مقاتلون في طرابلس لـ«الشرق الأوسط»: القتال لن ينتهي.. ونظام الأسد يريدها مشتعلة

الفقر ينهش المنطقتين المتناحرتين.. وخطوط التماس جاهزة لجولات الحرب

TT

لم تنته جولات العنف «المتنقلة» بين جبهتي «باب التبانة» و«جبل محسن» في طرابلس بشمال لبنان.. وما إن تهدأ قليلا حتى يعلو صوت رصاص القناصة الموزعين على الأسطح وبين فجوات الزواريب الصغيرة في شارع سوريا وبعل الدراويش، حيث تتمركز «الدشم» والسواتر الرملية والدواليب السوداء الكبيرة، إذ تكون ملجأ للمسلحين الذين اعتادوا على الحروب «المتقطعة»، وتصبح يومياتهم متاحة ومعلقة للقتل والعنف بلا أي طائل إضافي؛ سوى لمصلحة صراعات مرهونة للخارج.

اتهامات متبادلة لا تنتهي، وتفجير الاشتباكات لا يعرف توقيته. حيث المسلحون ملتحفون بأسلحتهم على الدوام، وبجهوزية مفرطة يعلنون الحرب فجأة. فالطرفان يتبادلان صوتا قاسي النبرة في توصيف ما يجري. لكن لسكان الأحياء الفقراء رأي آخر، دوما ما تتجاهله وسائل الإعلام في زياراتها الخاطفة إلى هناك.

يعبر البعض عن غضبه مما يحصل، واقفين على الحياد؛ لا صوت لهم هؤلاء الذي يستنكرون وراء جدران بيوتهم. لا يهربون ولا قدرة لهم على ترك البيوت والمنطقة، ولا همّ عندهم سوى أمن أولادهم المهددين بركوب موجة العنف المذهبي في لحظات غضب تتكرر وبجولات حربية أليمة، لطالما يذهب ضحيتها شبان صغار السن لم يعرفوا من الاقتتال سوى أسماء إحيائهم ونوع الرصاص، الذي يطلقونه لقتل جيرانهم في جبهتين متقابلتين لا ينتهي النزاع فيهما.

تقول الحاجة أم عبد و منافيخي، وهي تقف وجلة على شرفتها خوفا من أن تصيبها رصاصة قنص طائشة، في حديث لـ«الشرق الأوسط» أثناء جولتها في حي بعل الدراويش أن «الحرب ليست لنا هي للزعران»، موضحة «نحن لا نحب القتل ولا نريده لكن لا صوت لنا.. نحن مجرد أعداد بشرية لا يحتسبوننا إلا في صناديق الاقتراع»، مشيرة إلى «ضرورة تدخل الجيش والقوى الأمنية واتخاذ قرار سياسي حازم من قبل رئيس الحكومة نجيب ميقاتي ووزراء المدينة الخمسة لتهدئة الأوضاع ووضع حد للفلتان الأمني».

تحضر الأزمة السورية بكل أشكالها في المنطقتين الأكثر فقرا في لبنان، حيث ينقسم الفقراء هناك بين مؤيد للثورة السورية ومعارض لها. وتبدو صور المجازر المعلقة على جدران أحياء باب التبانة خير دليل على عمق الشرخ بين سكان المنطقتين سياسيا، إذ يرفع سكان جبل محسن العلويين في المقابل صورا للرئيس السوري بشار الأسد ويضعونها على أبنيتهم وشرفاتهم، تأكيدا على وقوفهم بجانب النظام.

لا نوايا واضحة من هذا الاصطفاف، ولا يبدو أن الفقر يجمع هذه المرة.. إذ كما يقول مسؤولون ميدانيون لـ«الشرق الأوسط» أن «المعركة سياسية في المبدأ، لكنها تصبح مع الوقت ثأرية ولا يمكن الاختباء وراء أقنعة مزيفة»، مشيرين إلى «عمق الكراهية بين سكان المنطقتين المنطلق من حيثيات تاريخية مزمنة».

تصبح الصور شعارات صارخة إلى انتماء المنطقتين سياسيا، حيث يؤكد سكان «باب التبانة» رفضهم لـ«عمليات القتل التي يرتكبها نظام الأسد»، مشددين على «ضرورة إنهاء الأزمة بسقوط نظام الرئيس بشار الأسد وأجهزته»، فيما يشير سكان جبل محسن إلى أن «مؤامرة خارجية تحاك لسوريا الأسد»، وأن «وقوفنا قرب النظام ما هو إلا تأكيد حاسم على خيارنا السياسي الداعم لخط الممانعة في المنطقة العربية ووقوفنا إلى جانب المقاومة ضد إسرائيل».

معظم الاشتباكات المتجددة بين سكان المنطقتين ذات طابع مذهبي، يعود تفاقمها إلى وتيرة التطور الدراماتيكي بالوضع السوري وتأثيره المباشر على هذه الخاصرة «الرخوة» في شمال لبنان. إذ كلما زادت عمليات القتل في سوريا تعلو الصرخة في شمال لبنان بين جبهتين لا تخمد النيران فيها ولا تسكت خطوط التماس من دك الرصاص المشتعل. يؤكد الحاج محمد البحري لـ«الشرق الأوسط» أن «النظام السوري لا يريد للبنان أن يهدأ، ويود تصدير الأزمة إليه»، يتراءى إلى الحاج الخمسيني «المشهد السياسي» على شكل «مصالح»، قائلا إن «سكان الجبل تابعون سياسيا لخط بشار الأسد ونظامه ومرتهنون له، وبالتالي فهم ينفذون مخططه عبر فتح الجبهة شمالا». وفيما يرفض سكان «جبل محسن» وصفهم بأنهم «فيلق» تابع للنظام، يعتبر رامي النحيلي من حي «ستاركو» الداخلي أن «سكان باب التبانة يقفون إلى جانب أهلهم في سوريا الذين يذبحون ويقتلون من قبل نظام وحشي».

في المقاربة السياسية لا يتفق سكان المنطقتين، لكن على ما يبدو أن ما يجمع أكثر بكثير مما يفرق. حيث لا تزال علاقات المصاهرة والقرابة تحكم صورة المنطقتين في حال السلم. حياة عادية تستسلم لروتين مضجر وزيارات لا تنقطع وعلاقات تجارية - ولو محدودة قليلا - تطفو على الوجه، لكن شيء من التوتر يشوب العلاقة، مزمن وقديم يعود إلى زمن الطلقة الأولى منذ وجود الجيش السوري وحكمه لطرابلس أمنيا بغطاء عسكري لا تزال آثاره واضحة، إبان الحرب الأهلية، وافتعال عناصره مجازر في «باب التبانة» وتورطه بمقتل زعيم محلي في المنطقة يدعى «أبو عربي». الرجل الذي يحلف أهالي المنطقة به وينتصرون به حيث لا تزال صوره معلقة في كل الأحياء.

في جولة «الشرق الأوسط» إلى هناك، يبدو أن جولة الحرب الأخيرة تركت آثارا مضافة على صورة الدمار الموصومة بها. ولم نكد نترك المنطقة حتى اشتعلت مجددا في شارع سوريا وسقطت قنابل لجهة الملولة على خط التماس التقليدي هناك.

لا يعود بإمكان زائر تلك الأحياء أن يعرف عمر وزمن الفجوات في جدران متآكلة منذ الحرب الأهلية، وفي فترات متلاحقة مع دخول الجيش السوري إليها في الثمانينات وتدمير أبنيتها وتشويه بنيتها، وصولا إلى تدميرها في سنوات أخرى مع حروب محلية يتوارثها سكان المنطقتين العالقون في دوامة الحرمان المزمن.

في شارع سوريا، لا شيء متاحا للنظر سوى حضور خجول لعناصر الجيش اللبناني، فيما لا تزال «الدشم» على ما هي عليه، مما يؤشر إلى بقاء «المنطقة» رهينة للاشتعال. يقول أحد المقاتلين في «باب التبانة» لـ«الشرق الأوسط» إن «الجولات لم تنته بعد وكل شيء رهن الوقت»، موضحا «طالما أن النظام السوري يريد أن يشعلها في طرابلس فلن تهدأ». وفيما يوضح سكان عن عدم رضاهم عن مجريات الأحداث الأمنية وطريقة افتعالها، يؤكد منير المحمد أن «الحياة تصبح كالجحيم في هذه الأحياء»، مضيفا: «نعيش توترا دائما فالأحقاد نفسها ولم تولد سوى العنف».

يتحول القتال إلى «إيقاع» معيشي يسكن تفاصيل المنطقتين، ويغتال الهدوء «المقنع» صوت الرصاص والقنص، الذي يبدو روتينا دائما لا يمكن أن يسكته سوى خطة إنماء متوازنة تنتشل المنطقتين من نيران الفقر والتطرف.