة.

* ما مستقبل الإعلام والصحافة ما بعد القذافي؟

- أترقب أن يستعيدا عافيتهما وأن ينطلقا في رحابة الحرية المسؤولة والإبداع، وأن يقوما بدورهما التنويري والمراقب لأداء الأجهزة التنفيذية وإنفاق المال العام.

* أنت كنت قريبا من سيف الإسلام.. كيف ولماذا ومتى تحول وأصبح عنيفا ضد الشعب؟

- لم أكن قريبا.. كنت كغيري من الكفاءات التي حاول استخدامها. ولا أخفي أنني توهمت في البداية أنه صادق. التقيته مرتين أدركت بعدهما أنه مجرد نسخة كربونية عن أبيه. كان يستخف هو الآخر بالليبيين وقدراتهم.. العنف طبيعة هذه العائلة.

* وأين تعتقد مكان القذافي وأسرته؟

- لا أعرف مكانه بكل تأكيد، وما يتردد أنه ما زال موجودا بليبيا وأتمنى من كل قلبي أن يتم القبض عليه وتقديمه للمحاكمة التي أثق مسبقا أن حكمها سيكون عادلا. لا خيارات لديه. الشعب امتلك البلد واستعاد الكرامة، ولا منفذ أمام الطاغية سوى الاستسلام أو اللجوء للفرار الذي لن يستمر طويلا.

* هل لديه خيارات؟

- في أحد اللقاءات بالرئيس المصري السابق حسني مبارك مع الاتحاد العام للصحافيين العرب وأثناء تقديمي له مع النقيب إبراهيم نافع سألني «كيف أحوال العقيد؟» فقلت له بخير. فقال «سلم لي عليه»، فحبكت النكتة وقلت له على الفور وأمام الجميع «أنت يا ريس لما تشوفه سلم لي عليه». لم ألتق به إلا مرة واحدة في رمضان 2009، وبعد تحقيق طويل معي من قبل اللجان الثورية (كنت رئيسا لتحرير صحيفة «أويا») تم استدعائي في صباح اليوم التالي لمقابلته، وبعد انتظار لأكثر من خمس ساعات استقبلني ومعي رمضان البريكي، وبعد حوار قصير هددني بتعليقي على عمود كان ينتصب خلفه، وقال وهو يشرع سبابته في وجهي «أنت تلعب في لعبة خطيرة، ولن ينقذك مني أحد».. فكيف كان بوسعي أن أهتف عاليا شكرا ثوار 17 فبراير؟.. عاشت ليبيا حرة أبية كريمة عزيزة، لا بد للثورة المباركة ثورة السابع عشر من فبراير أن تنتصر بالأخلاق حتى يكون المناوئ لها بلا أخلاق.

* هل تخشى على مستقبل البلاد بعد سقوط القذافي؟

- لا بد من تجنب استنطاق النموذج العراقي وتقديم الدرس في معالجة الأمر حتى يدرك الليبيون كم كانوا يعيشون في دهاليز العتمة والظلم وغياب الحرية والكرامة والعزة. لا بد للثورة الكبرى التي حققها شعبنا العظيم أن تعطي النموذج لكل مضامين الحق والعدالة.