جرحى سوريون يناضلون للشفاء في لبنان ويتوقون للعودة إلى جبهات القتال

أحدهم: حاربت برجلين وسأقاتل نظام الأسد ولو برجل واحدة

TT

تعج مستشفيات الشمال والبقاع الغربي في لبنان بحكايات مقاتلين ومدنيين سوريين قطعوا عشرات الكيلومترات سيرا على الأقدام، حاملين أوجاعهم وذكريات عن لحظات مرة، وأحيانا أطرافهم المبتورة أو المشوهة التي لم تسلم من القذائف والصواريخ النظامية. هؤلاء وجدوا في المناطق الحدودية اللبنانية ملجأ آمنا للهروب من قسوة حرب لم ترأف بصغير أو كبير. يستقبلهم بعض اللبنانيين بالترحاب ويساعدون في نقلهم بسياراتهم الخاصة أو باصات صغيرة لتسليمهم إلى الصليب الأحمر اللبناني، الذي يتولى بدوره إسعافهم إلى مستشفيات مجاورة.

محمد، أو العكيد محمد، كما يناديه أصدقاؤه على الجبهة، حولته الثورة إلى مراسل ميداني في صفوف المعارضة السورية. لكن إصابته برصاصة قنص في وجهه في منطقة القصير قبل أسابيع قلبت حياته رأسا على عقب؛ فقد بصره وكسر فكه الأعلى بنسبة 90%، فبات عاجزا عن أداء مهامه ولم يجد أمامه حلا سوى مرافقة المصابين من سوريا نحو الأراضي اللبنانية.

معاناة محمد لا تمنعه من سرد معاناة الجرحى الذين رافقهم خلال رحلة هروبهم من سوريا إلى لبنان. يقول خلال خضوعه للعلاج في أحد مستشفيات البقاع الغربي لـ«الشرق الأوسط»: «كنا نحو 70 شخصا لكن 25 واحدا منا فقط تمكنوا من الوصول إلى المشفى. توفي عدد كبير أمام أعيننا وحفرنا قبور بعضهم ببندقياتنا، برغم أن القذائف والصواريخ أحاطت بنا من الجهات كافة».

يتوقف محمد للحظات قبل أن يتابع والدموع تغلبه: «مشينا فوق جثث أولادنا»، متسائلا: «هل هكذا يريد (الرئيس) بشار (الأسد) أن يعمر سوريا؟».

«تمكنت القصير من الصمود» وفق محمد: «3 أشهر، لكن بعد حصارها اللاإنساني والقصف الهمجي الذي وصل معدله إلى 40 صاروخا في الدقيقة، أدى إلى سقوط المدينة التي باتت مدمرة بالكامل. ولولا الإصابات والجرحى لما انسحبنا».

صور الأشلاء المتطايرة والديدان التي تنخر جراح الأحياء معلقة بذاكرة محمد. يقول بغصة: «لا أستطيع أن أنسى لحظة مقتل شقيقي الأصغر وهو يطلب مني شرب الماء بعد أن كنا محرومين من الماء لأيام عدة».

الوصول إلى لبنان للعلاج ليس سهلا. عدد كبير من الجرحى السوريين لا يشعر بالأمان، لدى نقله إلى المستشفيات الواقعة في مناطق خاضعة لنفوذ حزب الله، وفق ما يوضحه المشرف على ملف الجرحى في «الجماعة الإسلامية» في البقاع طارق أبو علي لـ«الشرق الأوسط». ويشير إلى أن «هذه المستشفيات لم تعد تستقبل إلا عددا قليلا من الجرحى السوريين المؤيدين للنظام، خصوصا بعد نقل عدد من جرحى حزب الله إليها، كما حصل في مستشفى دار الأمل في بعلبك».

يلفت أبو علي إلى أنه وزملاءه «مسؤولون عن حماية أمن وسلامة الجرحى السوريين من أي اعتداء، نساعدهم على عبور الحدود ونبلغ القوى الأمنية ومخابرات الجيش اللبناني بأسمائهم ونتولى معالجتهم بالتعاون مع الصليب الأحمر الدولي الذي يتكفل بكل نفقات علاجهم». ويتابع: «بعد فترة علاج الجرحى يتم تسليمهم إلى الصليب الأحمر الذي يتولى إيصالهم إلى مقر هيئة الإغاثة السورية في مجدل عنجر، وهي الهيئة المسؤولة عن رعايتهم وإيوائهم من ثم ترحيلهم إلى المناطق الحدودية التي قدموا منها كشبعا وعرسال».

ويقول مجاب السمرا، مسؤول ملف الجرحى السوريين في الهيئة إن «أهالي المناطق الحدودية هم من يتسلمون الجرحى كما هو الحال في بلدتي عرسال (البقاع) وشبعا (جنوب) وينقلونهم بسياراتهم»، موضحا «أن تمويل الهيئة لبناني بالكامل فأبناء الخير في لبنان كثيرون والجمعيات المدنية لم تتركنا لحظة».

بعد انتهاء العلاج في لبنان، يعود معظم الجرحى من حيث أتوا. المدنيون إلى منازلهم في حال كانت لا تزال موجودة، والمقاتلون إلى جبهاتهم إن أسعفهم العلاج واستعادوا عافيتهم. لكن بعض هؤلاء الجرحى تغير إصاباتهم حياتهم، بعد أن يفقدوا أحد أطرافهم أو بصرهم، أو يصبحون معوقين، غير قادرين على الحركة، كما هو حال أبو عمر، أو أبو عنتر كما يحلو لمن يعرفه في مستشفى فرحات في البقاع الغربي أن يناديه.

من خياط إلى مقاتل على الجبهة إلى مشلول. يقول أبو عمر لـ«الشرق الأوسط»: «كنت أحيك الألبسة لزبائني ثم أصبحت أحيك قبور أعدائي بمنظار بارودة القنص خاصتي»، بعد أن دفن الجيش النظامي زوجتي وأطفالي الأربعة وهم أحياء تحت أنقاض منزلنا في حلب.

يبرر أبو عمر انضمامه لصفوف الثوار بعد أن سئم من «طغيان نظام حرم شعبه من أبسط حقوقه: التعلم بالدرجة الأولى للطائفة العلوية، الحديث في السياسة ممنوع، لأن المخابرات مزروعة في جدران بيوتنا، مسموح لنا فقط أن نعيش بسطاء فقراء». انضم أبو عمر إلى إحدى كتائب الجيش الحر وحارب في جبهات عدة، إلا أن المعارك الأقسى والأكثر عنفا كانت في حلب ثم القصير، حيث أصيب برجله وأصبح معوقا مشلولا. هو اليوم ناقم على النظام السوري بقدر نقمته على حزب الله. تمر صورة لأمين عام حزب الله حسن نصر الله على شاشة التلفاز أثناء حديثه، يتأمل فيها ثم يخاطب الشاشة: «فتحنا لكم بيوتنا عام 2006 فبادلتمونا بالقتل والدم!»، قبل أن يضيف: «حاربتمونا في بلادنا سنقاتلكم أينما كنتم».

يسكت أبو عمر ليأخذ شقيقه الكلام عنه. الأخير انشق عن «الجيش النظامي» ثم جاء إلى لبنان منذ شهرين بطريقة نظامية وبمساعدة أحد القادة الطرابلسيين، على حد قوله. يشير إلى أنه «يعيش اليوم عند أقرباء لبنانيين في شارع يسيطر عليه حزب الله». ويقول: «أخاف الخروج إلى الشارع، حلقت شعري ولحيتي وغيرت لباسي لكي لا يعرف أحد أنني معارض». ثم يتابع: «كلما نظرت إلى الأعلام الحزبية في الحي، تذكرت مناظر الجثث المكدسة في شوارع سوريا. لا أخرج من البيت من دون سكين في جيبي. حتى إذا ألقوا القبض علي بسبب معارضتي للنظام أقتل نفسي مباشرة لأن الموت أرحم عندي من تسليم روحي إلى جزار وسفاح».

خارج المنزل الذي يقطنه، لا يتجرأ على البوح بسر «انتمائه إلى المعارضة السورية». يسمع كل الكلام الاستفزازي والداعم لنظام عانى منه الأمرين خصوصا بعد أن علم شباب المنطقة بجنسيته السورية. غالبا ما يطرح هؤلاء الأسئلة عليه: «إنت مع النظام»، قبل أن يعاجلوه بجملة أخرى: «سننتصر قريبا على الميليشيات والإرهابيين». يسمع ذلك ويسكت. لا يصدق لحظة خلوته بنفسه حتى يفرغ كل ما في قلبه من غضب مكبوت. هذا الغضب دفعه إلى اتخاذ القرار بالعودة إلى سوريا. يقول: «حجزت مكاني للرحيل إلى بلدي، فالموت بكرامة أرحم علي من العيش ذليلا كل يوم».

غالبية المصابين السوريين في مستشفيات البقاع لم يلتقوا بذويهم منذ أشهر طويلة. هم اليوم يتقاسمون أوجاعهم وأحزانهم مع أصدقائهم في غرف المستشفيات. بعضهم ينتظر دوره للدخول إلى غرفة العمليات من أجل بتر يده أو رجله، بعد أن تيبست نتيجة التأخر في العلاج، والبعض الآخر ينتظر إذن خروج للعودة إلى بلده ومعاودة القتال ربما. حتى أبو عمر الذي لا يقوى على تحريك رجله، يقول: «لقد حاربت برجلين واليوم أنا جاهز للعودة إلى جبهة القتال برجل واحدة».