أمام قصر الرئاسة.. بنتان من أجل مصر

لا تملكان «صوتا انتخابيا».. وأيديهما ترسم المستقبل على الجدران

هالة وياسمين ترسمان على جدران المنازل القريبة من قصر الرئاسة مستقبل مصر («الشرق الأوسط»)
TT

بعيدا عن الضوضاء التي أحدثتها أيدي العشرات من الشباب والباعة الجائلين في محاولة لكسر جدار فاصل بين المتظاهرين وقوات الحرس الجمهوري أمام القصر الرئاسي، كانت هناك أياد أخرى ترسم ملامح لمستقبل بات محفوفا بالمخاطر.. فعلى بعد خطوات من قصر الرئاسة المحاصر بالحواجز الإسمنتية، خرجت هالة وياسمين، من مدرستهما الثانوية بحي مصر الجديدة الراقي، غير عابئتين بالضوضاء حولهما، مستقبلتين أسوارا وجدرانا بابتسامات رقيقة؛ قبل أن تخرجا من حقيبتيهما المدرسيتين أدوات الرسم، ولكن ليست تلك المخصصة للحصص المدرسية، بل أدوات ربما تشكل المستقبل.

هالة وياسمين، بنتان من أبناء الطبقة الراقية في مصر، وترتديان زي إحدى المدارس الفرنسية بحي مصر الجديدة.. تتحدثان الإنجليزية والفرنسية بطلاقة، إلا أنهما لم تفكرا في الابتعاد عن محيط قصر الرئاسة الذي بدا حزينا على الدماء التي سالت بجواره قبل بضعة أيام في اشتباكات بين مؤيدين ومعارضين للرئيس.. ولكنهما قررتا بمبادرة ذاتية منهما تغيير الواقع بأيديهما الصغيرة، عبر كلمات بسيطة راحت الفتاتان اللتان تدرسان بالصف الأول الثانوي، عقب خروجهما من المدرسة، تطبعانها على كل جدار خال تريانه أمامهما.

«الثورة مستمرة.. العدل حق.. الحرية حق.. الكرامة حق».. كلمات فرغتها الطالبتان على أوراق بلاستيكية اشترتاها من مصروفهما الصغير، وخرجتا متحديتين بها صغر سنهما، رافضتين إلا أن يكون لهما صوت في مستقبل بلدهما؛ حتى وإن لم يكن لهما صوت انتخابي بعد. وتقول هالة (16 عاما): «أنا بعمل كدا عشان مصر.. مصر مش بتاعت حد لوحده. أنا بعمل دا عشان المستقبل.. عشان لما أكبر ألاقيها أحسن بلد في الدنيا.. إحنا اشترينا الورق دا بمصروفنا ورحنا عملناه في المطبعة عشان عاوزين تغيير».

وتتابع ياسمين، وهي صديقة هالة في الفصل نفسه: «أنا أهلي كلهم فلول من أبناء الطبقة الراقية.. وأبي وأمي انتخبا الفريق أحمد شفيق في انتخابات الرئاسة الماضية، وكل اللي بيهمهم الحفلات والموضة والخروجات وشراء الملابس الغالية.. بس أنا من بعد الثورة وأنا عاوزة أغير دا. وبقرأ دلوقت كتب في السياسة وبحاول أغير من ثقافة عائلتي»، وتتابع بفخر: «أنا خليتهم الجمعة اللي فاتت ينزلوا المظاهرة عشان يقولوا (لأ) للدستور، لأنه مش بيعبر عننا».

وبرد فعل طبيعي، ألقت الطفلة، التي حملت هموم بلدها أكثر من شيوخ كبار، بحقيبتها المدرسية الصغيرة وراحت تبحث داخل أوراق وكتب الدراسة عن شيء صغير.. وتابعت بعدما أمسكت بكتيب صغير من داخل حقيبتها: «هذا هو الدستور.. بص في المادة دي، ممكن يشغلوا الأطفال لأنها مادة عامة ومحرمتش عمالة الأطفال».. وتتابع: «أنا قريت الدستور بس مفهمتش حاجات كتير منه، بس أنا بخلي أصحابي الأكبر مني يفهموني.. وأنا مش عاجبني الدستور».

وتتابع الفتاتان في صوت واحد: «نحن لا يجوز لنا التصويت وأن نقول (لا) أو (نعم) على هذا الدستور.. ولكننا إذا لم يكن لنا الحق في تشكيل مستقبلنا لأننا صغار فلن ندع الآخرين يشكلونه دون موافقتنا»، وتابعت ياسمين: «لا بد أن يكون لنا يد في المستقبل، فنحن من سنتضرر منه إذا كان سيئا أكثر من أي شخص آخر، وإذا كنا لا نستطيع التصويت، فلنا الحق في أن نكتب ونرسم ونوعي الناس بأن هذا الدستور لن يفيد بلادنا، ويجب رفضه لأن مستقبل مصر ليس لكم وحدكم، ولكنه لنا قبل أن يكون لهؤلاء العواجيز اللي شوفناهم في التلفزيون وكتبوا الدستور..».

وبينما تقول أم حمادة، سيدة بسيطة تجلس على الرصيف الموازي للحاجز بين المتظاهرين المعترضين على الدستور، ومحيط قصر الرئاسة: «دا حتى حقوق المرأة مش موجودة في الدستور.. وغلوا الأسعار».

تجمع الفتاتان أوراقهما البلاستيكية وتحملانها تاركتين هذا المكان بحثا عن آخر تطبعان عليه رأيهما في تشكيل مستقبلهما على حائط آخر أو جدار آخر، جاذبتين أنظار الجميع وهما تحملان على عاتقيهما مستقبل هذا البلد؛ رافضتين أن يحول بينهما وبين بناء مستقبل عظيم حائل، حتى وإن كان هذا الحائل هو القانون الذي يمنعهما من أن تكون لهما كلمة في غدهما، أو الدستور الذي تريانه قاتلا لأحلامهما.