قرى شمال سوريا المحاصرة تشهد أنواعا جديدة من التنكيل

شبابها يختبئون في الكهوف والمراعي.. والأطباء يدخلونها مهربين

TT

قبل عام، كان أحمد عاصي (24 عاما)، المنتمي لقرية سرجي بمحافظة إدلب في الشمال السوري، طالبا بكلية الإعلام بجامعة دمشق، منتظرا شهورا قليلة للتخرج، لكنه اليوم يقبع في قريته المحاصرة وسط عشرات من عناصر الجيش السوري الحر متخوفا من اقتحام جديد للجيش السوري ربما يكلفه حياته، أو يدفع به للهرب إلى البساتين أو الأماكن المهجورة خارج قريته.

وتقع قرية سرجي ضمن عشرات القرى الصغيرة في منطقة جبل الزاوية بمحافظة إدلب في شمال غربي سوريا، وهي منطقة كانت لعقود موقعا سياحيا متميزا، لكنها اليوم تعد معقلا حصينا، بسبب طبيعتها الجبلية الوعرة، للجيش السوري الحر الذي تحول إلى ذراع عسكرية للثورة السورية التي اندلعت ضد نظام الأسد في مارس (آذار) الماضي.

وفي شهر يونيو (حزيران)، اقتحم الجيش السوري منطقة جبل الزاوية التي تضم قرية عاصي، للسيطرة عليها بسبب تحكمها في الطرق الرئيسية في شمال سوريا، ليهرب عاصي إلى الحقول والمراعي المحيطة بقريته لمدة شهر، واصفا تلك الأيام لـ«الشرق الأوسط»، في اتصال عبر الإنترنت من خلال برنامج «سكايب»: «كنت أشرب من مياه الأنهار والآبار وكنت أنام تحت الأشجار»، موضحا أن طعامه كان يعتمد على المعلبات المهربة بالإضافة لكسرات الخبز.

وعبر ثلاثة أشهر تنقل عاصي في كل أنحاء إدلب، ومن ثم هرب لهرستا ودوما في ريف دمشق، وهي الفترة التي قضاها دون أي اتصال بأهله، لكن اشتعال الأمور في دمشق نهاية الصيف وهدوءها في شمال سوريا آنذاك أعاده مرة أخرى للشمال.

وكشف عاصي، الذي روى شهادته عن جبل الزاوية في حلقات منفصلة بسبب سوء خدمة الإنترنت، عن أن الجيش السوري يقتحم قرى جبل الزاوية مع أول خيط لضوء النهار، لافتا إلى أن جنود الجيش يقومون بأعمال سلب ونهب واسعة للبيوت والمحال، كما يتم قصف القرى بالدبابات أحيانا أثناء النهار، لكنه أوضح أن الجيش يترك القرى في المساء، مشيرا إلى بعد جديد لتنكيل وقمع الجيش السوري، الذي قام بحرق كثير من مزارع الأهالي، كما قصف عن عمد حظائر الأغنام والدواجن، ما أفضى إلى قتل مئات الأغنام والأبقار.

وأثناء احتلال الجيش السوري لقرى جبل الزاوية، لم يكن الأهالي يستطيعون التحرك في القرية، وقال أحد شهود العيان لـ«الشرق الأوسط»: «الجيش كان يطلق النار على أي شخص يتحرك.. كانوا يطلقون النيران على أي منزل به حركة»، متابعا بخوف بالغ وهو يتذكر الأحداث: «لا يوجد منزل في القرية إلا وعليه علامات القصف.. حتى الجامع الرئيسي قصفوه، وتهدم جزء كبير منه». وقال عاصي إن كل المحال التي كتبت عليها عبارات مناهضة للنظام السوري تم حرقها وسلبها تماما.

وفي بداية فبراير (شباط) الجاري، سيطر مقاتلو الجيش السوري الحر على عدة قرى في جبل الزاوية، منها قرى مثل بازبو وشنان ودير سمبل وسرجي، حيث تم طرد عناصر الجيش السوري الذي بقي خارج القرية محاصرا لها ومانعا عنها كل وسائل الحياة من وسائل الإعاشة والمساعدات الإنسانية.. لكن ذلك لم يمنع عاصي من العودة لقريته، وهو ما قال عنه «شعرت أن حياتي عادت لي من جديد بالعودة لبلدتي».

ومنذ ثلاثة أسابيع، تعيش قرى جبل الزاوية المحاصرة وضعا مأساويا ومؤلما لأقصى حد، وبصوت حزين يقول عاصي «الجيش يحاصر المدينة من كل الاتجاهات، ويمنع دخول أي مساعدات إنسانية أو مواد إعاشة»، متابعا: «كل ما يصل إلينا من مساعدات يأتي مهربا عبر الأماكن الوعرة والترابية التي لا يستطيع الجيش السيطرة عليها».

ودائما ما تنخفض درجات الحرارة في منطقة جبل الزاوية في شهر فبراير إلى أدنى مستوياتها، وأوضح عاصي أن «مواد التدفئة من مازوت وغاز شحيحة للغاية.. والأهالي اضطروا لتقطيع الأشجار المعمرة لاستخدام أخشابها كحطب للمدافئ أو حتى لطهو الطعام»، لكن الأكثر وقعا هو أن معظم مخابز قرى جبل الزاوية توقفت عن العمل بسبب شح مواد تشغيلها من طحين ومازوت، وهو ما جعل الكثير من أهالي سرجي وغيرها من قرى جبل الزاوية يعتمدون على خبز التنور وهو خبز بدائي للغاية.

ومع محاصرة المدينة والانقطاع الدائم في الكهرباء، ارتفعت أسعار الكثير من السلع بشكل جنوني، حيث ارتفع ثمن الشمعة من ليرتين إلى نحو 25 ليرة، كما زاد ثمن عبوة الغاز المهربة من نحو 200 ليرة إلى 450 ليرة.

وعلى الرغم من كل تلك الصعاب، فإن أصعب ما يعاني منه أهل جبل الزاوية هو ملاحقة الجيش للأطباء في قراهم، ما جعل الأهالي يرسلون مصابيهم إلى تركيا عبر الحدود، ويقول عاصي بألم «نهربهم لأنهم لو مروا على النقاط الحدودية لتمت تصفيتهم».

وكشف عاصي، الذي استشهد 40 من زملائه خلال الثورة، عن أن عشرات الأطباء يختبئون في الكهوف والأماكن الترابية، لكنه أوضح أن بعض الأطباء يدخلون القرى سرا، مضيفا «بعضهم يصل إلينا مهربا لإسعاف المصابين.. لكنه أمر يبقى في طي الكتمان لا تنكشف شخصياتهم».

وبينما كان يجلس مع عدد من عناصر الجيش السوري الحر، قال عاصي بصوت يغلبه اليأس «الحقيقة أننا غير مستعدين لأي اقتحام للقرية»، قبل أن يضيف «هي حرب غير متكافئة بين جيش شديد التسليح بدبابات وذخيرة لا تنفد، وشعب أعزل؛ بعضه مسلح بثلاثة صواريخ كحد أقصى»، لكن عاصي واصل بتحد: «مستقبلي هو الثورة.. ولا أفكر في مستقبل غيرها».