عشائر سوريا بدأت بالتململ.. وشيوخها يقمعون الشباب بالقوة

يشكلون أكثر من 60% من السكان.. وولاؤهم سر بقاء النظام

صورة من موقع «شام» السوري المعارض على الإنترنت لمظاهرة لطلاب وطالبات طيبة الإمام بحماه (أوغاريت)
TT

«نار تخبو تحت رماد في المناطق السورية الشمالية الشرقية، لا بل ومختلف المحافظات ذات الطابع العشائري التي لا تزال هادئة، ولم تنخرط في الثورة. فمن محافظة دير الزور والحسكة شرقا مرورا بالرقة وصولا إلى حلب، لا انتفاضة بالمعنى الحقيقي للكلمة؛ وإن خرجت بعض المظاهرات هنا وهناك كما حصل في دير الزور، فإنها سرعان ما تخبو»، هذا ما يؤكده شباب من عشائر سورية كبيرة ووازنة لجأوا مؤخرا إلى لبنان. هذا لا يعني أن العشائر غير معنية بالثورة، لكن النظام السوري لا يزال يمسك بزمام الأمور في هذه المناطق بسبب تحالفه المتين مع رؤساء العشائر الذين يمارسون ضغطا كبيرا بفعل نفوذهم على أبناء عشائرهم، ويردعونهم عن أي تحرك. ويشرح لـ«الشرق الأوسط» شباب سوريون من أبناء هذه العشائر: «إن الوضع بات متوترا بين الشباب المعارضين الراغبين في الالتحاق بالثورة وشيوخ عشائرهم الذين يؤيدون النظام، مما يتسبب في خلافات شديدة داخل العشيرة الواحدة». عبد الرحمن عدوان ترك الحسكة هربا، بعد أن عرف عنه نشاطه المعارض، وهو من عشيرة كبيرة في سوريا لها امتداد واسع في الأردن وصولا إلى منطقة الخليج العربي. ويؤكد عدوان أن «النظام أفلح إلى الآن في تحييد العشائر التي تشكل نسبة أكثر من 60 في المائة من سكان سوريا بسبب المغريات والرشى التي يقدمها النظام لشيوخ هذه العشائر». ويشرح عدوان أن «المبالغ التي دفعت لهم مع بداية الثورة تبدأ من 150 ألف دولار لتصل إلى 250 ألفا للشيخ الواحد، وقد تزيد، وكل يقدر المبلغ الذي يدفع له بحسب حجم عشيرته، فثمة عشائر تبلغ ما يقارب مليوني شخص، مثل عشيرة البقارة الموجودة بشكل أساسي في حلب، وهناك عشائر لا تبلغ أكثر من آلاف قليلة». «المبالغ قليلة»، يضيف عدوان، «لكن الحقيقة أن هذه المناطق التي تعتبر من أغنى المحافظات السورية على الإطلاق وفيها البترول والخصب الزراعي، تعمد النظام أن يفقرها ويجهلها ليسهل عليه حكم أهلها. وهو ما نجح فيه بشكل واضح».

العشائر العربية الموجودة بشكل أساسي في المناطق الشرقية أو ما يعرف بالجزيرة، استمالها تقليديا النظام، للإمساك بالوضع هناك، وللوقوف في وجه أكراد سوريا بحكم وجودهم الجغرافي معهم، من جهة أخرى. وقد لعبت القبائل العربية دورا حاسما ضد الأكراد عندما ثاروا عام 2004. ويقول كادار بيري، أحد مؤسسي «حركة حرية كردستان» والناطق الرسمي باسمها، لـ«الشرق الأوسط»: «إن النظام سلح شيوخ العشائر، ورشاهم بالعطايا والخدمات منذ عام 2004 ليقفوا في وجه الانتفاضة الكردية، وها هو يستخدمهم الآن، ليردعوا أفراد عشيرتهم نفسها، ويقمعوهم كي لا يشاركوا في الثورة». ويقول بيري: «إن رشوة شيوخ العشائر ليست بالأمر الجديد، وأنا أتحدث عن منطقتي وما رأيته بأم عيني. فشيوخ عشائر طي، تمت مكافأتهم عام 2004 بأن أصبح الشيخ محمد الفارسي عضوا في مجلس الشعب، وقدمت له كهدية سيارة (مرسيدس 500) كان يتباهى بها في المنطقة، تحمل رقما يعود إلى القصر الرئاسي. هذه الرشى لشيوخ القبائل لا تزال هي السياسة التي يتبعها النظام، ولهذا استطاع حتى هذه اللحظة تحييد عدد كبير من السوريين العرب بسبب إلزام شيوخ عشائرهم لهم، بعدم المشاركة في الثورة». ويضيف بيري: «عدد شباب العشائر الذين يتمردون يتزايد، ويشارك بعض من هرب منهم إلى لبنان في المظاهرات التي ننظمها أمام السفارة السورية في بيروت، وهؤلاء يتحدثون عن تململ كبير، مما يفرضه الشيوخ على باقي أفراد العشيرة».

عبد الرحمن عدوان يقول: «لا تزال القيم والتقاليد العشائرية مما يتوجب احترامه، وهو ما يلعب على أوتاره النظام. فشيخ العشيرة مسموع الكلمة، وقيمته المعنوية كبيرة، وبالتالي فإن موقفه من السلطة الحاكمة يقيدنا بشكل كبير، والآباء باتوا يضغطون على أولادهم، ولو عن غير اقتناع، كي يلتزموا بما يقوله الكبار، لذلك فإن تحركات شباب العشائر، تبقى في غالبيتها سرية وغير معلنة».

يرى عدوان أن هذا الواقع لا يدفع فقط الشباب إلى التمرد على كبارهم «وهو ما ليس من شيمنا»، لكنه أيضا بات يتسبب في اشتباكات بين أفراد القبيلة الواحدة؛ ففي دير الزور قتل 12 شخصا منذ نحو الشهرين، لأن هناك بينهم من يؤيد النظام وآخرون يتظاهرون ويثورون. «لقد حول النظام السوري شيوخ العشائر والمتحلقين حولهم إلى (شبيحة) مسلحين يستقوون على أفراد عشيرتهم، ويفرضون عليهم بالقوة ما لا يستطيعونه بسلطتهم التقليدية».

وضع يزداد صعوبة، ويشعر شباب العشائر بشيء من المرارة، وهو ما يدفع بالعديد منهم إلى الحديث عن رغبتهم في التسلح. وهم يقولون: «إن السلاح موجود، لكنه بيد من تحالف مع السلطة ويؤدي لها الخدمات».

درعا العشائرية حتى النخاع هي الاستثناء. والانفجار الدموي الذي شهدته، ما كان ليحدث لولا الأخطاء الجسيمة التي ارتكبها مسؤول الأمن السياسي عاطف نجيب، والتي مست كرامة العشائر وأخرجتهم عن طورهم. يشرح لنا شباب من هناك أنه عندما تم اعتقال الأطفال، وصادف أنهم من قبائل مختلفة، زار وفد له وزنه ووجاهته عاطف نجيب ليحل معه المشكلة. وكنوع من الالتزام على الطريقة العربية، وضع أحد هؤلاء عقاله على الطاولة. فما كان من نجيب إلا أن طلب من أحد أعوانه وضع عقال الرجل الذي له قيمته في قبيلته، في سلة المهلات، وبادر الوفد بكلمات نابية. هذا الاستهتار بالقيم القبائلية، وسوء معاملة الوجهاء، هو الذي أشعل مجزرة في درعا. ودون هذه الحادثة لربما كان ينطبق اليوم على درعا ما نراه في القامشلي والحسكة وحلب. ففي حلب نحو 7 ملايين نسمة، هؤلاء لا يشاركون في الثورة بسبب مصالحهم التجارية من ناحية، ولكن بسبب الوضع القبلي بشكل خاص.

شباب العشائر المعارضون مقتنعون أن النظام له سلطته ونفوذه على المناطق الساحلية، أما المناطق الداخلية فاعتماده فيها على ولاء العشائر، وبما أن هؤلاء باتوا ممسوكين فقط بكلمة رئيس العشيرة، هم حوله، فإن الرهان الحقيقي، اليوم، هو على إقناع هؤلاء الشيوخ بأن النظام لن يدوم لهم، وعليهم أن يغيروا مواقفهم، قبل فوات الأوان. كادار بيري يرى أن الأمر سيتغير بشكل تلقائي، مع ازدياد الحصار على النظام، ويقول: «عندما تشح الموارد، ولا تكون هناك أموال لرشوة شيوخ العشائر والقبائل فإن هؤلاء لن يبقوا على مواقفهم الحالية». ويضيف بيري: «ليس أمامنا سوى الاستمرار في الثورة، والوقت كفيل بتغيير الأمور وقلب المعادلة».

يتحدث الشباب عن سطوة شيوخهم على أنها السر الذي يوقف النظام على قدميه إلى اليوم، رغم الضربات التي يتلقاها. فهؤلاء مسؤولون حاليا عن تأمين أكثر من نصف سوريا دون أن يحمل الأمن هذا العبء الثقيل. وتشكل العشائر بهذا المعنى حزاما واقيا للسلطة، بحكم امتدادها ووجودها على طول الحدود التركية شمالا والعراقية شرقا مع سوريا. ويتساءل الشبان ماذا لو غير نخب عشيرة البقارة التي تضم مليوني نسمة موقفهم، أو وجهاء عشيرة الفواعرة التي هي من كبريات قبائل حمص؟ وماذا لو كان لشيوخ عشيرة العقيدات التي تضم مليون شخص على الأقل، وتعد من أشرس العشائر، موقف مناهض للنظام. المعادلة ستتغير كليا لصالح الثوار، يؤكد هؤلاء الشبان، لكن من يمكنه إقناع شيوخ العشائر أن النظام باق اليوم بفضلهم، وبمقدورهم أن يتخلوا عنه دون خوف.