طبول الحرب تدق في دمشق بعد تهاوي «فقاعة الإنكار»

الوضع قد اختلف كليا في العاصمة عما كان عليه قبل أشهر قليلة

TT

جن جنون ريفا عندما اتصل بها زوجها ليخبرها أنه وشقيقها قد تعطلا في طريق عودتهما من العمل خارج العاصمة السورية دمشق، وهو الطريق الذي لم يكن يستغرق عادة أكثر من 25 دقيقة في الظروف العادية، بسبب اشتباكات في الضاحية الشمالية أدت إلى شلل مروري تام.

وتتصاعد حدة التوتر بمرور الساعات، ولم يعد آمنا أن يكون المرء خارج منزله بعد حلول الظلام في دمشق، ولا سيما إذا كان محاصرا في ازدحام مروري خانق، وغير قادر على الحركة. وفي النهاية، اتصل الزوج مرة أخرى ليخبر زوجته أنه نجح في العودة لمكان عمله لقضاء ليلته هناك، وهو ما يعد تنازلا جديدا للمواطنين السوريين في عالمهم الذي يتغير بين الفينة والأخرى.

لقد امتدت الحرب ووصلت رحاها إلى قلب العاصمة دمشق، وإن لم تكن بنفس عنف ومدى الحرب في حلب وحمص، على الأقل حتى الآن، ولكن الشيء الواضح للعيان هو أن الوضع قد اختلف كليا في دمشق عما كان عليه قبل أشهر قليلة، حيث تجد نقاط التفتيش وأكياس الرمال كل نصف ميل، كما يقوم الجنود بتفتيش السيارات والبحث عن أسلحة بداخلها، وباتت الحركة البسيطة شيئا مستحيلا في العاصمة.

وتساءلت ريفا بعد عدة أيام: «إلى أين تتجه دمشق؟ هل سنكون حلب المقبلة؟ وكم تبقى من الوقت حتى يتم تدمير مدينتنا وأسواقنا؟».

وتعد دمشق هي مركز القوة الرئيسي للرئيس السوري بشار الأسد، والمعقل الذي حاول الأسد حمايته لعدة أشهر من الثورة التي تحولت إلى حرب أهلية دامية. وفي الوقت الذي تشتبك فيه قوات النظام مع الثوار في جميع أنحاء البلاد، كان الأسد مصرا على أن تكون دمشق، على الأقل، مكانا للحياة الطبيعية للتأكيد على أن الحياة ستستمر كما كانت عليه من قبل.

ولم تعد هذه الأوهام ممكنة الآن، حيث تسلل واقع الحرب إلى الحياة اليومية وأصبح هناك إحساس بحتمية التغيير، للدرجة التي جعلت مؤيدي النظام أنفسهم يتحدثون عن سوريا ما بعد الأسد، في الوقت الذي يتحدث فيه الثوار عن تشديد الخناق على هذه المدينة التي تعد هدفهم النهائي.

وكانت دمشق معروفة في السابق بالحفلات الصاخبة التي تستمر طوال الليل، أما الآن فلا يغامر بالخروج من المنزل بعد حلول الظلام إلا عدد قليل للغاية، حيث انتشرت عمليات الخطف بصورة كبيرة. وبات هناك نقص حاد في البنزين، ويشعر السكان بقلق بالغ من نقص الغذاء وزيت التدفئة، ولا سيما مع اقتراب حلول فصل الشتاء. ويتم إغلاق الشوارع في أي لحظة وتحويل اتجاه الطرق وغلق الكباري، وحتى الأهالي الذي يقطنون المدينة منذ وقت طويل وسائقي سيارات الأجرة يضلون طريقهم ويضطرون إلى تغيير اتجاهاتهم داخل وخارج ساحات وقوف السيارات حتى يتجنبوا الحواجز والشوارع المسدودة. وأصبح القصف ونيران المدافع الرشاشة معتادا للغاية، للدرجة التي جعلت الأطفال الصغار يعتادون على ذلك ولا يشعرون بالخوف.

وحتى عندما احتدمت الحرب في الأحياء المحيطة بدمشق في الآونة الأخيرة، كانت العاصمة السورية تعيش في «فقاعة من الإنكار»، وكان يبدو أن سكانها يشعرون على ما يبدو بأن الحرب تدور في مكان آخر غير مدينتهم - كان سكان المدينة مصممين على العيش بصورة طبيعية وكأن شيئا لم يكن، فكانت تقام الحفلات في الحدائق المفتوحة وتقام عروض لأحدث صيحات الموضة، كما استضافت الأوبرا السورية فنانين إيطاليين، كما كانت تقام حفلات عشاء فاخرة في السفارات، قبل أن يهرب السفراء بالطبع.

ومع الأيام الأخيرة من فصل الصيف، بدأت دمشق تختنق، حيث زادت أعداد نقاط التفتيش بصورة كبيرة، كما بدأ الشبيحة، الذين عادة ما يتم اتهامهم بأبشع جرائم القتل التي تشهدها البلاد، في الظهور في الفنادق الأجنبية في تحد كبير.

والآن، بدأت المدينة تشهد عمليات انتحارية بصورة أكثر تواترا، ويقول الثوار التابعون للجيش السوري الحر إنهم بدأوا يُحكمون سيطرتهم ببطء على الضواحي المحيطة بالمدينة، بهدف خنق الحكومة السورية رويدا رويدا. وتقول بعض العائلات إنها اضطرت لسحب أطفالها من المدارس وتعليمهم في المنزل، لأن الطريق من وإلى المدرسة بات يمثل خطرا داهما.

ولم تعد المناقشات بين الأصدقاء تدور حول «العالم الحقيقي»، على حد قول أحد الكتاب، ولكنها تدور حول مصير المشردين في حدائق المدينة وحالة الفزع التي تنتاب الأطفال. وقالت إحدى السيدات: «الناس يتحدثون عن الموت».

وبالنسبة لمراسل مقيم في العاصمة الفرنسية باريس كان قد حصل على ثلاث تأشيرات خلال الأشهر الأخيرة حتى يتمكن من تقديم تقارير بحرية في سوريا، فإن دمشق تبدو وكأنها مدينة تحت الحصار، وأصبح الخطر يحوم حول كل شيء، للدرجة التي جعلتنا نحجب الاسم الثاني للذين تم إجراء مقابلات معهم في هذا المقال حتى لا يتعرضوا للخطر.

وتزايدت عمليات خطف المواطنين السوريين الأثرياء بصورة مخيفة، وهو ما أثار حالة من الذعر الشديد بين قاطني الأحياء والمناطق الراقية. ويتحدث الناس في حي المزة، وهو حي مختلط سياسيا وعرقيا كان يعرف باسم بيفرلي هيلز دمشق، عن ابنة رجل الأعمال التي تعرضت للاختطاف منذ ثلاثة أسابيع ولم تعد لأسرتها إلا بعد أن دفع والدها فدية تصل لنحو 395,000 دولار، بعد أن تعرضت لاعتداء جنسي وتعذيب وترويع، حسب روايات السكان المحليين.

ويقول سكان الحي إن الخاطفين إما أن يكونوا من الجيش السوري الحر أو عناصر منشقة عن الجماعات المتطرفة أو «عناصر إرهابية أجنبية».

وقال رجل مسيحي أرمني - قال وهو يمزح إنه ينتمي لـ«أقلية داخل أقلية» - إنه لا يريد أن يلقي باللائمة على جماعة بعينها، مضيفا: «لا أرى أن هناك معارضة موحدة، حيث يطلق الناس على أنفسهم أسماء جماعات مثل الجيش السوري الحر أو السلفيين. في الماضي كان الجيران يعيشون جنبا إلى جنب - الدروز والمسيحيين والمسلمين - وكنا نقدم التعازي لأي شخص يصاب بأي مكروه، كنا نشارك في جنازات بعضنا البعض، ولم نكن نشعر بأن أحدنا مختلف عن الآخر». وأشار هذا الرجل، الذي يعمل أستاذا للغويات: «أشعر بمرارة في حلقي الآن عندما أتحدث عن ذلك».

وبينما يشكو الناس بصورة علنية من الفساد الحكومي - وحتى في المناطق العلوية المؤيدة للأسد مثل اللاذقية - فإنهم يشعرون بالخوف مما سيحدث بعد سقوط الأسد، ويدرك الكثير منهم بكل أسى أن انقسام المجتمع إلى مجموعات عرقية سوف يؤدي إلى الكثير من المآسي، على غرار ما حدث في البوسنة وفي العراق المجاور. وقال سمير، وهو من سكان حي بابا توما المسيحي: «لم يعد أحد منا يعرف من هو بالضبط، ومع أي جانب يقف».

وتعد ريفا الوحيدة في أسرتها التي تؤيد الأسد، أما بالنسبة للانتماءات السياسية الأخرى لهذه الأسرة الثرية فيقف شقيقها إلى جانب المعارضة، في حين تريد شقيقتها بكل بساطة أن يستمر نجلها البالغ من العمر 10 سنوات في الدراسة وأن تواصل عملها، وقالت شقيقتها الثالثة «إنني أستيقظ على حقيقة ما يحدث هنا، على الرغم من أنني أحاول نسيان ذلك».

وبالإضافة إلى النقص الحاد في المواد الغذائية وغيرها من المنتجات الضرورية، بات التدفق النقدي يمثل مشكلة كبيرة للسوريين، حيث أصبح من المستحيل تدفق الأموال إلى داخل البلاد بسبب العقوبات المفروضة على دمشق، علاوة على ارتفاع أسعار المواد الغذائية بصورة جنونية. وتقول إحدى شقيقات ريفا: «تضاعف سعر كيلو الطماطم في غضون ستة أشهر فقط».

وأصبح شيئا عاديا أن تذهب إلى ما لا يقل عن أربع محطات بنزين حتى تحصل على الوقود، وفي الليل يقوم مجموعة من الرجال ببيع البنزين «المهرب» في علب معدنية صغيرة.

وقال أبو خليل، وهو قائد الجيش السوري الحر في ضاحية دوما الواقعة في جنوب دمشق والتي شهدت قتالا عنيفا ويتم السيطرة عليها الآن من قبل الثوار، تتمثل «الخطة الحلم» في تطويق دمشق في نهاية المطاف وخنق المنشآت التجارية المتعطلة. وكان «مكتبه» مملوءا بشظايا الزجاج المكسور والأسلحة والفرش على الأرض ومجموعة من الشباب الذين يتسكعون وهم يدخنون التبغ.

وقال أبو خليل إن قوات المعارضة ليس لديها الأسلحة الكافية، في حين «تمتلك الحكومة طائرات الميغ ومدافع الهاوزر، التي نخاف منها أكثر»، ولكنه أشار إلى أن «المعارضة لديها القوة البشرية التي تمكنها من الضغط على دمشق من أحياء أخرى مثل الميدان».

وأضاف أبو خليل: «إننا نتلقى الأوامر من أنفسنا، لا من تركيا كما يفعل المقاتلون في حلب».

وفيما يتعلق بنظرته المستقبلية للبلاد، قال أبو خليل، الذي كان يملك محلا في السابق، يجب أن يكون هناك انتخابات حرة ونزيهة، مضيفا: «ولكن ينبغي أن يكون الرئيس سنيا، يعرف الله جيدا. ويجب على كل من يحمل السلاح الآن أن يتركه ويتخلى عنه». وأضاف أبو خليل بنظرة متفائلة: «لن تكون سوريا مثل سراييفو».

وتتصاعد أعمال العنف وتزداد الحواجز الأمنية يوم الجمعة من كل أسبوع. وفي الماضي، وحتى قبل شهر واحد من الآن، كان سكان المدينة يذهبون إلى الريف للاستجمام وتدخين النرجيلة ومشاهدة مباريات كرة القدم في الشاشات العملاقة، أما الآن فيجلس الناس في المنازل بعد أن تم إغلاق المحلات، كما تم إغلاق المدينة القديمة.

وفي بابا توما، قال صاحب متجر في بوتيك تيد لابيدوس الشهير إن العمل قد انخفض بنسبة 50 في المائة، مضيفا: «ربما يشتري شخص ما حلة لحفل زفاف أو لحضور حفل خاص، هذا كل ما في الأمر».

وقال طارق، الذي كان يشتري الكولونيا من أحد محلات بيع العطور: «يقدم الناس على شراء الأشياء الضرورية فقط، أما في مهنتي فيجب أن تكون رائحتي جيدة». وعلى الرغم من ذلك، أشار طارق إلى أن عمله قد انخفض بنسبة 40 في المائة، مضيفا: «حتى أكبر المحامين في دمشق يعانون الآن».

وخلال الأسبوع الماضي، تم تنظيم حفل للموسيقى ورقصة الصلصا من قبل مجموعة من الشباب. وقالت روني، وهي فتاة تبلغ من العمر 27 عاما وتعمل مسؤولة تسويق بإحدى الشركات: «إننا نحاول أن نعيش بشكل طبيعي». ومع ذلك، تم إغلاق قاعة الرقص قبل منتصف الليل، في بلد اعتاد فيه الناس على السهر حتى الفجر. وأضافت روني: «اعتدنا الرقص حتى الساعة الخامسة أو السادسة صباحا، ولكننا جميعا نخشى الآن من قيادة السيارة بالليل، علاوة على أن عدد سيارات الأجرة التي تعمل بالليل بات قليلا للغاية».

وأشارت روني إلى أن الحياة قد توقفت تماما بالنسبة لجيلها، وانهارت العلاقات الاجتماعية بسبب الضغوط، وتأجلت الدراسة، ولم يعد بإمكان الناس تنظيم حفلات الزفاف التي اعتاد السوريون عليها.

واستطردت روني في حديثها قائلة: «كنت مخطوبة لمدة ثلاث سنوات، ولكن خطيبي فقد عمله ولم يكن معه مال، ولذا هاجر إلى الولايات المتحدة، أما أنا فرفضت الرحيل لأنني أعيل أسرتي».

ومع ذلك، انخفض مرتب روني بنسبة 10 في المائة، كما ارتفع سعر إيجار العقار الذي تسكن به. وعن ذلك تقول روني: «اتصلت صاحبة العقار واعتذرت قائلة إن كل شيء أصبح غاليا للغاية بسبب الحرب».

وتجلس روني على مكتبها كل يوم في منطقة كفرسوسة بدمشق تسمع أصوات البنادق ودوي الانفجارات. وتقول: «ماذا عساي أن أفعل؟ استيقظ كل يوم وأستقل سيارة أجرة إلى العمل وأدعو الله أن لا يصيبني أذى».

ولعل أكثر ما يقلق الدمشقيين هو الواقع القاسي للحرب الأهلية التي يقاتل فيها السوريون أنفسهم. وبموجب القانون السوري، يتعين على السوريين التبرع بالدم عندما يتخرجون من الجامعة أو من المدرسة الثانوية أو عندما يحصلون على رخصة قيادة، وعن ذلك تقول روني: «يعني هذا أن الدماء التي تجري في عروقنا جميعا هي دماء واحدة، بطريقة أو بأخرى. والآن، عندما يقتل هؤلاء الرجال بعضهم البعض، فهذا يعني أن الشخص قد يقتل شخصا آخر يحمل دمه هو في عروقه. إنه ضرب من الجنون».

أما أكثر شيء يؤرق السوريين فقد تم التعبير عنه من خلال غرافيتي على أحد الجدران في مدينة الزبداني في المدينة القديمة يقول: «إننا لا نحبكم، وقريبا سنكون في قلب دمشق».

* خدمة «نيويورك تايمز»