ثاتشر تلميذة مدرسة تشرشل.. أعادت العلاقات العربية ـ البريطانية إلى قوتها

مكتبها أشرف مباشرة على مفاوضات اتفاق اليمامة مع السعودية

TT

أثناء تشييع جنازة الليدي مارغريت ثاتشر، رئيسة وزراء بريطانيا وشيخة الخزانة الأولى (لقبها الرسمي 1979 - 1990) تتقدمها الملكة إليزابيث الثانية - ممثلة الأمة والكومنولث، تذكر المعلق الخدمات التي أدتها سيدة الدولة الراحلة عالميا. عندما بدأت الفقيدة رحلتها السياسية، كرئيسة جمعية الطلاب المحافظين كانت الحرب العالمية الثانية دخلت مرحلة النهاية فأدركت بغريزتها السياسية أن نصر الحق على الباطل عالميا يستلزم التحالف مع الأصدقاء التاريخيين. ومثل السير وينستون تشرشل، قدوتها وملهمها سياسيا، رأت ثاتشر أن أميركا والعرب أهم الحلفاء العالميين. تزامنت فترة تشكيل فلسفتها السياسية ومرحلة الإعداد لتأسيس الجامعة العربية بمساعدة بريطانيا الجهود المشتركة للملك عبد العزيز بن سعود والملك فاروق الأول استراتيجية تأسيس محور لندن القاهرة الرياض كسند في الشرق. تابعت ثاتشر في شبابها الأهمية التي منحها تشرشل لمعركة حماية المنطقة العربية، في العلمين (غرب الإسكندرية) لجحافل النازي، منعها من اجتياح الدلتا والاندفاع إلى الجزيرة العربية للاستيلاء على آبار البترول. عندما دخلت ثاتشر 10 داونينغ ستريت (لم تكن جريدة «النجم الأحمر» السوفياتية سمتها السيدة الحديدية بعد)، جعلت أولويات السياسة الخارجية تقوية العلاقات التاريخية مع الأصدقاء العرب، حسب مستشارها الراحل السير أنتوني بارسونز (والسفير السابق في إيران). وبينما انتاب هذه العلاقات الفتور على المستوى الرسمي لـ15 عاما قبل توليها رئاسة الحكومة، ظلت قوية على مستوى الصداقات، ببقاء كثير من ضباط الفيلق العربي في الجيش البريطاني في المنطقة، وبجهود دبلوماسيين بريطانيين - تحدثوا العربية بطلاقة فسماهم الصحافيون «فيلق الجمال». كان هجوم القومية العربية بزعامة جمال عبد الناصر، والبعثيين (آخرهم صدام حسين وبشار الأسد) على بريطانيا، وتحالف حكومات الانقلابات مع المعسكر الشيوعي من ناحية، وسياسة غير حكيمة لحكومة العمال بزعامة هارولد ويلسون ووزير خارجيته دنيس هيلي (1964 - 1970) من ناحية أخرى أضعف التحالف التاريخي رسميا. قادت حكومة العمال في 1969 سحب البحرية الملكية الموجودة من 1820 في الخليج وبحر العرب لحماية مضيقي باب المندب وهرمز. وحاول وفد من بلدان الخليج، إقناع هيلي بإبقاء البحرية الملكية في الخليج، لكنه رفض رغم عرض العرب المشاركة في التكاليف، بتوقيع اتفاقيات تسليح ومعاهدات دفاع مشترك؛ وهي سياسة البلدان الأصغر في حلف شمال الأطلسي لأنها اقتصاديا أفضل من الإنفاق الضخم على جيوش كبيرة لا يسمح الواقع الديموغرافي لهذه البلدان بتأسيسها. تعرضت الجزيرة العربية وقتها للتهديدات من 3 اتجاهات جغرافية (إسرائيل وديكتاتوريات البعث شمالا، والأطماع الفارسية والسوفياتية شرقا، وتهديدات أمثال عبد الناصر والقذافي غربا) ودفعت أخطاء حكومة ويلسون العرب إلى الاتجاه إلى أميركا لتحل مكان بريطانيا. بادرت ثاتشر بإصلاح أخطاء الحكومة العمالية وزارت المنطقة (الأردن والخليج، ومصر) ودعوة المغفور له الملك خالد بن عبد العزيز في زيارة دولة رسمية فورا لإعادة بناء الجسور مع العرب، وفي نهاية ولايتها الثانية وقعت أولى اتفاقيات اليمامة مع السعودية. ولم تترك مفاوضات اليمامة لمسؤولي وزارات الخارجية، والصناعة والتجارة والدفاع كما جرت العادة، بل أشرف مكتبها عليها وأصرت على إدراج المطلب السعودي بالتبادل التجاري offset أي شراء بريطانيا منتجات مصنعة في السعودية بنقل التكنولوجيا البريطانية إليها في مجالات الرادار المتقدم. وضعت ثاتشر الدبلوماسية البريطانية لصالح القضايا العربية خاصة المشكلة الفلسطينية. وخلال زيارتها مخيمات اللاجئين في الأردن في بداية ولايتها وحرص سكرتيرها الصحافي على ترويج الزيارة عربيا وعالميا واصطحاب كاميرات التلفزيون (تقليديا، المسؤولون الدائمون في الوزارات يفضلون التكتم ولا يرحبون بكاميرات) في إشارة للعالم، وللإسرائيليين، باستعادة حكومة المحافظين لموقعها التاريخي كصديق للعرب. كما وجهت الدبلوماسية لمضاعفة العمل على إيجاد حل سلمي عادل للقضية الفلسطينية. وتمخضت الزيارة – التي تلتها جولة في البلدان العربية - عن ترتيب زيارة الملكة إليزابيث إلى الأردن. ووظفت ثاتشر مكانتها العالية بين يهود بريطانيا واحترامهم لها (أكبر تجمع نسبي لناخبين يهود في بريطانيا في دائرتها) لممارسة الضغوط وراء الكواليس (كطابع الدبلوماسية البريطانية) على حكومة الليكود في إسرائيل، ودعم تيارات التفاوض. ودعمت جهود الزعيم المصري الراحل أنور السادات، بدعوته في زيارة دولة (كضيف للملكة)، وترتيب زيارة للأمير تشارلز إلى مصر، دعما للجهود المصرية لدفع الفلسطينيين والإسرائيليين إلى مفاوضات مباشرة، بتشاور وتنسيق مع الدول العربية خاصة في الأردن، والمملكة العربية السعودية، وعمان، والإمارات العربية. في جولة أخرى، لم تكتف ثاتشر بإرشادات وزارة الخارجية، بل سألت مباشرة عن «الإتيكيت» العربي والإسلامي (كانت مدركة لأصغر التفاصيل ولم تحتج لإضافات أو تعديلات) وارتدت غطاء الرأس وتصرفت (بغريزة الأم والزوجة البريطانية التقليدية) بكياسة واحترام للتقاليد الإسلامية. ولعل أهم ما يذكره الجيل الأصغر موقف ثاتشر في التصدي لعدوان صدام على الكويت، وإلقائها في مجلس العموم، خطابا تشرشلي الروح واللهجة، عن ضرورة تصدي الديمقراطيات لعدوان الديكتاتوريات. مارست الضغوط، علنا وفي مكالمات هاتفية، على الرئيس جورج بوش الأب لمقاومة تيارات نصحت بالتفاوض مع الديكتاتور العراقي، ووظفت الدبلوماسية البريطانية، تنسيقا مع الكويت، ومصر لتنفيذ قرارات قمة القاهرة في أغسطس (آب) 1990.

واستصدار قرارات مجلس أمن تقنن تحرير الكويت بالقوة العسكرية. ثاتشر أقنعت بوش ورؤساء التحالف بحشد ضعفي ما تحتاجه عملية تحرير الكويت من قوات في إشارة لإيران، والاتحاد السوفياتي (كانت الحرب الباردة لا تزال قائمة وقتها). فضلت ثاتشر وقتها إسقاط صدام ونظامه وإجراء انتخابات ديمقراطية في العراق لكنها كانت خارج الحكم (استقالت في نهاية 1990) يوم تحرير الكويت في فبراير (شباط) 1991 ولم تشهد بريطانيا بعدها رؤساء حكومات استطاعوا الضغط على البيت الأبيض لتنفيذ سياسة عالمية رسمتها تاريخيا المدرسة البريطانية التشرشلية التي تخرجت منها ثاتشر بتفوق.