أوراق الخارجية المصرية - أبو الغيط: مصر بين الحرب والسلام

قوات مصرية في حرب اكتوبر
TT

كتبت في المقال السابق عن نيتي اليوم أن أتناول الظروف التي حكمت مصر في إعدادها وتجهيزها لضربتها العسكرية عبر قناة السويس.. الأهداف العسكرية والعمل السياسي وصولا إلى «كامب ديفيد» وتأثيراتها على تحور الدور والمسؤولية المصرية في الشرق الأوسط.. لعل ذلك يساهم في المزيد من التفهم للاعتبارات التي حركت مصر ومواقفها منذ أكتوبر (تشرين الأول) 1973 وحتى السنوات الأخيرة لحكم الرئيس السابق حسني مبارك.

أبدأ باسترجاع أحد المواقف التي تلقي الكثير من الضوء على ما سبق.. إذ اصطحبني الدكتور عبد الهادي مخلوف، مدير مكتب مستشار الأمن القومي المصري محمد حافظ إسماعيل، صبيحة أحد أيام شهر أغسطس (آب) 1972 للقاء حافظ إسماعيل، بصحبة عضوين آخرين من الأعضاء الجدد في المكتب، لتقديمنا إليه ولكي نستمع إلى توجيهاته ونتعرف عليه قبل بدئنا العمل معه في مسائل العلاقات الخارجية المصرية.

* تحدث حافظ إسماعيل مستفيضا عن الظروف بالغة الصعوبة التي تمر بها مصر في جهودها من أجل التوصل إلى إزاحة الاحتلال الإسرائيلي لسيناء، واستعادة الثروة البترولية فيها وفي مياه خليج السويس. وقال مستشار الأمن القومي إن المسؤولية الأولى له هي مساعدة الرئيس السادات في تخليص مصر من هذا الوضع الضاغط عليها، واستعادة حيوية المجتمع المصري في مشاريع التنمية والتطور والتي كانت قد توقفت إلى حد كبير نتيجة للحرب والمواجهة العسكرية والدبلوماسية التي حكمت أوضاع مصر منذ لحظة الانكسار والقبول بوقف إطلاق النار في 9 يونيو (حزيران) 1967.

كان قد مضى على الاحتلال حتى هذا الحين أكثر من خمسة أعوام شهدت محاولات مصر في منازلة إسرائيل عسكريا في حرب الاستنزاف ثم في محاولة التوصل إلى تسوية سياسية مرضية للصدام مع إسرائيل تعيد إلى مصر أرضها المسلوبة.. ولم تحقق كل هذه الجهود هدفها، بل كان الصلف الإسرائيلي يزداد كلما حاولت مصر البحث عن سبيل سياسي لتحقيق انفراجة.

قال حافظ إسماعيل إننا يجب أن نحافظ على علاقاتنا مع السوفيات لضمان استمرار توريد الأسلحة واحتياجاتنا من المعدات العسكرية.. وكنا نحصل منهم عندئذ على أغلب ما نحتاج إليه من كل شيء.. الطائرة المقاتلة، زورق الصواريخ، مدفعية الميدان، معدات العبور، الكباري الميدانية المحمولة، الدبابات، معدات المطابخ الميدانية.. أي كل شيء تقريبا. وأضاف مستشار الأمن القومي أن الدعم السياسي السوفياتي لنا هو أيضا عنصر بالغ الأهمية، لأننا لا يمكن أن نترك هكذا في مواجهة الأميركيين. وبطبيعة الحال لم ينتقد حافظ إسماعيل إجراءات وخطوات الرئيس السادات في إخراج الخبراء العسكريين السوفيات، وبالتالي النفوذ السوفياتي المتخندق في مصر قبل أسابيع، وإن كانت كلماته حول أهمية الحفاظ على العلاقة المصرية - السوفياتية قد عكست ما يستشعره من قلق دفين على توفير خيارات الحركة السياسية والعسكرية لمصر في هذا الصراع.

وذكر مستشار الأمن القومي أهمية الإبقاء على خطوط اتصال مفتوحة مع الولايات المتحدة والسعي لمحاولة تأمين مواقف أميركية يمكن أن تساعد في تطوير وربما تطويع الموقف الإسرائيلي المتعنت الذي يرفض كل الطروحات، مثلما سبق القول، على مدى خمسة أعوام من جهد التسوية السياسية.

وكشفت الشهور التالية، وبالذات الفترة الممتدة من فبراير (شباط) 1973 وحتى أغسطس من نفس العام، تكثيف مصر لجهودها على محاور مختلفة.. كان أولها المحور السوفياتي، حيث سعى الجانبان المصري والسوفياتي إلى إصلاح ذات البين في علاقاتهما، ومن ثم عاد التعاون السياسي.. ولكن بقدر من الشكوك بينهما لم يمنع من تعزيز عمليات الإمداد العسكري بغالبية الاحتياجات الحربية المصرية التي مكنت مصر، في حقيقة الأمر، من القيام بهذه العملية الكبيرة لعبور قناة السويس واحتلال شريط عميق نسبيا بطولها، ثم المحور الأميركي.. إذ فتح حافظ إسماعيل قناة اتصال مع هنري كسنجر مستشار الأمن القومي الأميركي حينذاك والتقى الرجلان مع أطقمهما المتخصصة مرتين.. في فبراير 1973 في الولايات المتحدة والأخرى في مايو (أيار) من ذات العام في فرنسا للبحث في كيفية تحريك جهد التسوية وتحقيق التوصل إلى حل يؤدي إلى انسحاب إسرائيل من أراضي سيناء والاتفاق أيضا على أسس واضحة ومحددة لتسوية فلسطينية.. ولم تسفر هذه اللقاءات والمشاورات عن تحقيق الانفراجة المطلوبة.. فقد طرح كسنجر تفكيره في التمسك بتسوية تقوم على التحرك في خطوات متدرجة وعلى مدى زمني مفتوح.. بل ونقل عن كسنجر قوله لبعض الأطراف الدولية إن «المصريين قد هزموا.. وعليهم دفع ثمن هزيمتهم»، أي تخليهم عن أراض أو القبول بما تطرحه عليهم إسرائيل من مطالب.. كما قال كسنجر لبعضهم أيضا، أثناء حضوره اجتماعات في نيويورك على هامش أعمال مجلس الأمن إنه «ليس لدي وقت أضيعه مع المصريين.. وإن الأمور ساكنة في الشرق الأوسط، ولن أتحرك طالما هي هكذا».. وكان كل ذلك يتضمن رسائل كافية تفرض على صاحب القرار المصري التوصل إلى نتيجة مفادها أن الجهد الدبلوماسي المصري لن يقود إلى نتائج مرضية لمصر. وأخذت مصر تتحرك على المحور الثالث والأخير بقبول التجاوب مع محاولات جاءتها من رومانيا ويوغوسلافيا.. وكان الرئيس السادات يحتفظ بأقوى العلاقات مع البلدين.. بأنه يمكن لهما، ولعلاقات رؤسائهما مع رئيسة الوزراء الإسرائيلية، السعي لتحقيق تقارب في المفاهيم بين مصر وإسرائيل وبدء مفاوضات بينهما يمكن أن تحقق السلام ومطالب إسرائيل فيه من ناحية، والأرض واستعادتها من قبل مصر من الناحية المقابلة.. وجرت المحاولة، وزار حافظ إسماعيل كلا من بلغراد وبوخارست.. وكنت أرافقه خلال الجولة. وجاءت ردود الفعل الإسرائيلية بالغة التعنت.. تتمسك بالوجود في شرم الشيخ.. ولو من خلال التأجير وعدم انسحاب المستوطنين في سيناء.. ومواقف أخرى كثيرة متشددة. وقدر السادات أنه لا طريق أمامه الآن لتحقيق أهداف مصر، سوى بالعمل العسكري المباشر.. رغم معرفته وكل قادة القوات المسلحة بأن الجانب الإسرائيلي لديه عناصر تفوق واضح في مجالات عديدة، في مقدمتها القوة الجوية الإسرائيلية وقدرتهم على كشف النيات المصرية العسكرية مبكرا بما يمكنهم من إجهاض أي عمل عسكري مقبل.

وكان يتوارد إلى القاهرة من بعثاتنا الدبلوماسية في نقاط أوروبية وغربية متعددة أن الأميركيين والإسرائيليين ينتظرون تقادم الأسلحة السوفياتية في أيدي المصريين أو انفجار الوضع الداخلي المصري.. ومن ثم تأتي إليهم مصر راكعة تطلب السلام بأي ثمن.

لقد كتبت خلال عامي 2009 و2010 وما زلت وزيرا للخارجية المصرية عدة مقالات ضمنتها الكثير من القراءات والمعلومات حول هذه الجهود المصرية، نشرتها جميعا صحيفة «الأهرام» القاهرية.. كذلك قمت خلال الشهور الأخيرة من عام 2011 بإعداد مجلد كبير.. آمل أن يصدر هو الآخر في كتاب قريبا تحت اسم «شاهد على الحرب والسلام» يتضمن كل مشاهداتي ومشاركتي في كل هذه الجهود في الفترة من يوليو (تموز) 1972 حتى انتهاء رئاستي لوفد مصر لدى الأمم المتحدة في يوليو 2004.

سردت في أحد هذه المقالات وقائع لقاء بالصدفة مع هنري كسنجر في عام 1999 في نيويورك، حيث دار الحديث حول حرب أكتوبر 1973.. فقلت له إنني على اقتناع بأنه كان له.. أي كسنجر.. دوره المباشر في التعجيل بالعمل العسكري المصري عندما أبلغ القاهرة عبر رسائل كثيرة أنه لا ينوي التحرك وبذل الجهد لأي شيء طالما بقيت الأمور ساكنة على ما هي عليه بين العرب وإسرائيل.. وقلت في مقالي إن كسنجر بدا وكأنه لدغ من عقرب سام بسماعه لهذا الرأي الذي كان يهدد سمعته وتاريخه أمام إسرائيل والمجتمع اليهودي الأميركي.. نشرت أيضا في سلسلة هذه المقالات، كما ضمنت كتابي «شاهد على الحرب والسلام».. العناصر الأساسية لمحضر مجلس الأمن القومي المصري يوم 30 سبتمبر (أيلول) 1973، الذي ناقش قرار الرئيس بالذهاب إلى الحرب خلال أيام، وأن مصر توشك على السقوط تحت الضغوط الاقتصادية.. وتوقف عملية التنمية الاقتصادية والاجتماعية والزيادة السكانية ومضي عنصر الوقت مع زيادة التعنت الإسرائيلي. ولا شك أن هذا المحضر يعد وثيقة بالغة الأهمية للصعوبات الكبيرة التي كانت تضغط على القيادة المصرية وتفرض عليها التحرك.

ويأتي العمل العسكري الكبير يوم 6 أكتوبر.. وينطلق الرئيس السادات في تنفيذ مفهومه الاستراتيجي لهذا العمل.. أي أنه عمل عسكري كبير ذو أهداف محدودة عسكريا.. يأمل من خلاله تحريك عملية سياسية نشطة تحقق مطلب مصر في فرض الانسحاب الإسرائيلي الكامل من سيناء. وفي مسار تنفيذه لهذه الأهداف، ومعه مستشاره للأمن القومي حافظ إسماعيل، فتح قناة اتصال يومية مع الولايات المتحدة من خلال رسائل متبادلة بين مستشاري الأمن القومي في البلدين.. وكذلك بين رئيسي مصر والولايات المتحدة.. ثم يطرح أمام مجلس الشعب المصري يوم 16 أكتوبر رؤيته المتكاملة لشكل التسوية المطلوبة للصدام المصري - الإسرائيلي والإطار الزمني لتنفيذ هذه التسوية وآليات التفاوض في إطار المؤتمر الدولي الذي كان يطالب بانعقاده.

ويستمر مسار الصدام المسلح.. وتهتز سوريا.. ويصمم السادات ومصر على المضي في العمل العسكري.. وهنا ينبغي أن أتناول أحداث ثلاثة أيام بالغة الأهمية.. أعتقد أنه كان لها تأثيرها الحاسم في مسار الصدام.. وتطور العمل السياسي بعد ذلك.

أما الحدث الأول، فهو قيام السفير البريطاني في القاهرة بإيقاظ الرئيس السادات الساعة 4:00 من فجر يوم 13 أكتوبر.. وهو اليوم الذي كان من المقرر فيه أن تقوم القوات المصرية بتطوير عملياتها العسكرية وتوسيع رؤوس كباريها للاقتراب من ممرات وسط سيناء أو احتلالها.. ثم تقرر تأجيل التطوير لفترة 24 ساعة لأسباب لوجيستية.

نقل السفير البريطاني فجر هذا اليوم، 13 أكتوبر، رسالة من رئيس وزراء بريطانيا، إليك هيوم، بأن هنري كسنجر وزير الخارجية الأميركية يقدم اقتراحا للمصريين مفاده أن إسرائيل لن ترفض وقف إطلاق النار على الخطوط الحالية للقوات المتحاربة وذلك إذا ما وافقت مصر.. وقد رفض الرئيس السادات هذا المسعى في غياب أفق سياسي متكامل للتعامل مع الصدام وتوابعه السياسية، وكذلك نتيجة للمطالب السورية بأن تضغط مصر عسكريا في الجبهة الجنوبية بقصد تخفيف الوضع الصعب الذي كان الجيش السوري يتعرض له عندئذ. وكان السفير السوفياتي قد أجرى هو الآخر اتصالا مباشرا مع الرئيس قبل ذلك ببضع ساعات وفي الدقائق الأولى من السبت 13 أكتوبر مطالبا بالنظر في وقف القتال. تضمنت رسائل الترغيب الأميركية لتحقيق توقف الاقتتال إشارة إلى اقتناع أميركا بأنه لا ضمان لديها بأن الأوضاع العسكرية للطرفين لن يصيبها التغيير.. في تلويح بأن النجاح المصري قد لا يستمر طويلا. وجاء الحدث الآخر صباح يوم 14 أكتوبر، عندما نجحت القوات الإسرائيلية التي كانت تحتل مواقع جاهزة في الأرض المرتفعة التي تطل على نقاط انطلاق وتطوير الهجوم المصري.. في إلحاق خسائر فادحة على جانبنا.. وتبدأ بالتالي ملامح التحول في ميزان المعركة. ويقع الحدث الأخير عندما تعبر القوات الإسرائيلية إلى غرب القناة.. وتدور سلسلة أخطاء عسكرية مصرية تحت الضغط الإسرائيلي.. ويضطر السادات، في غياب احتياطيات مصرية كبيرة يمكن بها تهديد الاختراق الإسرائيلي بشكل فوري حاسم.. أقول ويضطر السادات إلى إبلاغ الجانبين الأميركي.. وكسنجر في موسكو.. والسوفياتي فجر يوم 21 أكتوبر بقبول مصر لوقف إطلاق النار. وتمر أيام ثقيلة سوداء وتتهدد أوضاع الجيشين الثاني والثالث.. وهنا تقف العسكرية المصرية لكي تهزم الهدف الإسرائيلي في احتلال أي من مدينتي الإسماعيلية أو السويس على ضفة القناة.. ويتوقف القتال.. ومعه يصل وزير خارجية مصر إلى واشنطن لطرح الأفكار المصرية في كيفية تحقيق الانفراجة المباشرة المطلوبة لتأمين استقرار الموقف العسكري على جبهات القتال ثم البحث في التحرك الاستراتيجي للتسوية وشكلها وآليات القيام بها. ومرة أخرى، يعود كسنجر لكي يلعب تأثيره ويقدم طروحاته بالتحرك نحو تسوية من خلال خطوات وإجراءات متدرجة شبيهة بما سبق أن طرحه في لقاءاته مع حافظ إسماعيل في فبراير ومايو 1973 ولكن في إطار واقع جديد هو نجاح مصر في هز سكون الموقف وتحقيقها لنجاحات عسكرية كبيرة، كشفت عن تحولات رئيسية في القدرات المصرية ومستوى أداء العسكريين المصريين. وتسير الأمور في إطار تسوية على مراحل تبدأ بزيارة كسنجر يوم 6 نوفمبر (تشرين الثاني) 1973 وتستمر حتى صدمة زيارة السادات إلى إسرائيل في نوفمبر 1977.

وأقول في هذا المجال، وبكل صدق وأمانة التحليل، إن نهايات الصدام المسلح في الأسبوع الأخير من الحرب، ووجود الجيش الإسرائيلي في غرب القناة، ورغم كل النجاحات المصرية والحشد الذي نجحت مصر في بنائه لتطويق المواقع الإسرائيلية في الأسابيع التالية لوقف إطلاق النار، وصولا إلى فض الاشتباك الأول في يناير (كانون الثاني) 1974.. فقد كان لهذا الواقع تأثيره في المسار الذي سارت إليه الأحداث وصولا إلى زيارة القدس والاتفاقات الإطارية لـ«كامب ديفيد»، ثم معاهدة السلام المصرية - الإسرائيلية في عام 1979.

كان البعض في مصر وعلى مستوى العالم العربي يرفضون أصلا فكرة وقف إطلاق النار حتى يصل الجيش المصري والسوري إلى خطوط الهدنة لعام 1949 ثم يفرضون التسوية من المنظور العربي.. ولم تكن القدرات المتاحة تمكن الجيشين من ذلك.. وغاب عن الكثيرين أن الحرب والعمل العسكري هما لتحقيق أهداف سياسية.. وهي في حالتنا تلك تحقيق التسوية السياسية وفرض الانسحاب الإسرائيلي من الأراضي المحتلة وفقا لقرارات القمة العربية في الخرطوم.. وكان مفهوم التسوية الفلسطينية بالشكل الذي نفهمه حاليا لم يتبلور بعد.. غاب عنهم أن الحرب هي مجرد امتداد للسياسة بوسائل أخرى.. وأنه فور توقف الاقتتال فإن الدبلوماسية تعود للعمل بذكاء وتصميم.. ولكن يجب أن تتاح لها الأرضية الملائمة لتحقيق النجاح.

كان البعض الآخر، في مصر أساسا، يتفهم احتياجات وضغوط ضرورات وقف الصدام المسلح عند هذه المرحلة وفي هذا التوقيت.. ولكنهم كانوا يرون الكثير من عيوب المنهج الذي سار فيه السادات.. وأن الارتكان على كسنجر والولايات المتحدة لن يحقق الكثير لمصر. وكتب في هذا المجال الكثير.. ومن بين أهم ما كتب في هذا الشأن آراء محمد حسنين هيكل.. ومذكرات حافظ إسماعيل في كتابه القيم «أمن مصر القومي».

وأعتقد اليوم، مثلما كان تقديري حينذاك، أن هذه الآراء لم تعط اهتماما كبيرا لصعوبات مصر في إعادة إمداد قواتها بالاحتياجات.. وهي ضخمة. لقد كشفت معركة الأسابيع الثلاثة عن حجم هائل من الخسائر التي يمكن أن يتعرض لها هذا الطرف أو ذاك.. فقدت إسرائيل ما يقرب من ألف دبابة.. ومئات المركبات المدرعة في أيام الصدام على الجبهة المصرية فقط.. كانت الصواريخ المضادة للدروع تفتك بالدبابات على الجانبين بمفهوم الالتهام!.. إلا أن الولايات المتحدة كانت تصمم، وقد جاء ذلك في الكثير من كتابات كسنجر في السنوات التالية.. على ضرورة عدم السماح بحال من الأحوال بأن يهزم السلاح السوفياتي، في هذه المواجهة، السلاح الأميركي. ولا شك أن من يقرأ مقالاتي في «الأهرام» مثلما جاء ذكره بعاليه، يتبين الكثير من الوقائع في هذا الصدد، فقد جاء في بعض يومياتي التي عالجت هذه الفترة، طلب الرئيس السادات من السفير السوفياتي في القاهرة أثناء اللحظات الحرجة للصدام في بداية أسبوعه الثاني، مائتي دبابة بشكل فوري لتعويض خسائر الوحدات المدرعة المصرية.. ووصلت الدبابات في نهاية نوفمبر أو بداية ديسمبر (كانون الأول) حسبما أتذكر.. أي بعد 6 أو 8 أسابيع. وطلب الرئيس من الجنرال لاشنكو، الذي أوفدته القيادة السوفياتية للتعرف على الموقف العسكري على جبهات القتال بعد وقف إطلاق النار، أن يقوم السوفيات بتعويض خسائر القوات الجوية المصرية، وبالذات في المقاتلات «الميغ 21» وبأعداد كبيرة. وقال السوفياتي للرئيس، يا لدهشتي، إنه ليس لديهم الأعداد الكافية من المقاتلات «الميغ 21».. وإن كانوا يستطيعون الاستغناء عن أعداد من المقاتلات القديمة «الميغ 17».. وهو طراز لم يعد له تأثيره في معركة السيطرة الجوية. وكان السادات قد أبلغ الضيف السوفياتي أن مطلبه ينبع أساسا من إعداده لعملية عسكرية كبيرة تستهدف تطويق وحصار ثم تدمير القوات الإسرائيلية في غرب القناة إذا لم تنجح جهود إزاحة الإسرائيليين إلى الجانب الشرقي من القناة بالوسائل السلمية السياسية التي كان كسنجر يشرف عليها.

ولم يكن الالتزام السوفياتي بالدعم العسكري الكامل لمصر، بالتالي، متاحا، وهو الأمر الذي أتفهمه في ضوء تطور العلاقات المصرية - السوفياتية على مدى عامين سابقين.. على العكس من موقف السوفيات من سوريا.. ودعمها عسكريا بشكل كامل. ولا يفوتني هنا أن أذكر معلومات نقلتها سفارتانا في كل من دمشق وموسكو عن مصادر سورية.. عن قيام السوفيات، في ضوء المصاعب الضخمة التي كانت تتعرض لها سوريا أيام 8 و9 أكتوبر، وتحمل الوحدات المدرعة السورية لخسائر فادحة فرضت عليها الانسحاب إلى خلف خطوط الانطلاق الابتدائية لها في الجولان، مما أخذ يهدد العاصمة دمشق.. أقول إن المعلومات المتواردة كانت تؤشر إلى قرار سوفياتي بالالتزام بإمداد كبير لسوريا.. وصل بمقتضاه إلى اللاذقية، يوم 11 أكتوبر مساء، عدد أربعمائة دبابة سوفياتية على سفن نقل مختلفة.. وكشفت المصادر عن أن السوفيات سحبوا دبابات من ألويتهم المدرعة في جنوب روسيا لهذا الهدف. لا يجب أن يفوتني هنا الإشارة إلى قيام الجزائر وليبيا بإمدادنا ببعض الوحدات المدرعة.. ومدفعيات ثقيلة.. وكذلك المغرب.. إلا أن الدرس الذي لا يجب أن يغيب عن أي صاحب قرار مصري.. دائما.. أن من لا يصنع سلاحه الثقيل ومعداته المتطورة في كل عناصرها وأفرعها الرئيسية عليه أن يحذر من الدخول أو الانجراف إلى معركة حديثة من دون أن يتوفر له كل إمكاناتها ومتطلباتها.

لقد حاولت في السطور السابقة أن أتطرق بإيجاز كبير إلى الظروف التي حكمت مصر وقيادتها في محاولتها الخروج من مأزق هزيمة 1967.. وما عانته عندئذ من صعوبات داخلية وخارجية.. وما أصاب سياستها الخارجية من ضعف أو اهتزاز، سواء في أفريقيا أو آسيا أو على مستوى حركة عدم الانحياز، وغيرها من مجالات، ورغم ذلك فقد قامت دول الحركة.. فور توجيه ضربة 1973، بالالتفاف حول مصر في سعيها لاستعادة وضعيتها. لقد كتب الكثير عن انزواء الدور المصري في أفريقيا على مدى سنوات.. وأقول إن بداية اضمحلال هذا الدور والفاعلية تعود إلى ضربة 1967 والتي فرضت على الحكم المصري أن يعدل من أولوياته لكي يعطي تركيزه الأساسي لمحو آثار الاحتلال الإسرائيلي لسيناء، وبذا فقد كان انزواء فرضته الظروف.. وهو ما يخرج عن موضوع هذه المقالات.

سوف أتطرق في مقال مقبل إلى ظروف توقف جهود السلام وانكشاف عدم فاعلية الالتزامات الأميركية، حتى حينه، وبهذا تحرك الرئيس السادات في اتجاه صدمة زيارة القدس.. سعيا لتحريك التسوية واستعادة سيناء، خاصة أنه قد غاب الأفق العسكري عن إمكانات العمل المصري.. ومن ثم العودة إلى مفاوضات التسوية السلمية والوصول إلى محطة «كامب ديفيد» ومعاهدة السلام بكل معانيها ومغزاها.