الجهود متصاعدة لرسم حقبة «ما بعد الأسد».. من الخارج

السوريون يشكون من أن المعارضة تهتم بكسب النفوذ أكثر من التركيز على الوحدة

عماد الدين الرشيد «نيويورك تايمز»
TT

فتح عماد الدين الرشيد، نائب العميد السابق لكلية الشريعة الإسلامية بجامعة دمشق، جهاز الكومبيوتر المحمول الخاص به وتصفح ملفات توضح حاجات كل حي محاصر في سوريا. ويقضي الرشيد في مكتبه بالطابق الخامس في بناية تقع في أحد شوارع إسطنبول الهادئة 8 ساعات يوميا يتواصل خلالها مع سوريا من أجل حشد المئات من طلبته السابقين للانضمام إلى الحركة الوطنية السورية الجديدة، باذلا جهودا كبيرا من أجل تكوين شبكة يأمل أن تصبح يوما ما القاعدة للحركة الإسلامية.

وفي الوقت الذي تركز فيه قوى المعارضة في الأساس على إنهاء الحكم الاستبدادي الوحشي للرئيس بشار الأسد، يستعدون هم لسؤال مهم هو: «من الذي سيتولى الحكم في فترة ما بعد الأسد؟». لهذا يدركون من متابعة ما حدث في البلاد العربية الأخرى مثل تونس ومصر، حاجتهم إلى معركة مباشرة جيدة. وقال الرشيد، الرجل اللطيف البالغ من العمر 47 عاما ذو اللحية المشذبة البيضاء: «لا يريد الشعب السوري سماع أي حديث عن السياسة الآن، بل يريدون التركيز على إسقاط النظام فحسب، لكن عليك الاستعداد سياسيا قبل سقوط النظام».

وتتصارع القوي السياسية بأطيافها المختلفة خارج سوريا على السلطة وتنتظر إقامة نظام حكم جديد ديمقراطي للمرة الأولى منذ الانقلاب العسكري الذي تم عام 1963 الذي منح السيادة لحزب البعث وهمش باقي القوى. وأدى الصراع إلى عزوف الكثير من السوريين، خاصة داخل سوريا، حيث يشكون من تركيز القوى المعارضة المتشرذمة والمجلس الوطني السوري على عقد لقاءات لاستغلالها في كسب نفوذ داخل سوريا بدلا من التركيز على الوحدة اللازمة لإنزال الهزيمة بالنظام. مع ذلك، ما زالت الاضطرابات مستمرة ولم يتضح بعد ما القوة التي ستعلن عن نفسها على الساحة.

بالنظر إلى فوز الأحزاب الإسلامية الساحق في شمال أفريقيا، يتحرق القادة الإسلاميون في سوريا شوقا للحظة مماثلة. وتعد جماعة الإخوان المسلمين، هي الطرف الفاعل الأساسي، لكن هناك قوى إسلامية أخرى متمثلة في «جماعة العمل الوطني» و«الحركة الوطنية السورية» التي ينتمي إليها الرشيد، اللتين تتطلعان أيضا للنفوذ. يذكر أن كل تلك الجماعات توجد خارج سوريا.

ويواجه الإخوان المسلمون في سوريا عراقيل لم يواجهها الإخوان المسلمون في مصر. وطالما كان حسني مبارك متسامحا مع جماعة الإخوان المسلمين في مصر رغم كونها جماعة محظورة، على عكس سوريا، التي لا يوجد فيها «الإخوان» تقريبا، حيث ينص قانون عام 1980 على توقيع عقوبة الإعدام على أي شخص ينتمي إلى الإخوان المسلمين، فضلا عن سنوات طويلة من القمع الدموي. كان أكثر أعضاء جماعة الإخوان المسلمين الحاليين شبابا حين فروا منذ ثلاثين عاما عقب المذبحة التي ارتكبها حافظ الأسد والتي راح ضحيتها 10 آلاف شخص على الأقل في مدينة حماه. وقال علي صدر الدين البيانوني، الذي تولى رئاسة جماعة الإخوان المسلمين منذ عام 1996 إلى عام 2010: «ليس لدينا تنظيم، لكن لدينا قاعدة من الناخبين».

ربما تحد الانقسامات الداخلية تأثير الجماعة ونفوذها، حيث يوجد صراع طويل بين الإخوان المسلمين في حلب، والإخوان المسلمين الذين يميلون إلى النهج المحافظ في حماه. وزاد المنفى من هوة الاختلافات نظرا لانتقال كثير من «إخوان حلب» إلى الغرب، بينما انتقل «إخوان حماه» إلى الخليج. ولم يثن ذلك الجماعة عن محاولة بناء شبكة مترابطة، حيث يرسل الإخوان المسلمون مساعدات إنسانية إلى سوريا تتراوح قيمتها بين مليون ومليوني دولار شهريا، بحسب تقديرات البيانوني. ويقول أبو أنس، إمام مسجد في قرية تقع بين حماه وحمص يبلغ من العمر 45 عاما، إن قيادات الإخوان المسلمين يتصلون من الخارج ويطلبون منه إعادة إحياء شبكة قادها والده ذات يوم.

وقال: «إنهم يريدون مني إعادة بناء الإخوان المسلمين من خلال شبكة من الأعمال الخيرية ومساعدة الأسر الفقيرة والنشطاء المعتقلين وتقديم المساعدات الطبية» مشيرا إلى إنفاق الجماعة ملايين الدولارات في منطقته فقط العام الماضي. وأضاف: «إذا كنا نستطيع تقديم خدمات وسياسة جيدة لكل السوريين، سيتم انتخابنا». وتجمع كل الجماعات الإسلامية على أن الوقت الحالي غير مناسب لمناقشة قضايا اجتماعية خلافية مثل تحريم الخمور أو حجاب المرأة، ويعترفون بأن النزاع والانقسام بينهم لن يصب في صالح أحد سوى الأسد. ويخشون، مثل آخرين، من أن يصبح الجهاديون المتطرفون هم وجه وقوة المقاومة كلما اتجه الصراع إلى المزيد من التسلح والعنف. ولدى قوى المعارضة خطة لتفادي ذلك، على حد قول عبيدة نحاس، مسؤول في التسويق وعضو مؤسس للمجلس الوطني السوري وجماعة الحركة الوطنية يبلغ من العمر 36 عام. ولخص الخطة في أربع نقاط: التظاهر، والدفاع، والانشقاق، والدبلوماسية. مع ذلك، لا تزال احتمالات النجاح غامضة، مثل مستقبل السياسة في سوريا. ويقول نحاس وحلفاؤه إنهم مسلمون متدينون محافظون وليسوا إسلاميين، وأشبه بحزب العدالة والتنمية الحاكم في تركيا؛ وإن كان ينظر إليه على أنه مصدر إلهام، وليس نموذجا يحتذى. لقد انتهى عصر الآيديولوجيات، على حد قول نحاس، في مقابلة في بهو أحد فنادق إسطنبول المتواضعة. وقال إن الجيل الذي أشعل ثورات الربيع العربي يريد دولة محدودة لا تقوم على آيديولوجية، ويتمتع فيها كل المواطنين بالمساواة. وقال نحاس: «نحن نحاول العثور على أرضية مشتركة تمكننا من بناء هوية قومية تضم كل القوى السياسية».

لم يختلف طرح الرشيد كثيرا عن طرح نحاس، حيث أشار إلى الرغبة في إقامة دولة للمسلمين لا دولة إسلامية، في إشارة ضمنية إلى أن نحاس يرحب بإنهاء الطائفية في سوريا. وقال: «الإسلام السياسي يفسد الدين، حيث يحول الدين إلى بطاقة تستخدم في ألاعيب السياسة». مع ذلك، يرى السياسيون السوريون العلمانيون أن تلك الاختلافات غير حقيقية لذر الرماد في العيون، حيث يقولون إن الكثير من السوريين يحملون «الإخوان» والنظام مسؤولية العنف الذي عصف بالبلاد بداية من عام 1979 عقب قتل «الإخوان» قادة عسكريين ينتمون إلى الطائفة العلوية. وخلفت الدماء إرثا من عدم الثقة والمرارة استمر إلى اليوم.

وقال كمال لبواني، طبيب منشق أطلق سراحه في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي بعد عقد قضاه في السجون السورية: «الإخوان المسلمون يحتكرون كل شيء». واستقال كمال من المجلس الوطني السوري في فبراير (شباط الثاني) الماضي واصفا إياه بمطية تسهل الحكم الإسلامي. وأوضح قائلا: «للمجلس الوطني السوري قشرة ليبرالية تغطي جوهرا من الشمولية والاستبداد». وأشار إلى أن وجود الإخوان المسلمين في الخارج لفترة طويلة جعلهم منعزلين عن الواقع السوري. حتى الليبراليون داخل المجلس الوطني يشعرون بالقلق من تصنع ونفاق الإسلاميين ولا يرون ما بينهم خلافات بقدر ما هو توزيع للأدوار انتظارا للانقضاض على السلطة.

وقال سمير نشار، عضو اللجنة التنفيذية للمجلس الوطني السوري: «يبدو أن الإسلاميين يقبلون البقاء في الصف الثاني خلال ثورات الدول العربية، لكن بعد انتهاء الثورة يصبحون هم قادتها». ويزعم مؤيدو «الإخوان» أن التنوع الموجود في سوريا، مع الأقليات الكبيرة في الحجم من العلويين والمسيحيين والدروز، سوف يجهض أي محاولة لفرض الشريعة الإسلامية، كما يرون أيضا أن الديمقراطية ليست غريبة على سوريا حيث تتبع سوريا المذهب الصوفي، الذي يعزز علاقة أكثر تفردا ووجدانية بين العبد وربه. مع ذلك، اعترض الخبراء؛ حيث يرون أنه يجب عدم الخلط بين الصوفية والليبرالية.

وأحجم قادة الإخوان المسلمين في سوريا عن الرد عندما سئلوا عن الأحزاب الإسلامية التي تسيطر علي مصر بعد الثورة، مقرين بأن ذلك يقوض مصداقيتهم لدى الأقليات السورية وبعض الدول الداعمة خاصة الولايات المتحدة.

يقول ملهم الدروبي، عضو المجلس التنفيذي للمجلس الوطني السوري وجماعة «الإخوان» الذي يبلغ 48 عاما: «كنت أتمني لو لم يتخذ الإخوان نهجا إقصائيا». واستشهد ملهم وآخرون بالسجل المشرف للإخوان في البرلمان قبل عام 1963 الذي يعد بمثابة خطة مستقبلية لهم.

وصرح قادة جماعة «الإخوان» بأنهم تواصلوا مع مسؤولين بإدارة أوباما العام الماضي، ولكن تظل واشنطن قلقة بشأن الطرف المنتصر في سوريا، بما في ذلك الجهاديون المتطرفون. مع ذلك، يرى المحللون أن المخاوف بشأن الشبكة الجهادية المنظمة مبالغ فيه، على الأقل حتى الآن. ويوجد جدل كبير مثار حول القوى الإسلامية، ولكن من الصعب تحديد مدى قوتهم، بحسب ما يقول بريان فيشمان، خبير شؤون الإسلام المتطرف في مؤسسة «نيو أميركا فونديشين».

* شاركت هالة دروبي في إعداد هذا التقرير من إسطنبول وآن برنارد من بيروت ومراسل صحيفة «نيويورك تايمز» من دمشق

*خدمة « نيويورك تايمز»