بلدات الحدود السورية ـ اللبنانية: التوتر محل الألفة وحسن الجوار

لبنانيون عن «خروقات» الجيش السوري: حكومتنا لم تحرك ساكنا.. ترى أين السيادة؟

جانب من معبر جوسية بين الحدود السورية - اللبنانية وقد تراجعت حركة النقل فيه أثر اندلاع الاضطرابات في سوريا (أ.ف.ب)
TT

حتى أيام قليلة مضت، كان معبر جوسية الرسمي، الذي يربط بلدة القاع في أقصى شرق لبنان بالأراضي السورية، يشهد حركة ذهاب وإياب لا تهدأ: سوريون يعبرون يوميا من أجل العمل، ولبنانيون يقصدون القرى المقابلة للتبضع والطبابة، لكن التوتر حل فجأة محل الألفة وحسن الجوار.

ويقول مختار القاع منصور سعد لوكالة الصحافة الفرنسية: «هناك خوف وقلق بين أبناء البلدة. فقد تتجدد حوادث إطلاق النار في أي لحظة، في حال فر مسلحون مثلا من الجانب الآخر إلى هنا».

وكان المختار يشير إلى مقتل سوريين اثنين في 18 أكتوبر (تشرين الأول) خلال ملاحقة أمنية توغل خلالها الجيش السوري عشرات الأمتار في «مشاريع القاع»، المنطقة الزراعية في البلدة، مطلقا النار عشوائيا ومتسببا في حالة من الذعر بين السكان، ويضيف: «طالبنا الجيش اللبناني بتعزيز وجوده في المحيط، وبإقامة مراكز ثابتة على الحدود الشاسعة الهشة الخالية من أي وجود أمني».

في إحدى هذه المناطق المتداخلة التي يفصل بينها سور لا يتجاوز ارتفاعه المتر هنا أو ساتر ترابي هناك أو ساقية ضيقة، سقط أحمد أبو جبل السوري الجنسية برصاص جنود سوريين.

وبينما ذكرت وسائل الإعلام السورية أنه كان يهرب السلاح، يروي أحد أقربائه، رافضا الكشف عن هويته، أنه «كان يحاول إنقاذ شقيقه الذي اعتقله جنود سوريون، فأطلقوا النار عليه». وقد قتل شقيقه في وقت لاحق.

ويوضح الشاب (27 عاما) أن منزل أحمد أبو جبل «يقع على السور، بابه الخلفي يفتح على بلدة جوسية السورية، وبابه الأمامي في الأرض اللبنانية».

ويشير عادل (35 عاما)، وهو تاجر لبناني، إلى آثار رصاصتين في منزله في حي البياضة الذي دخله السوريون، موضحا أنه عاد من عمله في ذلك اليوم ليجد أن أفراد عائلته وجيرانه فروا إلى قرية مجاورة «بسبب الذعر الذي أصابهم»، ويضيف أن «عددا كبيرا من النساء والأطفال لم يبيتوا في منازلهم في الحي منذ الحادث. يأتون إليها نهارا، ويغادرونها في الليل».

وينتمي سكان القاع الأصليون بغالبيتهم إلى طائفة الروم الكاثوليك المسيحية، ويشكون من استقرار آلاف السوريين المجنسين والعائلات السنية اللبنانية في منطقة المشاريع خلال سنوات الحرب الأهلية (1975 - 1990) بشكل غير قانوني، بحسب قولهم.

ومعظم المقيمين في مشاريع القاع من البدو ومن أصل سوري حصلوا على الجنسية اللبنانية في مرسوم مثير للجدل صدر في 1994 خلال فترة النفوذ السوري الواسع في لبنان، وهؤلاء مناهضون بمعظمهم اليوم للنظام في بلدهم الأم.

ويؤكد سكان القاع أن السوريين في المراكز الأمنية في الجهة المقابلة، الذين يعرفون عددا كبيرا منهم بالاسم بحكم سنوات الجيرة الطويلة، صاروا يتصرفون بعصبية بالغة منذ فترة، ويمنعون الصحافيين من التقاط الصور.

ويقول علي وهو يفتح بوابة حديدية تطل على باحة تنتهي ببوابة أخرى تفتح على الأراضي السورية، مما يسهل عمليات تهريب السلع على أنواعها والمواشي بين البلدين: «نحن نعيش منذ سنوات وكأننا في بلد واحد». ثم يدعو جنديا سوريا لارتشاف القهوة، فيجتاز الجندي الحدود الواهية، وهي عبارة عن كومة من التراب في المكان، ويجالس الجيران، مبديا قلقه من التطورات المتسارعة في بلاده.

وشجع التراخي الأمني خلال السنوات الثلاثين الماضية حركة التهريب عبر معابر ترابية غير شرعية منتشرة في محيط معبر جوسية تسلكها شاحنات صغيرة أو سيارات، وخصوصا دراجات نارية.

بعد الحادث الأخير، أغلق السوريون المعبر الرسمي، وشددوا الرقابة على التهريب.

وكانت القوات السورية شددت كذلك منذ منتصف يوليو (تموز) التدابير الأمنية على حدودها مع شمال لبنان بحجة منع فرار الجنود وتهريب السلاح.

وتمتد الحدود اللبنانية السورية على مسافة 330 كيلومترا، وهي غير مضبوطة تماما، كما أن فيها نقاطا كثيرة لم يتم ترسيمها منذ الاستقلال، عام 1943.

ويوضح المختار سعد أن «حركة العبور بين البلدين تراجعت إلى أقصى حد»، مشيرا إلى أن اللبنانيين اعتادوا الذهاب إلى سوريا للتبضع.. «كل الأسعار هناك متدنية، من المونة ومواد التنظيف والمازوت والبنزين حتى الخبز. وإلى هناك يذهبون لمعالجة أسنانهم وللطبابة.. أو حتى للسهر».

ولجأ قسم كبير من العمال السوريين الذين يعملون في المشاريع الزراعية، إلى القاع خلال الأيام الأخيرة، بعد أن أصبح العبور اليومي، سواء عبر المعبر الرسمي أو المعابر الأخرى، مهمة شاقة.

ولقيت «الخروقات السورية» شجبا من الأمين العام للأمم المتحدة، بان كي مون، في حين اكتفت الحكومة اللبنانية المؤلفة من أكثرية موالية لدمشق، بالقول إن المسألة تبحث بين مسؤولي البلدين.

وعلى بعد عشرة كيلومترات من القاع، يجاهر سكان عرسال، القرية الحدودية الأخرى التي شهدت عمليات توغل وإطلاق نار تسببت بمقتل المواطن السوري علي الخطيب، المتزوج من لبنانية، في حقله الزراعي في جرود عرسال، بمعاداتهم للنظام السوري.

على عكس القاع، الحدود هنا بعيدة أكثر من عشرين كيلومترا عن المنطقة السكنية. ويقول مختار عرسال محمد الحجيري: «البلدة في حرب مفتوحة مع النظام السوري منذ 2005»، تاريخ اغتيال رئيس الحكومة السابق رفيق الحريري. ووجهت أصابع الاتهام آنذاك في الجريمة إلى سوريا، الأمر الذي نفته دمشق باستمرار. وأعقب اغتيال الحريري خروج الجيش السوري من لبنان بضغط من المجتمع الدولي والشارع، بعد وجود استمر ثلاثين عاما. ويستغرب المختار موقف الحكومة. «لم يحركوا ساكنا.. أين السيادة؟ إذا استمرت الخروقات، فسنضطر للدفاع عن أنفسنا ضمن إمكاناتنا، ولو بالحجارة».

ويقول خالد الحجيري (28 عاما) بينما سيارته تشق طريقها بصعوبة في طريق جبلي وعر على ارتفاع نحو 2600 متر، إلى أقرب نقطة تمكن مشاهدة مركز عسكري سوري منها: «قبل بدء الأحداث في سوريا كنا نأتي للصيد هنا، ونمر بمحاذاة الجنود». اليوم يحرص على وقف سيارته في منحنى على بعد ثلاثة كيلومترات من المركز «حتى لا يرونا، فهم يطلقون النار على كل ما يتحرك. الله يخلصنا من الظالمين».