الخوف والقلق يلفان دمشق رغم الهدوء الظاهري.. وأغلب سكانها يخشون المصير المجهول

يخافون حربا طائفية أو وصول الإسلاميين للسلطة.. ودبلوماسي غربي: على المعارضة إقناعهم بأن بقاءهم في ظل النظام أسوأ

TT

لدى حكومة الرئيس السوري بشار الأسد ثقة في أنها قد نجت من أسوأ فترة في الاضطرابات التي تجتاح سوريا، وأنها ستتمكن قريبا من التغلب على أي تحديات أخرى يمكن أن تحول دون بقائها.

ولكن الأمر الذي يظل محل تساؤل هو هل هناك ما يبرر تلك الثقة أو ما إذا كان هناك كثيرون ممن يشاركون الحكومة الرأي نفسه، لأنه حتى في الوقت الذي تتفاخر فيه الحكومة بتغلبها على الانتفاضة، التي تعيش شهرها الثامن، بدأ الاقتصاد في الانهيار، والاحتجاجات مستمرة في أجزاء عديدة من البلاد، وهناك بوادر عصيان مسلح.

وفي شوارع العاصمة دمشق، حيث لم تتمكن الانتفاضة من كسب مؤيدين لها، وحيث يستطيع الأسد الاعتماد على دعم كبير من مؤيديه، وعلى المظهر الخارجي لوجود حياة طبيعية في المدينة، تخفي الشوارع المزدحمة والمقاهي المكتظة بالرواد تيارا تحتيا من عدم الثقة والخوف من المصير الذي تتجه إليه البلاد.

وقد بينت الزيارة النادرة التي سمحت بها السلطات لصحافية غربية إلى سوريا، تحت رقابة حكومية شديدة، أن الأسد وحلفاءه لا يبدون فقط غير معرضين لأي خطر وشيك الوقوع، ولكنهم أيضا لا يشعرون بأي ضغوط لتقديم تنازلات لأولئك الذين كانوا ينزلون إلى الشوارع طوال الأشهر الماضية للدعوة لتغيير جذري.

وبدلا من ذلك، فإن الحكومة تروج لمجموعة من التغييرات المحدودة التي تترك السلطة القائمة في الدولة سليمة كما هي، في الوقت الذي تركز فيه على سحق ما تبقى من حركة الاحتجاج بالقوة. وعلى الرغم من فشل نهج «الأمن أولا» هذا في منع اندلاع المظاهرات مرارا وتكرارا في كثير من أنحاء البلاد، فإنه على ما يبدو قد قلص حجمها ونطاقها.

وقال نائب وزير الخارجية فيصل المقداد: «إن القيادة السورية واثقة جدا وقوية جدا، ونحن على يقين من أنه على الرغم من كل الحملات الدولية ضد سوريا، فإننا سنتمكن من البقاء. إن سوريا بلد آمن.. وسوف تكون أقوى بعد هذه الأزمة، سوف تكون سوريا جديدة؛ فقط أعطونا بعض الوقت، وستولد سوريا من جديد».

ويسخر الدبلوماسيون الغربيون من خطة الحكومة لإجراء تغييرات، ومقترحاتها للحوار مع مجموعة منتقاة من الشخصيات المتوسطة الأهمية في المعارضة، الذين لا يحظون سوى بدعم قليل في الشوارع، ولكن الحكومة تقول إن جذور ثقتها تمتد إلى ما هو أعمق من مجرد التبجح.

وقد فشلت الاحتجاجات التي استمرت لما يقرب من ثمانية أشهر في تخفيف قبضة عائلة الأسد على السلطة، حيث لم يحدث أي انشقاق كبير في الجيش أو الحكومة، وعلى الرغم من أن الولايات المتحدة دعت هي والاتحاد الأوروبي الأسد إلى التنحي، فإن استخدام الصين وروسيا حق «الفيتو» في الأمم المتحدة قد منع خلق جبهة موحدة ضد سوريا مثل تلك التي ساعدت على إسقاط نظام معمر القذافي في ليبيا.

ولأن سوريا تقع في قلب شبكة متداخلة من النزاعات الإقليمية والعرقية والطائفية بين السنة والشيعة والأكراد والعرب والإسرائيليين، فإن الحكومة لديها قناعة تامة بأن الغرب لن يجرؤ على التدخل عسكريا، كما فعل في ليبيا، على الرغم من المناشدات اليائسة له بالتدخل من قبل الحركة الاحتجاجية.

وقال بسام أبو عبد الله، وهو أستاذ الشؤون الدولية في جامعة دمشق، وعضو في حزب البعث الحاكم: «سوريا لديها جيش قوي، وسوريا ليست وحدها؛ فمهاجمة سوريا تعني اندلاع حرب إقليمية، لأننا سوف نهاجم إسرائيل بشكل مباشر، بمشاركة حزب الله وإيران، وهذا لن يكون في مصلحة أوروبا وأميركا».

وقال وضاح عبد ربه، رئيس تحرير صحيفة «الوطن» التي تديرها الدولة، إن المزاج العام في العاصمة قد تحول بشكل ملموس مع مرور الأشهر، وأضاف قائلا: «لقد حدثت حالة من الذعر عندما بدأت الانتفاضة، حيث كانت شوارع دمشق خالية من المارة، وكان الناس خائفين، أما الآن، فإن الحكومة باتت تسبق المظاهرات بخطوتين، ولذا بإمكان المرء أن يشعر أنها قد أصبحت أكثر ثقة بنفسها».

وقد أطلقت الحكومة، على سبيل المثال، حشودا ضخمة من مؤيديها في الشوارع مرتين خلال الأيام الـ10 الماضية لتنظيم مجموعة من المظاهرات الحاشدة، التي طغت حتى الآن على أي من المظاهرات الحاشدة التي نظمتها المعارضة في العاصمة.

وعلى الرغم من أن نشطاء المعارضة ينتقدون هذه المظاهرات بشدة ويقولون إنها تمت بالإكراه، إلا أنه يبدو أن الأسد يتمتع بدرجة كبيرة من الدعم الحقيقي من نخبة الطبقة المتوسطة ونخبة الطبقة العليا في المدينة، الذين يرون الانتفاضة باعتبارها ثورة قام بها سكان المحافظات والفقراء.

وقال الوكيل العقاري علاء راجي (37 عاما)، بينما يتسوق في شارع الشعلان الراقي من أجل شراء بعض البدلات، إنه كان يؤيد في البداية مطالب الإصلاح، ولكنه غير رأيه عندما بدأ المتظاهرون في المطالبة بإسقاط الرئيس، وهو الآن يسخر من المتظاهرين باعتبارهم أدوات للعملاء الأجانب والمتطرفين الإسلاميين، حيث قال بفخر، وهو يعرض صورا لنفسه على هاتفه الجوال من طراز «آي فون» وقد لف نفسه في علم يحمل صورة الأسد، أثناء حضوره مسيرة مؤيدة للحكومة نظمت في الآونة الأخيرة: «لا أراهم شجعانا، كما أنني لا أحترمهم، ولا يهمنى أن يقتلوا. إن هؤلاء الناس يريدون التغيير، ولكنهم لا يعرفون ما يعنيه، وإذا اتبعناهم، فإن سوريا قد تنحدر إلى مصير أسوأ تسوده الفوضى والتدخل الأجنبي مثلما حدث في ليبيا والعراق».

وقد ساعد صعود الإسلاميين في تونس ومصر عبر ثورتيهما اللتين ألهمتا الثورات والانتفاضة السورية، جنبا إلى جنب مع مشاهد الدماء والدمار في ليبيا وشبح المسيحيين الذين يقتلون في شوارع القاهرة، على تعزيز حجة الحكومة، حيث يقول أنصار الأسد إن المتطرفين السنة هم من يقود المظاهرات في سوريا، وإنهم قد يسحقون العلمانية المدعومة من قبل نظام الأسد، مما قد يشكل تهديدا للأقليات الطائفية من المسيحيين والعلويين في البلاد.

كما أدى فشل المعارضة السورية في تشكيل جبهة موحدة ووضع رؤية واضحة لمستقبل البلاد في مرحلة ما بعد الأسد في بقاء أغلبية السوريين، الذين لم ينضموا إلى الاحتجاجات ولم يدعموا الحكومة، صامتين، كما يقول الدبلوماسيون الغربيون. حيث قال أحد الدبلوماسيين، الذي تحدث بشرط عدم الكشف عن هويته: «النظام لدية خطة، وهذا يمكن أن يكون جيدا بما فيه الكفاية لكثير من الناس الذين لا يريدون سوى الاستقرار، وبالتالي، فإن ما يتعين على المعارضة القيام به هو إقناعهم بأن الوضع الراهن في ظل النظام الحالي أسوأ من التحول الذي قد يحدث».

ولكن، مع ذلك، ما زال هناك العديد من الناس الذين يشككون في ما إذا كانت خطة الحكومة ستكون كافية لتحقيق الاستقرار في البلاد، حتى لو نجحت قوات الأمن في سحق الانتفاضة. وقد تم اعتقال الآلاف من الناس، الذين كان من ضمنهم العديد من المنظمين الرئيسيين للاحتجاجات، واضطر العشرات من الناشطين إلى الفرار، ولكن الاحتجاجات التي وقعت خارج دمشق قد أثبتت أنه لا يمكن كبتها، على الرغم من الارتفاع اليومي المستمر في عدد القتلى، الذي تجاوز 3000 قتيل بالفعل، وفقا لتقديرات الأمم المتحدة، الأمر الذي خلق موجة جديدة من الاستياء، وأسبابا جديدة للنزول إلى الشوارع.

مظاهرات يوم الجمعة الماضي المطالبة بفرض منطقة حظر للطيران في سوريا راح ضحيتها 40 شخصا؛ نصفهم قتلوا في مدينة حمص المضطربة، بحسب لجان التنسيق المحلية، المجموعة التي تنظم وتراقب المظاهرات.

وقال أحد الصحافيين الدمشقيين، الذي طلب عدم ذكر اسمه بسبب حساسية الموضوع: «الحكومة تحقق انتصارات، لكن ذلك ليس بالقدر الكبير. لا نزال صامدين، والمشكلة أن هناك كراهية كبيرة في البلاد الآن».

وعلى الرغم من عدم تحديد الغالبية العظمى للشعب السوري ولاءاتها، فإنني لا أسميها الأغلبية الصامتة، بل هي الأغلبية الخائفة. إنهم يخافون من كل شيء.. خائفون من الحاضر وخائفون من المستقبل الذي لا يعلمونه. نطاق المظاهرات محدود الآن لأن الجيش موجود، لكن ماذا سيحدث عندما يبعد الجيش؟ خلال الزيارة التي نظمت في ظل رقابة حكومية إلى حي الميدان الذي تسكنه الطبقة العاملة والمحافظة، مزق هدوء ظهيرة أحد الأيام صوت المسيرات التي أدت إلى إغلاق المتاجر مع تعالي الأصوات. كانت جنازة قتيل في صفوف المعارضة (جندي انشق في حمص) وصاحبت الجنازة مظاهرة مناوئة للحكومة.

كان مئات الشباب الذين يسيرون في المظاهرة يصيحون «الله أكبر»، وهم يسيرون في الشارع الضيق نحو المقبرة، عندئذ، وبقوة كبيرة، ارتفعت الهتافات لما تحول إلى الهتاف الرئيسي لحركة المظاهرات في جميع أنحاء البلاد «الشعب يريد إعدام الرئيس».

كان الغضب والحماسة والتصميم واضحا، مما يشير إلى أن هؤلاء الشباب، الذين نزلوا إلى الشوارع بصورة منتظمة منذ مارس (آذار) الماضي، لن يوقفوا مساعيهم لإسقاط النظام خلال الفترة المقبلة.

على بعد مسافة قصيرة وعالم مختلف، جلس مجموعة من الطلاب من عائلات مميزة يناقشون السياسات وهم يدخنون السجائر ويرشفون القهوة بالحليب في مقهى في مركز «شام» التجاري الجذاب.. كان أربعة منهم يدعمون الحكومة بدرجات متفاوتة، وبقي الخامس، الذي قدم نفسه باسم بسام، صامتا حتى سئل عن آرائه، وقال: «أنا أدعم المتظاهرين وأرغب في تحد كامل، بما في ذلك الرئيس»، مشيرا إلى أنه شارك في المظاهرات. وقد تحولت نبرة المناقشة فجأة. فصرخت مريم، إحدى هؤلاء، وهي تركل بسام من تحت الطاولة: «لا أحد يمس رئيسي، وسوف أقاتل من أجله كما يقاتلون ضده».

أجاب بسام بهدوء أنه مستعد للموت من أجل التغيير، قائلا: «حياتي ليست أغلى من حياة أولئك الذين ذهبوا من قبل». تحقق الأصدقاء من ساعاتهم، وقالوا إن الوقت قد حان للذهاب. ودع بعضهم بعضا وتفرقوا في الشوارع المظلمة كل في طريق منفصل.

* خدمة «واشنطن بوست» خاص بـ«الشرق الأوسط»