مشاهد من أمام القصر الجمهوري ليلة الثلاثاء عندما أحجم المتظاهرون عن اقتحامه

القنابل المسيلة للدموع أصابت الشرطة.. والمحتجون لم يستجيبوا للمحرضين على العنف

أحد المحتجين على قرارات مرسي وأصيب أثناء المواجهات مع أعضاء في جماعة الإخوان المسلمين أمس يقف بجانب الأسلاك الشائكة في محيط قصر الرئاسة (رويترز)
TT

فجأة سمعنا صوت إطلاق ثلاث قنابل للدخان، وقنبلة صوتية، تعالى الهتاف «اثبت مكانك»، فضحك البعض مرددا: «لا غيروا الهتاف، إنه لا يفهم، سيعتبره بمثابة طلب منه للبقاء في مكتبه وليس الرحيل عن القصر الرئاسي».

يوم الثلاثاء في ميدان التحرير كان بضعة آلاف ما زالوا يتظاهرون في «سوق عكاظ» حيث تنتشر اللافتات القماشية المعبرة عن مختلف التيارات والأحزاب الوطنية ويرتفع علم البلاد فوق الجميع.

في المنصة الكبرى التي دشنت منذ معاودة ميدان التحرير نشاطه في مواجهة الإعلان الدستوري الذي أصدره الرئيس المصري المنتخب محمد مرسي، ثم لاحقا الدستور الذي وافقت عليه الجمعية التأسيسية رغم رفض جميع القوى الوطنية ما عدا تلك المتحالفة مع الإسلاميين، كان الخطباء يتناوبون في إلقاء الكلمات التي تتوعد الرئيس وجماعة الإخوان المسلمين التي باتت تهيمن إلى حين على المشهد السياسي الآن في مصر.

فقد الميدان الكثير من بريقه الأسطوري لكن تلك الاحتجاجات نجحت في جذب بعض من باتت تسميتهم الحركية «أعضاء حزب الكنبة»، في إشارة إلى هؤلاء الذين فضلوا الصمت أغلب الوقت في ما مضى.

اتخذ البعض قراره بالذهاب إلى قصر الاتحادية في ضاحية مصر الجديدة بشرق القاهرة، واستقلوا مترو الأنفاق، إلى محطة كوبري القبة ليتخذوا طريقهم مشيا على الأقدام، وفي شارع الخليفة المأمون المؤدي إلى ميدان روكسي ومنه يمينا إلى الشارع المؤدي إلى قصر الاتحادية، سأل شاب عن مكان القصر، وقال إنه قرر النزول اليوم من دون أن يعلم أهله وإلا لمنعوه من الوجود أمام القصر الرئاسي خشية حدوث ما لا يحمد عقباه.

عند محيط القصر كانت عناصر الأمن المركزي تتمترس خلف الأسوار الشائكة التي وضعت بامتداد عرض الشارع لمنع المتظاهرين من الوصول إلى أسوار القصر المنيعة.

أمام الأسلاك الشائكة كانت هناك مباراة كلامية مع الشرطة، فالمتظاهرون يقولون إنهم يريدون مظاهرات سلمية الطابع بعيدة عن العنف، وضع بعضهم نفسه إلى جانب قوات الشرطة وأمسكوا بأيدي بعضهم البعض مكونين سلسلة بشرية كحاجز إضافي بين بقية المتظاهرين وقوات الأمن.

كانت قوات الأمن ملتزمة بضبط النفس رغم الكلمات القاسية أحيانا التي يوجهها أحدهم إليها، فجأة دوت أصوات قنابل الغاز المسيلة للدموع، فتعالت الصيحات والهتافات التي تعلن التحدي وتؤكد عدم الخوف، كان أمرا مأساويا فتلك القنابل أصابت بالأساس رجال الأمن أكثر من المتظاهرين أنفسهم.

بدت تلك القوات وكأنها غير مدربة على تفادي تأثير ما تطلقه من قنابل لإرهاب المتظاهرين، لكن في المقابل كان بعض المتظاهرين أكثر حنكة وخبرة في التعامل مع تأثيرات القنابل المزعجة.

بعد دقائق انسحبت الشرطة بشكل غير متوقع وتخلت قوات الأمن المركزي التي كانت تقف في مواجهتنا عن مواقعها، أزاح بعض الشباب المتحمس السلك الشائك الممدود بعرض الشارع المؤدي إلى قصر الاتحادية.

اندفع الجميع للوصول إلى سور القصر، لم تستخدم الشرطة السلاح ولم تحدث أي اشتباكات، على الجانب وقف بعض ضباط الأمن المركزي فرادى أو بجوار عساكرهم، اتجه إليهم البعض ليشيد بقرارهم بالانسحاب وعدم الاشتباك. لكن البعض كان يريد العنف ويحرض عليه فلم يستجب أحد، لتنطلق الهتافات «سلمية.. سلمية».

احتضن المتظاهرون الضباط وهدأوا من روع العساكر ونصحهم بعد لمس أعينهم الدامعة بتأثير القنابل المسيلة للدموع التي خلفت وراءها فوضى عارمة.

انطلق المتظاهرون فرحا وهم يهتفون بهذا الانتصار غير المتوقع والسريع، بعد انسحاب قوات الأمن، لاحقا قالت مصادر «الرئاسة» إن الرئيس مرسي أعطى تعليماته بعدم المساس بالمتظاهرين وحث قوات الشرطة على التحلي بضبط النفس وعدم الاشتباك معهم، لكن حقيقة المشهد أن أي اشتباك كانت نتائجه ستكون مروعة ووخيمة للغاية على الطرفين.

كان الجنود المرعوبون يحملون أسلحة بسيطة ودروعهم، ولقلة خبرتهم ولسوء تقدير من أطلق قنابل الدخان، كانت عيونهم تدمع وهم يفركونها أو يستخدمون مناديل ورقية لوقف الدموع.

كان هناك ضابطان مع بعض المتظاهرين، كان الحوار رائعا، قال الضابط «هذه تعليماتي»، فقال المتظاهرون «وأنتم إخوتنا».

كان أحد الضباط مشحونا بانفعالاته وكانت قسمات وجهه تعكس تلك الحيرة ما بين إطاعة الأوامر وما بين هؤلاء المتظاهرين.

بعدها بلحظات قفز أحد الشباب لا يزيد عمره على عشرين عاما، حيث قذف العربة المدرعة لقوات الأمن المركزي أمام القصر بالحجارة، وعلى الفور تجمع حوله العشرات ليمنعوه قبل أن يكونوا أيضا سلسلة بشرية لمنع أي اشتباك مماثل، مرددين مجددا هتاف «سلمية.. سلمية».

أمام الباب المؤدي إلى «الكوربة»، وهي من المناطق الأكثر كلاسيكية في مصر الجديدة، وقف الآلاف يهتفون بسقوط حكم المرشد مرددين خلف شباب يبدو أنهم من «الألتراس» العديد من الهتافات ضد مرسي بالرحيل وتطالب بدستور جديد خلافا للدستور الذي يسعى التيار «المتأسلم» إلى فرضه.

بعض المتظاهرين استخدموا الليزر ليشيروا إلى وجود بعض رجال الأمن الذين اعتلوا سطح القصر لتصوير المتظاهرين، فكان شعاع الليزر بلونه الأخضر الزاهي بمثابة إزعاج لهم.

فجأة سمع صوت قنبلة صوتية لم أحدد مكانها وسط الحشد الغفير، فتعالت الهتافات «مش هانمشي.. هو يمشي».

فجأة وقف أحد ضباط الجيش خلف الباب الحديدي الذي يفصل بين المتظاهرين والقصر الرئاسي، كان يحمل علم مصر قبل أن يضعه في «ساري» خلف السور في مكان واضح للجميع، فتعالت الهتافات مجددا: «الجيش والشعب إيد واحدة»، لكن البعض على الفور ندد بالهتاف واعترض محذرا من تجارب سيئة في الماضي عندما تعالت مثل هذه الهتافات في أكثر من مظاهرة تم فيها قتل بعض المتظاهرين.

بعدها بدقائق ظهر رجال أمن في أعلى سطح القصر الرئاسي لكنهم هذه المرة فاجأوا المتظاهرين عندما رفعوا أكفهم يصفقون فبادلوهم التصفيق في مشهد ليس له تفسير إلى الآن. وقف المتظاهرون يرددون الهتافات المناوئة للرئيس أمام باب قصره الرئاسي، خلف شباب يبدو أنهم متمرسون ومخضرمون في إلقاء هذه الشعارات والهتافات التي سرعان ما تتجاوب معها الجموع.

في العاشرة مساء كان المشهد لا يختلف في تفاصيله على مدى الساعات الأربع الماضية، باستثناء بعض الشعارات التي كتبت على جدران القصر وأسواره، في تحد واضح وعلني لسلطة الرئيس المنتخب. وقف بعضهم ممسكا بحجارة، التقطها من الأرض ليدق على أعمدة الإنارة محدثا جلبة وضوضاء كبيرة، لم يفهم أحدهم المغزى وتساءل في عفوية: «هل تريدون إزالة هذه الأعمدة؟!»، فقال له البعض باسما: «لا، لكننا نتعمد أن يسمع العالم صوتنا».

كان المشهد دراميا، فالمتظاهرون الذين وقفوا على مرمى حجر من مكتب الرئيس ومقر عمله كان بإمكانهم تسلق جدران القصر واقتحامه، لكنهم لم يفعلوا، وكانت الشرطة بكامل عتادها، لكنها لم تشتبك مع المتظاهرين.