الوضع المعيشي للسكان شمال لبنان يتراجع بعد توقف التجارة و«التهريب» مع سوريا

«السوق الذهبية» الحدودية تعاني.. ومتاجرها مغلقة إلى إشعار آخر

TT

خلت البقيعة، التي تعتبر «السوق الذهبية» للمنطقة الحدودية في شمال لبنان، من زوارها وتجارها؛ إذ إن ارتدادات الأحداث في سوريا المجاورة حولتها طريقا مقفرة تحدها من الجهتين مئات المتاجر المغلقة حتى إشعار آخر.

ويقول راتب العلي، وهو تاجر لبناني في العقد الرابع، لوكالة الصحافة الفرنسية: «قبل اندلاع الثورة (السورية) كانت هذه السوق من أنشط الأسواق التجارية في المنطقة وربما في لبنان. ففيها نحو أربعة آلاف متجر تشكل خلية نحل بين لبنان وسوريا».

ويضيف أمام متجره الكبير المطل على مساحة حرجية خلابة: «لم يكن أحد عاطلا عن العمل. كان الكل يعمل في التجارة بين البلدين: شراء وبيع ونقل وعمولات (...) أما الآن (...) فقد توقف كل ذلك».

وتأثر قضاء عكار الشمالي الذي تقع ضمنه منطقة وادي خالد حيث بلدة البقيعة، إلى حد بعيد بالاضطرابات في سوريا منذ منتصف مارس (آذار) الماضي.

فسكان القضاء الأكثر فقرا في لبنان يعتمدون إلى حد بعيد في معيشتهم اليومية على التبادل التجاري والخدماتي، ومعظمه غير شرعي، بين لبنان وسوريا.

وتربط طرفي الحدود في المنطقة عشرات المعابر الترابية غير الرسمية التي تشكل الشرايين الحيوية للحركة الاقتصادية فيها؛ إذ درج السكان على استخدامها لتهريب السلع الغذائية والنفطية والسجائر ومواد التنظيف وغيرها، بينما تغض سلطات البلدين النظر عنهم. لكن عمليات التهريب توقفت بعد إحكام القوات السورية سيطرتها على هذه المعابر قبل أشهر، مع تصاعد العنف على أراضيها.

ويوضح راتب العلي الذي كان يعتزم فتح متجر كبير قبل اندلاع الأحداث السورية: «كانت حركة السلع تجري بعلم سلطات البلدين وإن كانت لا تمر عبر الجمارك». وشدد على أنها كانت «تشكل مصدر عيش لأهل المنطقة، لكنها تراجعت الآن بنسبة 90 في المائة».

على مقربة من معبر جسر البقيعة غير الرسمي، جلس محمد حمادة أمام دكانه الواقع على بعد أمتار من النهر الكبير الفاصل بين الأراضي اللبنانية والسورية، في انتظار زبائنه الذين يقتصرون حاليا على جيرانه القلائل.

ويقول الرجل الأربعيني: «كان زبائني خصوصا من العمال السوريين الذين يفدون إلى لبنان. كان يمر في المنطقة نحو ألفي عامل يوميا يشترون القهوة والمرطبات والمياه والبسكويت..».

ويضيف وهو ينظر إلى المنازل في الجهة المقابلة من النهر وبالقرب منها جنود سوريون يقومون بدوريات: «كان دكاني كافيا لإعالة أطفالي الثلاثة عشر، لكنه اليوم لا يدر أكثر من خمسة آلاف ليرة يوميا (ثلاثة دولارات) من بيع زجاجة مياه من هنا وعلبة سجائر من هناك».

ويتابع محمد الذي يعمل الآن في بلدية مجاورة خلال فترة قبل الظهر لتأمين قوت عياله: «كان العمال السوريون يعبرون النهر بجانبي هنا. الآن لم يعد أحد يجرؤ على العبور خوفا من تعرضه لإطلاق نار» من القوات السورية التي تقول إنها تتصدى لعمليات تهريب أسلحة عبر الحدود. كما تفيد تقارير أن القوات السورية تقوم بعمليات تمشيط منتظمة على الحدود لمنع هروب معارضين أو منشقين من الجيش.

في الوقت نفسه، تراجعت الحركة عبر المنافذ الرسمية بين البلدين.

وعلى مقربة من معبر جسر قمار الرسمي القريب من جسر البقيعة، يقول عامر الذي يعمل صرافا: «انخفضت حركة تصريف العملات بنسبة 80% بعد بدء الانتفاضة السورية، سواء عندي أو في المحلات المجاورة». ويضيف في محله الصغير الخالي إلا من خزنة للنقود ورفوف لبيع السجائر: «كنت أبادل يوميا ما يوازي خمسة ملايين ليرة سورية (105 آلاف دولار). أما اليوم فبالكاد يصل المبلغ إلى 400 ألف» ليرة. كذلك، بات سكان وادي خالد مضطرين لشراء السلع اللبنانية المرتفعة الثمن بسبب غياب السلع السورية المماثلة من أسواقهم.

ويقول مختار بلدة «مشتى حمود»، علي رمضان إن «المواد الاستهلاكية الآتية من سوريا أقل ثمنا من كثير من السلع اللبنانية. فقارورة الغاز مثلا ثمنها في لبنان بين 20 و25 ألف ليرة لبنانية (نحو 15 دولارا). أما قارورة الغاز في تلكلخ فسعرها لا يتعدى 12 ألفا (ثمانية دولارات)». وتتداخل في وادي خالد الأراضي الحدودية السورية واللبنانية حيث يتم التداول بعملتي البلدين بشكل عادي وهناك الكثير من العائلات المرتبطة بفعل القربى والمصاهرة.

كما أن اللبنانيين يجدون سهولة أكبر في ارتياد المدن السورية القريبة للتبضع والتنزه وأحيانا للتعليم بأسعار متدنية، بدلا من أن يقصدوا المدن اللبنانية التي تبعد جغرافيا أكثر. ويوضح مختار «مشتى حمود» المحاذية لبلدات العريضة والبهلونية وتلكلخ في سوريا أن «السكان كانوا يشترون ملابسهم أيضا من سوريا لا سيما قبل الأعياد لأنها أقل ثمنا»، مشيرا إلى أن «سوق تلكلخ يبعد مسافة عشر دقائق فقط بالسيارة من هنا».

ويشير رمضان إلى وجود «مشكلة إضافية تتمثل في أن الكثيرين من تلاميذ المدارس في منطقتي العريضة والمشيرفة الحدوديتين في لبنان يدرسون في مدارس سورية»، ويقول «هؤلاء خسروا عاما دراسيا من دون شك».

وتتفاقم الأوضاع المعيشية نتيجة اضطرار عدد كبير من سكان وادي خالد إلى استضافة عائلات نازحة من سوريا.

ويقول المختار إن «الناس على طرفي الحدود أبناء عم تربطهم علاقات قربى ومصاهرة وجوار، إضافة إلى العادات العشائرية العربية، مما يجعلهم يتقاسمون ما لديهم دون تذمر. لكن الوضع صعب في ظل البطالة والركود».