قبضة النظام الحديدية على قلب دمشق لم تتمكن من منع الانفلات الأمني

صفحات مواقع التواصل الاجتماعي تغص بعشرات الصور لمفقودين غالبيتهم من دمشق وريفها

TT

بعد ثلاثة أيام من البحث تمكن «عرفان ن» من الوصول إلى معلومات مؤكدة عن مكان وجود والده الذي يعمل موظفا في إحدى المؤسسات الحكومية في دمشق، بعدما فقد الاتصال معه، وكان في وسط العاصمة مع سائق يعمل لدى شركة خاصة.

يقول عرفان «خمنا بداية أن يكون الوالد (55 عاما) قد اختطف من قبل الجيش الحر أو أي من عصابات الخطف بهدف الحصول على فدية، حيث قمنا بسؤال عند كل الحواجز الواقعة على الطريق الذي سلكته السيارة، لكن جميع الحواجز نفت مرور سيارته من عندها، كما لم نتلق أي اتصال من الجهة الخاطفة في حال كان الخطف بغرض الحصول على فدية، لذلك رجحنا أن يكون معتقلا لدى الأجهزة الأمنية، وأعدنا البحث مجددا عند الحواجز. لكن بعد تأمين واسطة عن طريق معارف يعملون في الأمن، تم حصر المنطقة التي فقد فيها، وبعد جهد اعترف الجنود عند أحد الحواجز بأنهم قاموا باعتقال الوالد والسائق واحتجاز السيارة، وتم ترحيله إلى أحد الفروع الأمنية وسط دمشق، وبمراجعة ذلك الفرع قيل لنا إنه رحل إلى فرع آخر، ومنه إلى فرع ثالث، وهكذا حتى وصلنا إلى مكان احتجازه». وما كان ذلك البحث ممكنا، بحسب ما قاله عرفان «لم تكن معنا شخصية أمنية مهمة تساعدنا». أما عن سبب الاعتقال فيقول عرفان «تشابه أسماء». وبعد العثور على مكان الوالد، بعد ثلاثة أيام من الشقاء والخوف، بدأت مشقة إطلاق سراحه وامتدت لثلاثة أيام أخرى، وبعدما ثبتت براءته والشخص الذي يرافقه ودفع المعلوم لهذا وذاك، خرجا وكانا بحالة يرثى لها، فقد تعرض الوالد للضرب والإهانة، أما السائق الذي كان يرافقه وكان شابا فتم تعذيبه بشكل وحشي. قصة والد عرفان واحدة من مئات القصص التي يعيشها السوريون بعد تفشي حوادث الاختفاء القسري في دمشق وريفها خلال الأشهر الأخيرة وتفاقم الانفلات الأمني في ريف دمشق المحيط بالعاصمة. وإذا كانت قصة والد عرفان انتهت نهاية سعيدة فإن العشرات من القصص المماثلة انتهت بفاجعة بالعثور على جثة المفقود، أو أن نهايتها لا تزال مفتوحة تنتظر رحمة الله. الأربعاء الماضي عثر على جثة شخص (45 عاما) مرمية على الطريق الدولي، وبعد التعرف عليه تبين أنه مسيحي ويعيش في جرمانة، وكان قد اختفى منذ نحو شهرين ولم يتمكن أهله من الوصول إلى أي معلومة تفيدهم بهوية الجهة الخاطفة، حيث لم يتصل بهم أحد ولم تُطلب منهم فدية، وسألوا عنه لدى الأجهزة الأمنية والشرطة والمستشفيات وكل مكان ولم يتوصلوا لأي شيء يبدد قلق زوجته وأطفاله الذين فجعوا بنبأ العثور على جثته كما روت جارتهم التي اختفى منذ نحو ثلاثة أشهر ابنها (30 عاما)، وهو مسيحي ويعمل موظفا حكوميا، وتقول «حتى الآن لم نعرف عنه شيئا، ولا من قام بخطفه. كلمنا قبل الخروج من عمله في حرستا ولم يصل إلى بيته في جرمانة». وتبكي الجارة بحرقة دون قدرة على البوح بأنها تخشى أن يلقى ابنها مصيرا مشابها لمصير حسان. مع تكرار الحوادث بات السوريون يمتلكون خبرات في التحري عن المخطوفين والمفقودين، والتنبؤ بالجهة الخاطفة، فيقال إن عصابات السرقة تبلغ عن المخطوف وتتصل بذويه للحصول على فدية، علما بأن دفع الفدية لا يعني بالضرورة عودة المخطوف سالما، فالشاب محمد رجب من مساكن برزة مفقود منذ أسبوع، وقد دفع ذووه الفدية لكن الشاب لم يعد وما زال مصيره مجهولا.

ويقول الناشط أبو محمد الدمشقي، لـ«الشرق الأوسط»، إنه غالبا إذا «لم تظهر أي معلومات عن المفقود خلال أسبوع فهو إما معتقل لدى الأمن أو قتل». ويوضح أن للاختطاف عدة أسباب، ومعرفة السبب تحدد الجهة التي قامت بذلك، فهو إما يكون بهدف الحصول على المال وتقوم بذلك عصابات السرقة، ويذهب ضحيتها أشخاص أبرياء يتم اصطيادهم من على الطرق السريعة، وتنهي غالبا بإعادة المخطوف والضحايا عادة من الرجال، أو بهدف الابتزاز والانتقام ويقوم بها الشبيحة، ويكون الضحايا شبابا ونساء وحتى أطفالا من المناطق الساخنة، لا سيما محيط العاصمة دمشق، ويصعب التكهن بالنهاية فقد يحصلون على المال ثم يقتلون المخطوف تماديا في الانتقام والإذلال، أو تكون عمليات الخطف بهدف الانتقام أو المقايضة على مخطوفين فقط، وعادة يقوم بهذه العمليات الجيش الحر ويستهدف الموالين للنظام والوشاة «العوانية» والشبيحة وعناصر الأمن والجيش، وغالبا تنتهي إما بالتصفية الفورية بعد تصوير فيديو للمخطوف يشمل التهم التي ينسبونها له في محكمة ميدانية، أو يقايضون النظام على معتقلين من الثوار. بالإضافة إلى ذلك تقوم الأجهزة الأمنية باختطاف المطلوبين لدى مرورهم من الحواجز وتنكر اعتقالهم ولا يعرف عنهم أي شيء ربما لعدة أشهر.

يقول عامر، ولديه مخزن في منطقة ببيلا، إن «مسلحين من الجيش الحر أوقفوه وكان في السيارة، وبعد أخذ ورد معهم عرفوا أنه من الثوار فتركوه بعد أقل من ساعة». ويضيف «كان معي مبلغ في السيارة، وخشيت أنهم يريدون السرقة، لكن اتضح لي من خلال أسئلتهم أنهم يوقفون كل من يشكون أنه شبيح أو شيعي أو علوي. كانوا غاضبين جدا ويريدون أي شخص لينتقموا. سمعت أحدهم يقول إنه فقد كل عائلته في القصف على ببيلا». أما زينب، التي اختطف الجيش الحر ابنها في دوما، فقالت إنها لم تعد تتعاطف معهم «عاد ابني بعد اختطاف ثلاثة أيام من قبل الجيش الحر وجسده مدمى وغير قادر على الحركة ولا الكلام. لقد ضربوه بوحشية، فقط لأنه موظف دولة، وبعد أن تأكدوا أنه غير موال للنظام ولا يتعاون مع الشبيحة أخلوا سبيله وأعطوه 200 ليرة أجرة تاكسي كي يصل إلى البيت في المخيم». وتضيف زينب «لن أسامح الجيش الحر.. بماذا يختلف عن الشبيحة؟». الناشط أبو محمد أشار إلى الفوضى وممارسات النظام التي تتعمد خلط الأوراق، وقال «في ظل غياب القانون والدولة صارت للسوريين وسائلهم الخاصة لمواجهة الفوضى والتحذير منها، حيث نشأت مجموعات على مواقع التواصل الاجتماعي ترصد الحواجز وسلوكيات الجنود وممارساتهم عندها، وتبلغ عن كل حالة خطف تجري هناك، عبر نقل شهادات شهود عيان بشكل يومي. ومن القصص التي ذكرت في تلك الصفحات اعتقال جنود عند الحاجز فتاة كانت بملابس العرس في سيارة متوجهة من منزلها في مخيم اليرموك إلى صالة الأفراح الأسبوع الماضي، وخبر عن قيام الشبيحة صباح أول أيام عيد الأضحى برمي جثث أربع فتيات مجهولات الهوية وقد تعرضن للاغتصاب والتعذيب الشديد في أحد الجوامع بالغوطة الشرقية في ريف دمشق. كما حذرت تلك الصفحات من حواجز تعتقل الشباب المتخلفين عن الالتحاق بالخدمة الإلزامية، وحاجز آخر وسط العاصمة يقوم مسؤولوه أحيانا بإذلال الشبان في سن العشرين من الطلبة لعدم التحاقهم بخدمة العلم، ويضربونهم وسط الشارع على مرأى من المارة.. وهكذا.. كما توجد مجموعات على موقع «فيس بوك» تقوم «برصد حوادث الاختطاف، وتنشر مواصفات الخاطفين في حال مشاهدة عملية الخطف، وأكثر المناطق التي تتكرر فيها حوادث الخطف، فثمة منطقة على طريق دمشق - مشروع دمر أطلقوا عليها اسم مثلث برمودا تنشط فيها عصابات السرقة التي تقوم باختطاف رجال أعمال وميسوري الحال بهدف الحصول على فدية»، كما تعنى تلك الصفحات التي يشارك فيها شباب وصبايا مدنيون بنقل كل ما يردهم من معلومات تتداول شفاهة، بينها إشاعات وأخبار غير مؤكدة للحذر، منها ما قيل عن «قيام شبيحة وعبر موظفين في البنوك السورية في وضع قوائم بأرصدة من بقوا من رجال الأعمال في البلد، ومن ثم القيام باختطاف وطلب فدية تعادل حجم الرصيد في البنك».

إلا أن أهم المجموعات التي تعنى بشأن المفقودين صفحة «مفقودون وتبقى الإنسانية»، التي تنأى عن التوجه السياسي لتعنى فقط بالإعلان عن المفقودين مع نشر صورهم ومعلومات تساعد في التعرف عليهم. وتغص الصفحة بعشرات الصور لشبان وشابات وأطفال وأمهات مفقودين غالبيتهم من دمشق وريفها. وأحدث الصور المنشورة لخمسة أشخاص من عائلة «علي بك» من حي الميدان، منهم شقيقان فقدا في أوقات متفاوتة، وبينهم أيضا اثنان يعانيان من أمراض وبحاجة للدواء. وبزيارة إلى تلك الصفحة يتضح حجم المأساة التي يعيشها السوريون، لا سيما سكان العاصمة التي ما زال قلبها في قبضة النظام الحديدية، دون أن يعني ذلك منحها حدا أدنى من الأمان والأمن.

وتقول هناء (50 عاما)، مهندسة من سكان حي شرقي ركن الدين «لم يعد أحد بمأمن حتى التجول منفردين في الحارة لم يعد آمنا، بعدما كنا نسهر حتى ساعة متأخرة من الليل»، وتتساءل «ما الذي جرى حتى انفلت الأمن على هذا النحو؟.. فالنظام لم يسقط بعد في دمشق، ورجاله يسكنون الشوارع.. كيف يجري كل ذلك أمام أعينهم إذا لم يكونوا هم مشاركين فيه!!».

في شارع الحمرا صمت سائق التاكسي للحظات قبل أن يرفض طلب زبونته أن يقلها إلى حرستا.. قال لها «لا عيني.. الوضع هناك غير آمن»، ليأخذ زبونا ذاهبا إلى المزة أوتوستراد بعد أن سأله «إذا كان المزة بساتين مالي مصلحة». وقال سائق التاكسي «لم نعد نأمن التجول في دمشق.. ثلاثة من أصدقائي سائقي تاكسي خطفوا الشهر الماضي ولا يعرف شيء عن مصيرهم، اثنان اختطفا في التضامن والآخر في عربين.. الثلاثة لديهم أطفال وعائلات، ووضعهم بالويل».