تعقد خيوط قضية التمويل الأجنبي يهدد بـ«قطيعة» بين واشنطن والقاهرة

برلمانيون أميركيون: دعم الكونغرس لمصر بات في خطر.. والجنزوري: لن نغير موقفنا بسبب المساعدات

مستشارا التحقيق في قضية التمويل الأجنبي أثناء مؤتمر صحافي أمس بوزارة العدل (أ.ب)
TT

فيما يشي بمزيد من التعقيد في مسألة التوتر الناشب بين القاهرة وواشنطن على خلفية الملاحقات القضائية الأخيرة لناشطين في جمعيات أجنبية تعمل في مصر، من بينهم رعايا أميركيين.. حذر ثلاثة أعضاء في مجلس الشيوخ الأميركي مصر من أن خطر حصول قطيعة «كارثية» بين البلدين نادرا ما كان بهذا الحجم، فيما أكد رئيس الوزراء المصري أمس أن مصر ستطبق القانون في قضية المنظمات غير الحكومية، ولن تتراجع بسبب المساعدات أو غير ذلك من الأسباب.

وفي تعبير عن مشاعر الغضب التي عمت مجلس الشيوخ بأعضائه الجمهوريين والديمقراطيين، حذر الجمهوريان جون ماكين وكيلي إيوت والمستقل جو ليبرمان مساء أول من أمس، من أن «دعم الكونغرس لمصر خصوصا لجهة المساعدة المالية بات في خطر».

وأضاف أعضاء مجلس الشيوخ في بيان أن «الأزمة الحالية مع الحكومة المصرية وصلت إلى مستوى بات يهدد صداقتنا المستمرة منذ زمن طويل»، وأن «هناك خصوما (لم يسمهم) داخل الحكومة المصرية للولايات المتحدة وللصداقة بينها وبين مصر؛ وهم يؤججون التوتر ويثيرون الرأي العام لأهداف سياسية ضيقة».. مشيرا إلى أن «قطع العلاقات ستترتب عليه نتائج كارثية؛ ومثل هذا الخطر نادرا ما كان بمثل هذا الحجم». وتوترت العلاقات بين الولايات المتحدة والمجلس العسكري الحاكم في مصر منذ أن أعلن مسؤول قضائي الأحد الماضي أن 44 شخصا، من بينهم 19 أميركيا وأجانب آخرون، سيحاكمون في قضية التمويل غير المشروع لجمعيات أهلية ناشطة في مصر.

وانتقد السيناتور الأميركي جون كيري، الرئيس النافذ للجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ الأميركي، الملاحقات، معتبرا أنها تشكل «صفعة للأميركيين الذي يدعمون مصر منذ عقود، وللمصريين والمنظمات غير الحكومية الذين يخاطرون بحياتهم من أجل تحقيق ديمقراطية أكبر في مصر». واتهم جهات لم يسمها بـ«ممارسة لعبة خطيرة تهدد الآفاق الديمقراطية في مصر والعلاقات الثنائية بينها وبين الولايات المتحدة».

وكذلك حذر السيناتور الجمهوري ليندسي غراهام من تعليق المساعدة الأميركية إلى مصر في حال الحكم بالسجن على الناشطين، وصرح غراهام لصحافيين قائلا: «أعتقد أن العواقب ستخرج عن السيطرة، إذا صدر حكم بالسجن على أي منهم».. ولدى سؤاله عما إذا كان ذلك يعني وقف المساعدة الأميركية إلى مصر، قال إن «ذلك محتمل بشكل كبير». مضيفا «الخط الأحمر بالنسبة إليّ هو السجن.. إذا اعتقل أي أميركي أو ناشط في منظمات غير حكومية، سواء قبل المحاكمة أو بعدها، فهذا برأيي إجراء غير متناسب».

كما حذرت كاي غرانجر، التي ترأس لجنة فرعية حول المخصصات الخارجية في مجلس النواب، من أنه «ما لم تؤكد وزارة الخارجية للشعب الأميركي أن هذه المسالة تم حلها، ليس من المفترض أن تحصل الحكومة المصرية على دولار واحد».

ولكن رئيس الوزراء المصري كمال الجنزوري، قال في مؤتمر صحافي أمس، إن مصر ستطبق القانون في قضية المنظمات غير الحكومية، ولن تتراجع بسبب المساعدات أو غير ذلك من الأسباب. كما أكد مصدر عسكري مصري مسؤول لـ«الشرق الأوسط» أن «قضية المنظمات الحقوقية والتمويل الأجنبي لها، شأن قضائي خاص بمصر وحدها». وقال المصدر العسكري: «نحن لن نقبل أي تدخل سواء من الولايات المتحدة أو غيرها في الشؤون الداخلية لمصر لأننا دولة مستقلة»، معربا عن اعتقاده «أن الولايات المتحدة الأميركية التي تدعو إلى الديمقراطية، لا تقبل أي تدخل خارجي في شؤون القضاء الأميركي».

وتابع المصدر: «على المنظمات الحقوقية أن تلتزم بالقانون المصري، ما دامت تعمل على أرض مصر»، وأضاف أن «التصريحات التي صرحت بها سوزان رايس، مندوبة الولايات المتحدة لدى الأمم المتحدة، والتهديدات التي قالتها حول المساعدات غير مقبولة»، موضحا أن «الشعب المصري عانى كثيرا؛ ولكنه لا يقبل التهديد من أحد، وقيادته لن تقبل أيضا مثل هذا الأسلوب في التعامل، وقد طلبنا من السفارة الأميركية في القاهرة تعقيبا على ما صرحت به رايس».

وحول زيارة رئيس هيئة الأركان الأميركية، مارتن ديمبسي، للقاهرة خلال الأيام المقبلة ولقائه بالمجلس العسكري (الحاكم)، قال المصدر العسكري إن «الزيارة تأتي في إطار التشاور الثنائي بين البلدين».

وبينما قالت الحكومة إن القضية تخضع لأحكام القضاء، وأن المنظمات ذات التمويل الأميركي والمنظمات غير الحكومية الأخرى يجري التحقيق معها لانتهاكها القوانين المصرية، بما في ذلك عدم التسجيل وتلقي أموال أجنبية بطريقة غير قانونية.. اتهم القضاء المصري الذي يحقق في القضية أمس هذه الجمعيات بممارسة نشاطات سياسية بطرق غير مشروعة في البلاد.

وقال القاضي سامح أبو زيد، في مؤتمر صحافي عقد في مقر وزارة العدل في القاهرة، إن «أول ما أثبتته التحقيقات أن المنظمات الأجنبية محل الاتهام في أمر الإحالة ليست جمعيات أهلية.. وما قامت به هذه المنظمات، من خلال الفروع التي قامت بفتحها وإدارتها على أرض مصر دون ترخيص من الحكومة، هو نشاط سياسي بحت لا صلة له بالعمل الأهلي»، موضحا: «أكدت معلومات وتحريات الأمن الوطني والقومي أن التمويل الأجنبي لهذه المنظمات اتخذ بعدا جديدا عقب أحداث ثورة 25 يناير، تهدف من خلاله بعض الجهات الأجنبية إلى محاولة التأثير من خلال توجيه العملية السياسية في مصر».

ولفت أبو زيد إلى أن «جهاز الأمن القومي والوطني في مصر قد رفض مرارا قبل ذلك الموافقة على تسجيل وترخيص لفروع هذه المنظمات للعمل في مصر، ومع ذلك قامت هذه المنظمات بفتح فروع لها وكثفت نشاطها».

وبادرت السفارة الأميركية بالقاهرة بإصدار «ملف حقائق» عن منظمات المجتمع المدني، على خلفية الأحداث، متضمنا رؤية الولايات المتحدة لدور المنظمات الأهلية المدنية غير الحكومية، باعتبارها ركنا أساسيا لتحقيق الديمقراطية. وقال الملف إنه انطلاقا من هذه الرؤية التي تؤمن بها أميركا، فإنها تقوم بمساعدة عدد كبير من المنظمات التي تعمل على تمكين الأفراد من تحقيق آمالهم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، ومن خلال تنظيم أنفسهم بكل حرية وبدون قيود.

وجاء في الملف أن القوانين في الولايات المتحدة تعمل على تحقيق هذه الأغراض، وبما لا يمس مطلقا بحرية عمل منظمات المجتمع المدني، ونوه إلى أن المنظمات الأهلية في الولايات المتحدة متاح لها الحصول على التمويل الأجنبي، طالما أنها لا توجه لأنشطة ممنوعة مثل ارتكاب عمليات إرهابية.

وفي سياق متصل، يعتزم البرلمان الألماني (البوندستاج) الاحتجاج رسميا على تصرف السلطات المصرية ضد اثنين من العاملين الألمان في مؤسسة «كونراد أديناور» السياسية الألمانية بمصر، والمقربة من الحزب المسيحي الديمقراطي الذي تتزعمه المستشارة أنجيلا ميركل. ومن المقرر أن تقر الكتل البرلمانية للائتلاف الحاكم اليوم طلبا يدين الدعوى القضائية الموجهة ضد العاملين الألمان، وهم من بين المتهمين، حيث وصفت الكتل تلك الاتهامات بـ«الواهية».

لكنّ مسؤولين مصريين، معنيين بالاستراتيجية الدبلوماسية المصرية، يعتقدان من جانبهما أن «الحكام العسكريين يريدون تهدئة التوتر لضمان استمرار تدفق المساعدات والحصول على الدعم الأميركي، لضمان الخروج بشروط مواتية لقرض من صندوق النقد الدولي لمصر».

وقال أحد المسؤولين لوكالة «رويترز» للأنباء، مشترطا عدم الكشف عن اسمه: «سيرفع حظر السفر وسيتوقف التصعيد.. مصر تحتاج القروض وأموال صندوق النقد الدولي.. لكن من الضروري تحسين الشروط»، مشيرا إلى أن القادة العسكريين يعتقدون أن الحكومة الأميركية يمكنها مساعدة مصر في الحصول على تمويل من صندوق النقد بشروط تفضيلية. فيما قال الآخر إن إبرام اتفاق بشروط أيسر مع صندوق النقد الدولي واستمرار المساعدات العسكرية، من بين أولويات القادة العسكريين.

وكشف الخلاف أيضا عن توتر بين الكونغرس والمسؤولين الدفاعيين الذين يريدون حل النزاع بشأن المنظمات غير الحكومية دون تهديد العلاقات العسكرية القوية مع مصر. وقال مسؤول أميركي لـ«رويترز»: «نحن نشعر أن جانبا كبيرا من قضية المنظمات غير الحكومية في مصر له علاقة قوية بالشؤون السياسية الداخلية.. القيادة العسكرية المصرية تراقب هذا الاتجاه عن كثب ومن ثم ربما لا تريد التدخل بشكل متعجل».

وأضاف أن «ربط المسألة باستمرار المساعدات المالية الأميركية محتمل أيضا، لكن المساعدات الأميركية لم تكن حقا في خطر كبير أصلا، وعلى المصريين أن يعلموا أن قضية المنظمات غير الحكومية تسهل على منتقدي الحكومة المصرية الدعوة لوقف المساعدات؛ لا سيما في الكونغرس».

وقال المسؤولون إن الحكومة المصرية تعتقد أن العلاقات مع الولايات المتحدة يمكن أن تعود إلى طبيعتها سريعا، نظرا لوضعها كضامن لمعاهدة السلام مع إسرائيل.. كما قال مسؤول في وزارة الدفاع الأميركية إن العلاقات مع مصر «لها أهمية استراتيجية كبيرة بحيث لا يمكن قطعها»، وأن البنتاغون يؤيد «تسليما محكوما للسلطة إلى حكم مدني».

وقال مسؤولان مطلعان إن المشير محمد حسين طنطاوي رئيس المجلس الأعلى للقوات المسلحة تحدث هاتفيا مع الرئيس الأميركي باراك أوباما في 20 يناير (كانون الثاني) وبحث معه حاجات مصر من التمويل الأجنبي والحملة على المنظمات غير الحكومية. وأضافا أن أوباما أبلغ طنطاوي أنه لا سيطرة للولايات المتحدة على الاتفاق مع صندوق النقد أو القروض الأخرى؛ ورد طنطاوي بأنه لا سيطرة للمجلس العسكري على التحقيقات المصرية بخصوص المنظمات غير الحكومية.. وانتهت المكالمة الهاتفية بتبادل الوعود بإيجاد مجالات اتفاق، بحسب المسؤولين.

وفي غضون ذلك، دعت منظمة العفو الدولية يوم الثلاثاء إلى «التخلي عن محاكمات ترتكز على القوانين القمعية في مصر، والمتعلقة بتسجيل الجمعيات الأهلية والتمويل الخارجي». وقالت المنظمة، ومقرها لندن «يتوجب على السلطات المصرية إلغاء قانون من عصر مبارك استخدم لملاحقة المجتمع المدني، واعتماد قانون يضمن الحق في حرية التجمع». وأضافت حسيبة حاج صحراوي، مساعدة برنامج الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بالمنظمة: «هذه الجمعيات الدولية أصبحت كبش فداء جديدا».

بينما قالت صحيفة «واشنطن بوست» الأميركية إن مهندس عملية تقويض منظمات العمل الأهلي في مصر، هي وزيرة التعاون الدولي فايزة أبو النجا، ملمحة إلى أنها قد يكون لها دور في تصاعد المشكلة.. وأن الوزيرة أشرفت على ذلك العمل منذ عهد الرئيس السابق مبارك، الذي كان يحارب جهود تلك المنظمات. مما يدل، بحسب رأي السفير عبد الله الأشعل النائب السابق لوزير الخارجية والمرشح المحتمل للرئاسة في مصر، إلى أن مبارك ما زال يتحكم إلى حد ما في إدارة شؤون مصر، وأنه ما زال يعرقل جهود إقامة نظام جديد في تلك الدولة.

ودعم مسؤول أميركي، طالبا عدم ذكر اسمه للصحيفة، هذا الرأي قائلا: «كنا نظن أن أبو النجا ستختفي مع سقوط مبارك، ولكننا كنا مخطئين.. إنها أقوى مما تصورنا».. فيما علق أحد المقربين من أبو النجا قائلا «إنها تعرف كيف ترضي من هو في السلطة».

وأشارت الصحيفة إلى أن قيادات جماعة الإخوان المسلمين، التي سيطرت على البرلمان المصري في الانتخابات الأخيرة، أيدوا حملة تقويض منظمات العمل الأهلي، كما دعمها المجلس العسكري الحاكم. وقال الناشط الحقوقي حسام بهجت، المعارض لسياسات أبو النجا، إنه «يبدو أن أبو النجا أقنعت العسكر بأن تلك المنظمات كان لها دور في إشعال الغضب الشعبي الذي اجتاح مصر في الأشهر القليلة الماضية.. مما جعلهم يعتقدون في وجود مؤامرة دولية لإسقاطهم على غرار مبارك».