نشطاء: المبنى الذي قتل فيه الصحافيون بحمص كان مستهدفا ورصدته طائرات استطلاع سورية

11 صاروخا سقطت خلال دقيقتين على مبنى سكني واحد في حي بابا عمرو

TT

سقط 11 صاروخا خلال دقيقتين مرعبتين صباح يوم الأربعاء الماضي على مبنى سكني واحد في حي بابا عمرو بمدينة حمص السورية التي تحاصرها القوات الحكومية منذ 19 يوما.

وعندما توقف القصف، تدافع الناجون إلى سلم المبنى الضيق، أملا في الخروج إلى الشارع، ولكن سرعان ما استؤنف القصف مرة أخرى بصورة مفاجئة وسقطت عدة صواريخ أخرى تسببت في حدوث فتحات وتشققات في الجدران والسلالم، مخلفة وراءها العديد من القتلى والمصابين الذين يحتضرون بداية من الطابق الخامس وحتى الطابق الأرضي.

وقد تم انتشال 22 جثة على الأقل، بما في ذلك جثة الطفل محمد يحيى الويس الذي كان في السادسة من عمره، وفقا للروايات وأشرطة الفيديو التي جمعها الناشطون. وعلى سلم الطابق الأرضي الذي يقع على بعد عشرة أمتار من الباب ووسط الأنقاض، كانت هناك جثتا الصحافية والمراسلة الأميركية ماري كولفين والمصور الفرنسي ريمي أوشليك، واللذين كانا من بين الصحافيين القلائل الذين تمكنوا من الوصول لحمص متحملين بذلك مخاطر شخصية كبيرة ومتحدين الحكومة السورية المصممة على إخفاء حملتها القمعية عن أعين العالم. وفي النهاية، مات كل منهما وهو يحاول كشف النقاب عما يحدث هناك.

وفي الوقت الذي تتدفق فيه مئات مقاطع الفيديو التي توضح ما يحدث في حمص، لم يكن قصف هذا المبنى السكني سوى حلقة واحدة من سلسلة الهجمات التي يشنها الجيش السوري بشكل يومي ومستمر على المدينة مستخدما في ذلك الأسلحة الثقيلة التي تقوم بتدمير الأحياء المدنية التي لا تملك أية أدوات للدفاع عن النفس باستثناء بعض المنشقين عن الجيش وبعض النشطاء المسلحين بأسلحة خفيفة.

وقد تم توزيع فيديو على نطاق واسع يوم الأربعاء يظهر مجموعة من الرجال وهم مغطون ببطانيات ولا تقل جراحهم المروعة عن حالة الكرب والبؤس التي تسيطر على ملامح المتفرجين. وثمة فيديو آخر يظهر مجموعة من الأطباء يصرخون بسبب النقص الحاد في الإمدادات والأدوات التي تمكنهم من علاج الجرحى. وتعاني المباني من تشققات شديدة تجعلها تبدو على وشك الانهيار. وتقترن تلك المشاهد بأصوات غريبة لصرخات المواطنين التي تعكس حالة اليأس وأصوات الانفجارات وتعليقات الناشطين.

وقال رامي جراح، وهو المدير المشارك لرابطة أخبار النشطاء التي تتخذ من القاهرة مقرا لها وتقوم بجمع المعلومات من داخل سوريا وتوزيعها بعد ذلك: «هذه هي أول حرب على موقع يوتيوب».

وقد بدأت كولفين آخر مقال لها في صحيفة «صنداي تايمز» قبل أيام فقط من مصرعها بوصف ما سماه الثوار بـ«الطابق السفلي للأرامل»، وهو عبارة عن غرفة ضيقة تحت أحد المصانع تأوي النساء والأطفال في الوقت الذي يخرج فيه الرجال بحثا عن الطعام أو للمشاركة في الحرب، ولا يعود هؤلاء الرجال مرة أخرى في واقع الأمر.

وأضافت كولفين: «تعاني المدينة من مأساة إنسانية هائلة، حيث يعيش السكان في حالة من الرعب، ولا تكاد توجد أسرة واحدة لا تعاني من مصرع أو إصابة أحد أفرادها».

وقد صرح النشطاء من داخل سوريا بأن الجرحى لا يجدون أماكن لتلقي العلاج اللازم. ونقلت «سكايب» عن سامي إبراهيم، الذي يعمل بالشبكة السورية لحقوق الإنسان، قوله إنه قد تم تدمير مستشفى الحكمة من جراء قصف المدينة خلال الأيام الأولى للحصار، مشيرا إلى أنه قد تم تدمير عيادتين ميدانيتين كانتا تعملان في الخفاء في بعض المنازل.

وقد توقفت الأنشطة اليومية بشكل شبه كامل، مع ورود أنباء بإغلاق المدارس والمحلات التجارية، كما يتم انقطاع المياه والكهرباء معظم فترات اليوم. ولا يغامر الناس بالخروج من منازلهم إلا في حالات الضرورة القصوى، حسب تصريحات النشطاء، كما أن عملية انتشال الجثث أصبحت في غاية الخطورة بسبب القصف المستمر.

وقد أصبح مقتل الصحافيين الأجنبيين موضوعا آخر لمقاطع الفيديو المسجلة التي يتم إرسالها إلى العالم، حيث قال خالد أبو صلاح، وهو المتحدث باسم مجلس قيادة الثورة في حمص، وهو يتحدث أمام كاميرا أحد الهواتف الجوالة: «هذه هي الصحافية الأميركية ماري كولفين، وهذا هو الصحافي الفرنسي ريمي أوشليك»، وهو يشير إلى جثتيهما.

وقبل ثلاثة أيام، كانت كولفين قد نقلت أحد التصريحات لصلاح في مقال لها بالصحيفة، والآن تحول صلاح إلى «مواطن صحافي» ليقرأ خبر وفاتها. وفي غضون ساعة، سيتم نشر الفيديو على موقع «يوتيوب» ثم يتم تداوله في جميع أنحاء العالم. وقال صلاح بغضب وهو يهز سبابة يده السليمة أمام الكاميرا، بينما يضمد يده الأخرى التي أصيبت ببعض الشظايا جراء القصف: «لقد قتلا بسبب القصف العشوائي لحي بابا عمرو، وهذه دعوة لإنقاذ من تبقى من السكان الذين لا يزالون على قيد الحياة». وقد أنهى صلاح تقريره في 51 ثانية، ثم لاذ بالفرار خوفا من استئناف القصف.

وقد نجحت الحملة التي تشنها حكومة الرئيس بشار الأسد في إبعاد معظم الصحافيين الأجانب خارج سوريا منذ اندلاع الاحتجاجات في الخامس عشر من شهر مارس (آذار) الماضي. ومع ذلك، لم تنجح الحكومة السورية في منع وصول ما يحدث في سوريا إلى الخارج، حيث صرحت الأمم المتحدة بأنها قامت بتوثيق 5400 حالة وفاة اعتبارا من شهر يناير (كانون الثاني) الماضي عندما لم تكن قادرة على جمع المعلومات بشكل آمن. وتشير إحصاءات غير رسمية إلى أن مئات آخرين قد لقوا حتفهم في مدينة حمص خلال الأسابيع الثلاثة الماضية. وغالبا ما تكون روايات الناشطين هي النافذة الوحيدة على الأحداث داخل سوريا، على الرغم من أنها تعد مصادر غير مؤكدة.

وقال أبو جعفر، وهو ناشط من مدينة حمص والذي ساعد في انتشال الجثث من المبنى السكني، ثم قام بعد ذلك بتصوير ما يحدث ونشره على الإنترنت: «لقد قطع بشار الأسد الإنترنت وعزلنا عن العالم، ولذا حول كل سوري إلى صحافي».

وأجرى أبو جعفر وعدد من زملائه من النشطاء بعض المقابلات مع «سكايب» عن طريق جهاز كومبيوتر يعمل ببطارية سيارة، وذلك باستخدام مزود اتصالات دولية عبر الأقمار الاصطناعية يسمى «انمارسات» لتوفير شبكة «واي فاي» في ركن من المدينة. وقال نشطاء إنهم يجمعون الأموال من الخارج لدفع تكاليف الإرسال والوقت عبر الأقمار الصناعية.

وقد أكد أبو جعفر وغيره من الناشطين أن المبنى الذي قتلت به كولفين كان مستهدفا لأنه يضم المركز الإعلامي للناشطين، وأضافوا أن طائرات الاستطلاع السورية رصدت أجهزة الإرسال الفضائية التي كانت موجودة على سطح المبنى.

وقد تم العثور على القتلى داخل هذا المركز وحوله، في الوقت الذي كان يقوم فيه النشطاء بتحميل ملفات الفيديو عن كل شخص ويقومون بنشر التفاصيل عن الضحايا.

وفي القاهرة، صرحت رابطة أخبار النشطاء بأن بعض التقارير غير المؤكدة تشير إلى أنه قد تم العثور على 60 جثة داخل المبنى في وقت متأخر من يوم الأربعاء، وأنه قد تم نقل العديد من الجرحى إلى إحدى العيادات السرية.

وفي اليوم السابق، كانت الرابطة قد أعلنت عن وفاة 104 أشخاص في جميع أنحاء سوريا، من بينهم 46 شخصا على الأقل في مدينة حمص وحدها، وكان معظمهم في هذا المبنى. وقال جراح، وهو المدير المشارك للرابطة: «كان هذا يوما سيئا، ولكن كانت هناك أيام أسوأ من ذلك».

وتعد هذه الرابطة واحدة من ضمن عدة مجموعات تساعد الصحافيين المتطوعين في سوريا في الحصول على الأخبار وتجميع مقاطع الفيديو عن القتلى ونشر تلك المعلومات من خلال مواقع «تويتر» و«فيس بوك». ولا يقتصر عمل تلك المجموعات على مساعدة الصحافيين المتطوعين فحسب، ولكنه يساعد وسائل الإعلام الكبرى والشهيرة أيضا، حيث صرح جراح بأن 80 في المائة من مقاطع الفيديو التي تظهر أعمال العنف داخل سوريا والتي يتم بثها على وكالات الأنباء الكبرى مثل قناة «الجزيرة» وهيئة الإذاعة البريطانية، يتم تصويرها في الأساس عن طريق مجموعة من الهواة.

وكانت نتيجة هذا العمل توصيل صورة حية لما يحدث في سوريا بشكل مذهل، حيث ينجح هؤلاء الأفراد في توصيل لقطات حية في بعض الأحيان، أو في الوقت الحقيقي على الأقل لما يحدث داخل مدينة حمص التي برزت كمركز للثورة والاحتجاجات ضد الحكومة.

ومنذ الرابع من فبراير (شباط)، تقوم القوات الحكومية بشكل يومي بإطلاق قذائف على ثلاثة أحياء سنية، ولا سيما على حي بابا عمرو. وكانت هناك لقطات فيديو يوم الأربعاء الماضي لناقلات جنود مدرعة على أطراف المدينة، وحذر مصورو هذه اللقطات من أنه سيكون هناك، على الأرجح، غزو بري للمدينة في أعقاب الهجمات الصاروخية والمدفعية خلال الأسابيع الأخيرة.

وكانت كولفين (56 عاما) تعمل مراسلة لصحيفة «صنداي تايمز» وترتدي عصابة على عينها بعد إصابتها بشظايا عام 2001 في سريلانكا، في حين كان أوشليك (28 عاما) يعمل مصورا وكان قد حصل على جائزة من منظمة «وورلد برس فوتو» لعمله في ليبيا خلال العام الماضي. ولم يكن كولفين وأوشليك هما الصحافيان الوحيدان اللذان لقيا حتفهما خلال تغطية الأحداث الدامية في مدينة حمص. وفي اليوم السابق، كان المدون المعروف رامي السيد قد لقي حتفه، وتم تصوير جثته التي أصبحت أشلاء بسبب الشظايا التي تعرض لها، ثم تم نشرها على شبكة الإنترنت بسرعة، بينما كان أصدقاؤه يقومون بتقبيل وجهه بشدة تعبيرا عن احترامهم له.

ومنذ شهر نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، قتل أربعة صحافيين أجانب آخرون خلال تغطية الأحداث في حمص، حيث لقي مراسل صحيفة «نيويورك تايمز» أنتوني شديد حتفه قبل أقل من أسبوع إثر إصابته بأزمة ربو حادة على ما يبدو، بينما كان في رحلة سرية في شمال سوريا.

وفي الواقع، يواجه كل من يقوم بتغطية الأحداث العديد من المخاطر الكبيرة. وكتب شكيب الجابري على موقع «الأيام» الخاص بالناشطين السوريين يقول: «أثناء المكالمات مع رامي كنت أسمع أزيز القذائف في كثير من الأحيان»، في إشارة إلى المدون رامي السيد الذي لقي حتفه.

ويوم الثلاثاء الماضي، قام السيد ببث فيديو مباشر للقصف الذي يستهدف مدينة حمص، والذي كان في يومه الثامن عشر على التوالي آنذاك. وفي الساعة الحادية عشر صباحا، تم الإعلان عن وفاة السيد بصورة مفاجئة، ثم تم نشر فيديو لجثته في وقت لاحق.

وبحلول يوم الأربعاء، كان قد تم نشر 104 مقاطع فيديو على موقع «يوتيوب» للوفيات الناجمة عن أعمال العنف التي شهدتها المدينة يوم الثلاثاء الماضي، وتمت فهرستها عن طريق النشطاء الذين يعملون في الرابطة التي يترأسها رامي جراح. وسرعان ما تمت إعادة بث المقاطع الأكثر تأثيرا على شبكات التلفزيون الفضائية، بما في ذلك صور الأب الجريح الذين زحف ليصل إلى جثة نجله الملقاة على الأرض في إحدى العيادات المؤقتة، وعانقه وهو يبكي قائلا: «لماذا قتلوك؟» ثم استدارت الكاميرا له وهو يقول: «آه يا بشر، آه يا عالم، انظروا، ماذا كان بإمكانه أن يفعل؟».

وقال سامي إبراهيم، الذي يعمل بالشبكة السورية لحقوق الإنسان، إن الناشطين لديهم قائمة بأسماء 22 شخصا لقوا حتفهم داخل وحول مركز الإعلام يوم الأربعاء، وإنهم كانوا يقومون بتصوير أولئك الذين تم انتشال جثثهم، ولكنهم يخشون من أن يكون هناك المزيد من الضحايا تحت أنقاض المبنى المكون من خمسة طوابق. وأضاف إبراهيم: «لقد أصبح الأمر خطيرا للغاية الآن، وإذا أردت أن تفقد حياتك، فحاول أن تذهب إلى هناك».

وفي الحقيقة، هناك بعض مقاطع الفيديو التي لا يستطيع المرء رؤيتها بسبب المشاهد المؤلمة التي تظهرها، وكان من بينها مقطع للمستشفى الوطني في المدينة والذي كان به ضحية تحمل دليلا دامغا على آثار التعذيب على جسده، وكان مكتوبا على جسده باللغة العربية «مجهول رقم 348». وقرأ الراوي تلك الجملة وقال: «هذا يعني أن هناك ما لا يقل عن 348 شخصا مجهولا في المستشفى».

وثمة العديد من مقاطع الفيديو التي تم تصويرها في العيادة المتبقية في حي بابا عمرو والتي تظهر طبيبين يعلقان سريعا على حالات الضحايا، ولا سيما نقص الإمدادات الطبية، حيث قال أحدهما ويدعى علي: «يجب نقلها إلى المستشفى على الفور»، وهو يشير إلى مريضة ساقها مكسورة ومعلق بها زجاجة مياه بهدف عمل ثقل مقابل. وأضاف الطبيب: «هذه طريقة بدائية، ولكن هذا هو كل ما نستطيع القيام به».

وقال عمر شاكر، وهو ناشط من حمص، إن الجيش السوري قام يوم الخميس بإغلاق الطريق الذي استخدمه كل من كولفين وأوشليك للوصول إلى حمص. وأضاف: «لا توجد أي وسيلة لنقل جثثهم، كما أنه لا توجد مشارح لحفظ الجثث، أو ثلج أو كهرباء. وبعد 24 ساعة، سوف نضطر لدفنهم في مدينة حمص».

* خدمة «نيويورك تايمز» ساهم في كتابة التقرير مي الشيخ من القاهرة وهويدا سعد من العاصمة اللبنانية بيروت.