أهالي «نزلة السمان» يتذكرون موقعة الجمل.. والبحث عن الجاني مستمر

يتطلعون لرد اعتبارهم وعودة السياحة

لقطة من موقعة الجمل التي قام بها أنصار الرئيس المصري السابق حسني مبارك للانقضاض على المتظاهرين في ميدان التحرير («الشرق الأوسط») وعمر مروان أمين عام لجنة تقصي الحقائق وعبد الناصر الجابري
TT

لا أحد كان يصدق أن هذه المنطقة الموحية باسمها «نزلة السمان» والتي تعيش في كنف أهرامات الفراعنة بالجيزة، إحدى معجزات الدنيا السبع، ستتحول قبل عامين وتحديدا في الثاني من فبراير (شباط) عام 2011 إلى مثار غضب المصريين، وأن من بين أهالي النزلة سيخرج المئات ممتطين الجمال والخيول ومدججين بالعصي والكرابيج لمباغتة الثوار بميدان التحرير، حتى يعلنوا تأييدهم للرئيس السابق حسني مبارك، وتفريغ الميدان منهم، لكن أهالي النزلة فوجئوا برد فعل قوي من الثوار ووقعت اشتباكات ومواجهات عنيفة خلفت قتلى ومصابين، في موقعة أصبحت الأشهر في مواجهات الثورة المصرية، وعرفت إعلاميا بـ«موقعة الجمل».

ومنذ ذلك التاريخ وحتى الآن لا يزال الجميع في مصر يبحث عن الجاني، أو المتهم الرئيسي، الذي دفع بهؤلاء المواطنين البسطاء العاملين بالسياحة، للدخول في هذه المواجهة، التي أكسبت الثورة تعاطفا كبيرا، وحسمت فعليا سقوط نظام مبارك.

«الشرق الأوسط» زارت «نزلة السمان» التي تتناثر في شوارعها وأزقتها المحال والبازارات التي تبيع العاديات الفرعونية، والتقت عددا من أهلها الذين يعمل معظمهم في مجال الخدمات السياحية، وعلى رأسها تأجير الخيول والجمال للقاصدين زيارة الأهرامات، وذلك بعد عامين من اتهامهم بالتسبب في قتل شباب الثورة لتتعرف على أحوالهم ولمعرفة الدافع الحقيقي وراء خروجهم وتورطهم في تلك الأحداث.

يقول أهالي السمان إنهم ينتظرون رد اعتبارهم بعد أن تبين للجميع أنهم لم يتعمدوا مهاجمة الثوار ولم يثبت قتلهم أي شخص حتى الآن، كما ألقوا التهمة على جماعة الإخوان المسلمين، فيما آلت إليه أحوالهم المعيشية الآن من تدهور وركود بسبب توقف حركة السياحة منذ وصول الجماعة إلى الحكم.

وكانت محكمة جنايات القاهرة قد برأت، في حكمها الصادر في 10 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، جميع المتهمين في جرائم قتل والشروع في قتل وإصابة المتظاهرين خلال «موقعة الجمل»، التي راح ضحيتها 14 قتيلا، ونحو ألفي مصاب، إلا أن النيابة العامة المصرية طعنت على الحكم.

وضمت قائمة المتهمين، الذين برأتهم المحكمة 24 من قيادات نظام مبارك السابق، في مقدمتهم رئيسا مجلسي الشعب والشورى (غرفتي البرلمان) فتحي سرور وصفوت الشريف، ووزيرة القوى العاملة السابقة عائشة عبد الهادي، ورئيس الاتحاد العام لنقابات عمال مصر السابق حسين مجاور، وعدد من رموز الحزب الوطني (المنحل)، الذي هيمن على الحياة السياسية طيلة 30 عاما.

كما شمل حكم البراءة القيادي بالحزب الوطني (المنحل) النائب السابق بالبرلمان عبد الناصر الجابري، أحد أبناء نزلة السمان، والمتهم الرئيسي في حشد أبناء منطقته إلى ميدان التحرير، وقد توفي الجابري في محبسه خلال فترة التحقيقات، حيث كان يعاني من مرض مزمن.

يقول نجله جمال الجابري: «القصة كلها كانت عبارة عن بروباغاندا إعلامية ليس أكثر.. تسببت فيها جماعة الإخوان المسلمين من أجل توريطنا فيها دون ذنب ولكسب تعاطف الشعب معها حتى وصولها إلى الحكم وإسقاط الرئيس السابق حسني مبارك.. بينما تبين للجميع الآن وبعد مرور عامين من هذه الأحداث أننا لم نعتد على أحد ولم نقتل أحدا». ويتابع: «الآن يتم تكريم القتلة من الإسلاميين.. في حين يتنكرون من رد الاعتبار لأهالي نزلة السمان، رغم أن القضاء برأنا، ولم تثبت التهمة على أحد منا إطلاقا».

ويروي الجابري وقائع الأحداث السابقة وكيف تورط فيها أهالي نزلة السمان دون أي ذنب على حد قوله، قائلا: «بعد خطاب الرئيس السابق حسني مبارك يوم الثلاثاء 1 فبراير (شباط) 2011، والذي كان مؤثرا جدا وأثار تعاطف الشعب كله، خرجنا نحن أهالي نزلة السمان جميعا في مسيرة كبيرة بالجمال والخيول والطبول، في شكل احتفالي وكان بيننا أطفال ونساء، وذلك إلى مبنى محافظة الجيزة القريب من منطقة الهرم، من أجل أن نعلن فيها تأييدنا للرئيس مبارك ونطالب بعودة حركة السياحة المتوقفة بسبب المظاهرات التي عمت أرجاء البلاد، وتسببت في تدهور أحوالنا المعيشية».

وألقى الرئيس السابق حسني مبارك كلمة مسجلة مساء ذلك اليوم نفى فيها ترشحه مجددا لرئاسة الجمهورية، وأكد خلال كلمته أنه سيستمر خلال الشهور المتبقية له في ترتيب إجراءات تسليم السلطة، نافيا الهروب من المسؤولية وقال «عشت وخدمت وطني وسأموت على أرضه».

وفي صباح يوم الأربعاء، انطلقت مسيرة تأييد للرئيس السابق مبارك بدأت من نزلة السمان وحتى ميدان التحرير، يتقدمها أكثر من 50 جملا وحصانا، قاطعة بذلك مسافة تتعدى الـ(20) كيلومترا، حيث مرت المسيرة بشارع الهرم، ثم اتجهت بعد ذلك إلى ميدان مصطفى محمود بالمهندسين، واستمرت هناك نحو ساعة، ثم توجهت بعد ذلك إلى مبنى اتحاد الإذاعة والتلفزيون (ماسبيرو)، قبل اقتحامهم ميدان التحرير، فدارت معركة هناك مع الثوار بالحجارة والمولوتوف، امتدت حتى صباح اليوم التالي 3 فبراير (شباط) 2011.

ويوضح الجابري الابن أسباب ما حدث قائلا: «منذ يوم 25 يناير وانطلاق الثورة توقفت أحوالنا تماما، وكان لا بد من إيجاد حل لها بعودة السياحة.. خاصة أن أهالي السمان يعيشون يوما بيوم ويعتمدون فقط على إيرادهم اليومي، فكان لا بد من حل لإطعام حيواناتهم (الخيل والجمال) والتي تعد رأسمالهم، مما تسبب في ضغط عصبي على معظم الأهالي.. وبالتالي خرجنا لإيصال صوتنا والمطالبة بوقف المظاهرات وليس هدفنا قتل أحد».

وتقوم التجارة في نزلة السمان، على تربية وتأجير الخيول والجمال، التي تتغذى على (البرسيم والذرة والتبن)، ويقول العاملون هناك إن التكلفة اليومية لإطعام البهيمة تتجاوز الـ20 جنيها (نحو 3 دولارات)، وبالتالي يحتاج العامل إلى دخل يتراوح بين (100 إلى 200 جنيه يوميا)، حتى يغطي باقي مصاريفه الشخصية، وفي حال ركود حركة السياحة يضطرون إلى الاستدانة من أجل إطعام بهائمهم.

وكان أهالي نزلة السمان يؤجرون الجمال والأحصنة للسياح بمبلغ لا يقل عن (10 دولارات)، إلا أنه وبعد انخفاض أعداد السياح بشكل لافت وملحوظ، هبط سعر تأجير الحصان الآن لأقل من 50 في المائة مما كان عليه الوضع سابقا، حيث يستطيع السائح أن يفاصل في السعر ليصل المبلغ إلى (5 دولارات)، أما المصري فيستطيع أن يؤجر الحصان أو الجمل بأقل من دولار واحد.

وتتوسط المنطقة، التي تحتوي على مئات المحال السياحية، التي تبيع الآثار المقلدة والتحف الفرعونية، ملعب كبير مفروش بالرمال، يقوم أهالي المنطقة فيه بعمل سهرة خاصة للسياح في المساء، خاصة في فصل الصيف، ترقص فيها الأحصنة على وقع المزمار البلدي، ومن حوله بيوت الأهالي التي تتميز بالبساطة وفي خلفية معظم البيوت إسطبلات الحيوانات. ومن هذه الجلسة المسائية يمكن أن ترى الأهرامات في الخلفية.

ويتابع الجابري: «بدأ تجمعنا على كوبري أبو الهول وانطلقنا في مسيرة على امتداد شارع الهرم وحتى ميدان الجيزة للوقوف أمام مبنى محافظة الجيزة (المسافة من نزلة السمان وحتى ميدان الجيزة نحو 10 كيلومترات)، إلا أننا أثناء وجودنا هناك نادت من بيننا أصوات بأن مؤيدي الرئيس السابق مبارك يتجمعون في ميدان مصطفى محمود، وأن الأفضل هو أن نتضامن جميعا، فانطلقنا إلى هناك».

ويتذكر الجابري: «هناك وبعد أن احتشد الملايين من مؤيدي الرئيس، ذاب وسطهم أبناء نزلة السمان، وقالت القيادات التي احتشدت هناك من رجال أعمال وفنانين ومسؤولين في النظام السابق، إن عليهم التوجه إلى مبنى اتحاد الإذاعة والتلفزيون (ماسبيرو)، الذي يبعد كيلومترا واحدا فقط عن ميدان التحرير موقع تجمع معارضي الرئيس مبارك، من أجل أن يتم سماع صوتهم وإبراز قوتهم الحقيقية للعالم كله، والتأكيد للجميع أن ميدان التحرير ليس معبرا عن الشعب المصري».

ويتابع: «تحرك المتظاهرون ونحن معهم إلى ميدان التحرير، حتى وجدنا أنفسنا وجها لوجه أمام الثوار، فحدثت المواجهة التي لم نكن نريدها وتورطنا فيها.. ذهبنا فقط للتعبير عن رأينا ولم نكن مسلحين».

ويركب الجابري الابن سيارة سوداء، ويعلق بداخلها صورة لوالده المتوفى وفي خلفية الصورة شعار للحزب الوطني المنحل. ويترحم الجابري على أيام النظام السابق، قائلا: «جزمة الحزب الوطني على رأسي»، ويتساءل «ماذا قدمت لنا جماعة الإخوان المسلمين منذ وصولها إلى الحكم غير تراجع في معدلات السياحة وعدم استقرار البلاد.. أحوالنا في نزلة السمان أصبحت صعبة جدا، لا أحد ينظر إلى أحوالنا وكأننا نعاقب على مواقف حدثت ليس لنا ذنب فيها». وكان أهالي منطقة نزلة السمان قد استقبلوا خبر براءة النائب الراحل عبد الناصر الجابري، بفرحة كبيرة، ووزع الأهالي الحلوى والشربات، واعتبروا الحكم بمثابة براءة ضمنية لأهالي المنطقة من التورط في الأحداث.

يقول الشيخ سيد مناع، رئيس الجمعية الشرعية بنزلة السمان، وهي إحدى الهيئات السلفية الكبرى، إن جنازة الجابري المهيبة، ثم الاحتفال ببراءته مع عدد من المتهمين من شباب المنطقة، تؤكد كيف يشعر أهالي نزلة السمان بالظلم في توريطهم في هذه القضية»، ويكمل: «شباب المنطقة هنا من البسطاء الذين لا يعرفون أصلا النظام السابق أو الحالي، ولا يعلمون حتى شيئا عن معالم القاهرة أو شوارعها، هم فقط كانوا يبحثون عن رزقهم وأكل عيشهم، فخرجوا بطريقة عشوائية غير مدبرة ينددون بوقف حالهم وتوقف حركة السياحة».

وأضاف الشيخ مناع، وهو شيخ يتعدى الستين من العمر ويطلق لحية بيضاء كبيرة: «الإخوان استغلوا الأحداث وألصقوا الاتهامات بنا، في حين أنهم هم الذين كانوا مسلحين بالمولوتوف والسيوف، وكل القتلى والمصابين هم نتيجة لضرب عناصر الإخوان في ميدان التحرير.. لم نكن ننتظر حكم المحكمة لنتأكد من براءتنا التي كنا على يقين منها». ويكمل محمود الجمال، ابن عم أحد المتهمين في الأحداث، والذين صدر ضدهم حكم من القضاء العسكري بالحبس 5 سنوات، قبل أن يتم العفو عنه بعد سنة من قضاء العقوبة: «ابن عمي شاب ذهب معهم ولم يكن معه سوى الجمل الذي يركبه وعصا كان يوجه بها الجمل، ويتساءل: هل لو كان ذاهبا للقتال سيأخذ معه أعز ما يملك ومصدر رزقه الوحيد ودون أن يحمل أي سلاح». ويضيف: «بمجرد أن اقترب من الجماهير المحتشدة هاج (ارتبك) الجمل وأخذ يجري وسط المتظاهرين في عشوائية فتم ضربه واعتقاله». ويروي الجمال، عن أحداث وقعت في ذلك اليوم بحق أهالي نزلة السمان من جانب المتظاهرين في التحرير، مؤكدا أن خيولهم طعنت بالسكاكين والسيوف، وأن ما حدث دليل على أنهم كانوا هم المضارين والمعتدى عليهم من ثوار التحرير.

من جانبه، يقول صلاح البرنس، صاحب محل بازار بالمنطقة: الناس هنا لا تهتم بالسياسة أصلا.. كنا نعمل طوال العام بالسياحة دون توقف، الآن لم تعد هناك سياحة في البلاد، الحركة تكاد تكون متوقفة، وإن لم يتدارك النظام الحالي الموقف ستحدث أزمة جديدة.

ويقول محروس محمد، صاحب اصطبل للخيول هناك، إن «شارع نزلة السمان الرئيسي قبل الثورة كان لا يفرغ من الحافلات السياحية التي كانت مكدسة بالسياح من معظم أنحاء العالم.. الآن كما ترى معظمها عبارة عن رحلات مدرسية للمصريين ليس من ورائها أي عائد مادي يذكر». وتسلمت نيابة النقض، الشهر الماضي، مذكرة الطعن بالنقض المُعدّة من نيابة وسط القاهرة، على الحكم الصادر من محكمة جنايات القاهرة، ببراءة جميع المتهمين في قضية «موقعة الجمل»، وتضمنت المذكرة العديد من الأسباب، منها أن «الحكم لم يتعرض لدلالة ما خلصت إليه تحريات الشرطة ومصلحة الأمن العام، مُعززة بأقوال شهود الإثبات».

وأضافت المذكرة أنه «كان يتعين على المحكمة تغيير الوصف والقيد على الواقعة، وهو تدبير تجمهر بغرض ارتكاب جريمة، إلا أنها لم تفعل، وقضت بالبراءة في الواقعة المطروحة عليها برمتها، تأسيسًا على خلو الأوراق من أي دليل على توافر أي صورة من صور الاشتراك في الجرائم المسندة إلى المطعون ضدهم، مما يستوجب الطعن على الحكم». ومن جانبه، شكل الرئيس المصري محمد مرسي، فور توليه سلطة البلاد في يونيو (حزيران) الماضي، لجنة لتقصي الحقائق في أحداث وجرائم ثورة 25 يناير المصرية، من أجل إعادة التحقيقات في جميع هذه القضايا.

وقال المستشار عمر مروان، أمين عام لجنة تقصي الحقائق، إن التقرير النهائي لنتائج التحقيقات في قضايا قتل المتظاهرين فيما يسمى «موقعة الجمل»، والذي سيصدر قريبا، سيكشف عن مفاجآت عدة. وأضاف أن التقرير سيكشف أيضا عما إذا كان هناك إخفاء متعمد للأدلة وأسماء المتورطين في الأحداث وحقيقة تورط قيادات إخوانية، وما يعرف بالفرقة (95 إخوان) في موقعة الجمل من عدمه. وأشار مروان إلى أن تشكيل الرئيس للجنة لا يعني التشكيك في المحاكمات ولكن النيابة العامة دائما لها شكوى تتلخص في عدم معاونة الأجهزة الأخرى لها في إمدادها بالدلائل والبراهين التي تمكنها من الوصول إلى الحقيقة خاصة في القضايا التي صدرت فيها أحكام بالبراءات لضعف الأدلة ونحن كلجنة دورنا مساعدة النيابة العامة والعمل معها جنبا إلى جنب للوصول إلى الحقيقة.

وقال إن إعادة المحاكمة تحتاج إلى العديد من الإجراءات أهمها الاطلاع على الأسباب وهذا أمر مرتبط بالطعن على الحكم والنقض وقبول النقض وحيثيات الطعن وكلها أمور ترتبط بعضها ببعض، وبناء عليها ستتم إعادة محاكمة المتهمين. وبينما ينتظر الجميع التحقيقات الجديدة التي تجريها نيابة حماية الثورة، والتي أصدر الرئيس محمد مرسي قرارا بتشكيلها، من أجل معرفة الجاني الحقيقي في أحداث «موقعة الجمل»، يأمل أهالي منطقة نزلة السمان في أن يعمل النظام الجديد على عودة السياحة إلى منطقتهم حتى تعود الحياة إلى طبيعتها من جديد.