أكراد سوريا.. بين مطرقة نظام قمعي وسندان معارضة مشتتة

«الشرق الأوسط» تزور مخيمهم على الحدود

بعض شباب المخيم يستعدون لتناول طعامهم
TT

يبدو أن قدر الأكراد، كما يؤكد الكثيرون منهم، هو المعاناة.. فما زالت معاناتهم مستمرة مع الأنظمة التي تحكم بلدانهم. فهم إما مضطهدون في أوطانهم، أو لاجئون مغتربون بمنافي الأرض، أو مشردون من ديارهم. وما أشبه الليلة بالبارحة، فما رصدته «الشرق الأوسط» من مشاهد في مخيم «دوميز» بمحافظة دهوك (شمال غربي العراق)، لا يختلف في كل تفاصيله عن أوضاع الأكراد العراقيين في مخيمات اللجوء الإيرانية والتركية أثناء هجرتهم المليونية عام 1991 هربا من بطش قوات الحرس الجمهوري التابعة للنظام البعثي، الذي كان يقوده حاكم العراق صدام حسين في تلك الفترة، وهي المشاهد التي تناقلتها وسائل الإعلام العالمية على نطاق واسع تحت عنوان «محنة الأكراد».

ويتكرر المشهد اليوم بشكل آخر، حيث يهرب الآلاف من أكراد سوريا من أمام عناصر الفرقة الرابعة التابعة لماهر الأسد، شقيق الرئيس السوري، التي لا تختلف كثيرا عن الحرس الجمهوري العراقي السابق، من حيث البطش والقمع وممارسة أبشع الجرائم من القتل والتعذيب والاغتصاب.

فالسيدة «ن»، التي تعيش مع زوجها وأطفالها الأربعة حاليا بمخيم دوميز الحدودي، تتذكر كيف أن قوات النظام الأسدي اغتصبت إحدى جاراتها البالغة 19 عاما أثناء حملة بوليسية لقوات أمن النظام لملاحقة متظاهري عام 2004 بالمناطق الكردية، ذلك المشهد المروع استحضرته ذاكرتها مع تصاعد وتيرة القمع النظامية ضد المتظاهرين بدمشق، فحثت زوجها قبل أكثر من شهرين على الخروج من العاصمة السورية والعودة إلى القامشلي للانطلاق منها إلى الحدود السورية - العراقية، لتكون بذلك من أوائل العائلات اللاجئة إلى أراضي كردستان العراق، وتستقر في هذا المخيم ناجية بنفسها من أيدي عناصر الأمن السوري.. خاصة أن مجرد الشك بهوية زوجها، الذي يعمل في مهنة حرة بالعاصمة منذ 15 عاما، قد يكون كافيا للاعتداء على عائلته والزج بهم في السجون والمعتقلات.

ولا تختلف قصة السيدة جيهان يوسف عن قصة هذه السيدة، فهي تؤكد أنها كانت تقيم بالشام مع زوجها وأطفالها الثلاثة وجاءت إلى المخيم قبل شهر ونصف، وتروي قصة اعتقالها ثلاث مرات من قبل القوات الأمنية السورية، وتقول: «في عام 2004 عندما اندلعت المظاهرات الاحتجاجية ضد النظام، كنت مع زوجي بالشام.. ونظرا لأن الانتفاضة كانت كردية خفنا على حياتنا، فعدنا من هناك إلى القامشلي، وبعد أن زادت وتائر القمع والقتل والتعذيب ضد المتظاهرين وعوائلهم، هربنا من القامشلي وجئنا إلى كردستان العراق، وبقينا فيها عدة أشهر لحين انجلاء الموقف ثم عدنا إلى سوريا. وما إن استقررنا بمنزلنا حتى داهمتنا قوة أمنية واعتقلتني لمجرد أنني وزوجي كنا لاجئين بكردستان العراق، ولم يبق أي فرع عسكري أو أمني إلا ومررونا به.. من فرع فلسطين إلى الأمن العسكري إلى الأمن السياسي، وفي كل فرع كنت أواجه مزيدا من الصفع والضرب والرفس بأرجل عناصر الأمن. وهذا كله لمجرد أنني كنت مع زوجي هاربين إلى كردستان».

وتتابع جيهان: «كنت خائفة جدا، خاصة أنهم اعتقلوني ثلاث مرات، وكان زوجي في كل مرة يدفع المصاري (الأموال؛ على سبيل الرشى) حتى يخرجني. ولم نرد أنا وزوجي أن نكررها للمرة الرابعة، التي كانت ستكون الأخيرة، خصوصا أن النظام يمر اليوم بحالة هستيرية، فشددنا الرحال نحو كردستان العراق مرة أخرى».

وعن مشاهداتها بالشام (دمشق) قبل شهرين، خاصة أن النظام كان يتبجح دائما بأن العاصمة هادئة، قالت جيهان: «بالعكس منذ اليوم الأول كانت الأوضاع مضطربة هناك، وخرجت مظاهرات في الكثير من الأحياء التي حاول النظام التعتيم عليها». وعن وضعها الحالي بالمخيم تقول: «الوضع هنا - على الرغم من صعوبته - أفضل بكثير مما كنا نعيشه في العاصمة دمشق، فنحن هنا نشعر بالحرية والأمان وهذا يكفي، وزوجي يعمل في مدينة زاخو ويزورنا ليومين كل أسبوع، والحال ماشي والحمد لله، أنتظر سقوط هذا المجرم بشار الأسد لأعود إلى وطني وأهلي بالعزة والكرامة».

ويصف مولود رمضان، الكردي من القامشلي الذي أمضى 11 عاما يعمل في العاصمة السورية، ما رآه وعاينه من جرائم النظام الأسدي بالقول: «جرائم يشيب لها الولدان.. فقد شاهدنا مشاهد بشعة من قتل وإجرام وهدم المنازل وقطع المياه والكهرباء عن أحياء كثيرة. وحواجز أمنية بالمئات، بحيث ما كنت تقدر تمشي بأمان، وأي شك - ولو مجرد شك - بهويتك يسوقك إلى الاعتقال من قبل الأمن العسكري».

وحول ما يدعيه النظام من «هدوء العاصمة»، و«أن دار السيد مأمونة»، كما يقول المثل العراقي، قال: «هذا كله كذب في كذب.. أنا كنت هناك وشفت شغلات بيشيب الأطفال، قتل واغتصاب منهجي ويومي. هذا الوضع كان قبل مجيء قوات المراقبين، وأنا لست هناك حاليا حتى أعرف شو بيصير».

وحول ما إذا كانت الإصلاحات التي يقول النظام بأنه أنجزها في سوريا كافية لتهدئة الشعب، قال رمضان: «الإصلاحات كلها كذب في كذب، النظام لا يريد الإصلاح، بل يريد توريط الشعب السوري بحرب أهلية حتى ينجو من الوضع الحالي. هناك الآلاف من عرب دير الزور والرقة وغيرهما من مدن سوريا جاء بهم إلى مناطقنا الكردية ليستولوا على أراضينا، والنظام يعمل حاليا على تأجيج الفرقة والفتنة بين الأكراد والعرب حتى يتفرج علينا وينجو من مصير محتوم».

أما عن نيته العودة إلى سوريا، فقال: «مطلقا، ما دام النظام الأسدي موجودا.. وحتى لو رضيت المعارضة الكردية بالاتفاق معه فلن أرجع إلى سوريا مرة أخرى، فلا أنسى مصير المئات ممن عادوا وزجوا بالسجون، فمن قتل مشعل التمو؟ ومن قتل الشيخ معشوق الخزنوي؟ هذا النظام لا أمان له، ما إن يستعيد عافيته غدا حتى يأخذنا بجريرة ما فعلناه أمس واليوم».

أما السيدة عاصمة حسن، فيطيب لها العيش في مخيم يفتقر إلى أدنى مستلزمات الحياة الإنسانية وتفضله على العودة إلى منزلها في القامشلي التي تركتها مع زوجها وطفلها، وتقول: «العيش هنا أفضل ألف مرة من نعيم سوريا، على الأقل لا نشعر هنا بالخوف من القتل والاغتصاب والتعذيب». وتتابع، بعد أن شغلت مروحية منضدية وحيدة بخيمتها لتلطيف الجو في درجة حرارة تقترب من الأربعين درجة: «جيت هون وما ناوية أرجع، مع أني قلقة على مصير إخواني وأخواتي داخل سوريا، لا أدري هل سيتعرضون لمضايقات بسبب خروجي من سوريا أم لا، فالنظام يعاقب الناس بذنب الآخرين، وكل ذنبنا نحن أن نجينا بحياتنا من هذا النظام المجرم».. وتعرب حسن عن رضاها عن الرعاية والاهتمام اللذين تتلقاهما والأسر الأخرى من المسؤولين عن المخيم، وتقول: «الحمد لله زوجي يعمل بدهوك، ويعود إلينا في كل مساء، والرعاية الصحية متوفرة، والأمان موجود بالكامل».

ما تجرأت العوائل الكردية اللاجئة على كشفه من أسماء وهويات أفرادها، أحجم عنه الشباب الذين فروا وحدهم دون عوائلهم لأسباب أمنية، فما إن دخلت «الشرق الأوسط» الخيمة الكبيرة المخصصة لإيوائهم، حتى بادر أحدهم بالمطالبة بعدم تصويرهم أو السؤال عن أسمائهم وهوياتهم. والخوف مبرر هنا - على الأقل - عند التعامل مع نظام مخابراتي وأمني على مستوى النظام السوري، فالعوائل التي خرجت برمتها لا تهمها إذا كشفت السلطات عن أسمائها لأنها تكون بلجوئها إلى خارج سوريا قد نجت بنفسها، ولكن الشباب كما أكد أحدهم قال: «عوائلنا ما زالت تعيش تحت ظل هذا النظام الدموي، وإذا كشفنا عن أسمائنا وهوياتنا فلا بد أن أجهزة المخابرات هناك ستتحرك على عوائلنا وتعتقلهم بهدف الضغط علينا».

ولكن الشاب الذي اختار لنفسه اسما حركيا، وهو أحمد جاسم، كشف لـ«الشرق الأوسط» عن أن عددهم يزيد على 150 شابا هرب معظمهم من أداء الخدمة العسكرية، وفيهم شباب كانوا يعملون في التنسيقيات كشف أمرهم، وهناك آخرون من المنشقين عن الجيش، ويستطرد: «هربنا من أداء الخدمة الإلزامية لأن النظام يريد منا أن نوجه رصاصنا إلى صدور الشعب، ونحن نرفض ذلك بالمطلق، لأن الجيش هو للدفاع عن الوطن وليس لقتل الشعب، وأي شخص يطلق رصاصة واحدة إلى صدور شعبه هو مجرم مثل بشار الأسد. ثم إن هذا النظام القمعي لا يتردد أبدا في قتل كل من يخالف أوامره من عناصر الجيش، فإما أن يقتل الشعب، وإما أن يقتل من الخلف».

وحول سبب وجود هؤلاء الشباب بالمعسكر بدلا من الوجود في الميدان بالتنسيقيات أو الجيش الحر، قال: «العمل السياسي، وخصوصا عمل المعارضة بالداخل، محفوف بمخاطر جمة. فالنظام لا يتردد في ممارسة جرائم القتل الجماعية كما فعل صدام حسين ضد أكراد العراق، فهو نظام بعثي، حتى لو كان من يديره أوروبيا أبا عن جد، فكر البعث قائم على القتل والإبادة لأي معارضة. والتنسيقيات تعمل بالداخل إلى حين انكشاف عناصرها، فإذا ما لمسوا تهديدا لبعض النشطاء حاولوا الفرار والعمل من الخارج. أما الجيش الحر فلديه هامش كبير من الحركة في المناطق العربية، أما في مناطقنا الكردية فليس هناك طبيعة جغرافية ملائمة للعمل العسكري، لأن مناطقنا سهلية بمجملها ومكشوفة، ولا يمكن التحرك فيها كرا وفرا على عكس المناطق الأخرى من سوريا التي يستطيع فيها الجيش الحر أن يتحرك بسهولة». وبسؤاله عن الموقف الدولي من القضية السورية، قال: «المشكلة الكبرى في المحنة السورية هي الدعم الدولي، فالرأي العام العالمي برمته معنا، ولكن الحكومات والدول تتعامل مع القضية وفق حساباتها الخاصة ومصالحها الاقتصادية، ونحن ضحايا لتلك المصالح».

وعن أسباب عدم توحد المعارضة الكردية مع المعارضة العربية، قال: «في عام 2004 عندما تظاهرنا نحن لم يكن هناك أي سوري عربي يساند انتفاضتنا، ونحن الأكراد كنا أول من رفع شعار إسقاط النظام البعثي قبل أن يفكر أي عربي بذلك، ومع ذلك فإن المجلس الوطني السوري لم يحسب لمواقفنا أي حساب على الرغم من نضالنا المستمر ضد النظام الأسدي. قتل منا المئات وسجن الآلاف وتشرد آلاف آخرون، ولكن عرب سوريا لم يفعلوا شيئا لمناصرتنا، واليوم هناك مجلس وطني يديره برهان غليون، ولكنه لا يخجل من أن يخرج بالقنوات التلفزيونية ليصرح بأن أصل الأكراد (مهجرون).. ويأتي في اليوم التالي ليعتذر. هل يجوز هذا لمن يريد أن يكون رئيسا مقبلا لسوريا؟». ويستطرد: «غليون مثل مصطفى عبد الجليل الليبي الذي قال إنه لا يطمح بمنصب سياسي وإنه مستعد لأي محاسبة من قبل شعبه، ولكنه اليوم باق في منصبه ويحاسب الآخرين. فيما يتعلق بهذا المجلس فنحن أول من رفع شعار (المجلس الوطني يمثلنا)، مع ذلك لم نر منه أي موقف إيجابي بإشراكنا في قيادة هذه المرحلة ودور في المستقبل. لقد أعطيناهم الفرصة تلو الأخرى، ولكنهم أهملونا وأهملوا مطالبنا المشروعة. أنا لا أدري أين الخطأ فيما لو شغل سوري - سواء كان كرديا أو عربيا أو مسيحيا - هذا المنصب أو ذاك! مشكلتنا في انعدام الديمقراطية والاعتراف بحقوق الجميع».

وتحدث الملازم شيروان عبد الكريم، الضابط المسؤول بمقر اللجنة الأمنية التي تدير المعسكر، قائلا لـ«الشرق الأوسط»: «تعاملاتنا معهم وتعاملهم معنا جيد ومقبول، وليست هناك أي مشكلات، اللهم إلا مع بعض الشباب الذين يستعجلوننا في أشياء نحن غير قادرين عليها حاليا، ولكننا ندرسها.. مثل مواصلة الدراسة لمن تركها، وكذلك توفير فرص العمل، فنحن من الناحية الأمنية مسؤولون عن حمايتهم، أما الجانب الإداري فهناك مؤسسة بارزاني الخيرية التي تتولى رعايتهم وتلبية حاجاتهم الإنسانية، فهذه المؤسسة توفر لهم الغذاء والملبس ووسائل العيش اللازمة، وقبل يومين وزعت عليهم ملابس صيفية جديدة للأطفال والنساء والشباب، وتلقينا وعدا من وفد زار المخيم من وزارة التربية بفتح مدرسة خاصة للصفوف الأولية للطلبة لإتاحة الفرصة أمام الأطفال لمواصلة دراستهم».

ولاحظت «الشرق الأوسط» وجود مستشفى ميداني لتقديم خدمات صحية كاملة لأفراد المخيم، ويقول الملازم شيروان: «في حال تطلبت الحاجة معالجتهم بمستشفيات الإقليم فلا مانع من ذلك، وإذا أرادوا التردد على مدينة دهوك فلا مانع أيضا، حيث نمنحهم إجازات مؤقتة للذهاب إلى هناك ليوم أو يومين، وهم أحرار في التجول بكامل المناطق داخل حدود محافظة دهوك. أما إذا احتاجوا للسفر إلى خارج المحافظة، فعندها يجب عليهم مراجعة مديرية شؤون الإقامة التي ستزودهم بأوراق رسمية تجيز لهم ذلك».