لبنان: انهيار اقتصادي في طرابلس نتيجة العجز السياسي عن ردع المسلحين

تراجع الحركة التجارية بلغ 60 في المائة.. ومدينتها الأثرية على شفا حفرة

صورة أرشيفية للبناني يركض مسرعا لتفادي نيران القناصة في أحد شوارع طرابلس (أ.ب)
TT

لم تطأ قدما ألان جرجس طرابلس منذ ستة أشهر، على الرغم من أن منزله في الكورة لا يبعد سوى 20 دقيقة بالسيارة عن قلب المدينة. أقلع الشاب عن زيارة أصدقائه في المدينة، التي تقع شمال لبنان، ونزهاته وتسوقه، بعد أن كاد يذهب ضحية تفجير مسجد السلام الذي أودى بحياة 52 قتيلا، في أغسطس (آب) العام الماضي، وصادف أنه كان يجلس لحظتها في مطعم قريب جدا مع أحد أصدقائه. يقول: «الرعب الذي عشته والدماء التي شاهدتها جعلتني لا أفكر أبدا بالعودة، في الوقت الحالي، إلى طرابلس».

جومانا، تسكن في بلدة أنفه التي تبعد 15 دقيقة بالسيارة عن طرابلس، حيث ترعرعت وتعلمت في مدارسها، وترى أن زيارة المدينة صارت مجازفة. تقول: «لا أستغني كليا عن طرابلس، فهي المدينة الأساسية للشمال كله، لكنني لم أعد آتيها إلا للضرورة القصوى. أخشى أن يباغتني رصاص أو اشتباك، أنا بغنى عنه».

على منوال آلان وجومانا، آلاف من سكان القرى والبلدات المحيطة بالعاصمة اللبنانية الثانية، غيروا عاداتهم، وصاروا يتدبرون أمرهم بما حولهم، والنتيجة أن طرابلس تموت تدريجيا، وتئن تحت وطأة حصار قسري تفرضه عليها مجموعة من المسلحين المتفلتين من أي ضوابط، يرعبون المقيمين والزائرين على السواء.

بدأ وضع طرابلس يتأزم أمنيا منذ عام 2008، مع اندلاع اشتباكات متقطعة لكنها دموية، في ضاحيتها الشمالية بين منطقتي جبل محسن وباب التبانة، لم يوضع لها حد. لكن الأمر ازداد سوءا مع بدء الأزمة السورية، وعدّ البعض أنفسهم معنيين بالصراع، وانتشار السلاح بين أيدي أشخاص لا وازع لهم، مما صعّد وتيرة الاشتباكات التي وصلت حتى اليوم إلى جولتها رقم 19 ولا شيء يشير إلى أن الجولة 20 ليست على الأبواب.

«نحن لا نتحدث عن قرب الانهيار والإفلاس، لأن الانهيار حصل بالفعل، والصامدون، لغاية اللحظة، يتسترون بورقة توت»، يقول أمين سر جمعية تجار طرابلس، غسان حسامي لـ«الشرق الأوسط»، شارحا: «مدينتنا فقدت مركزيتها كعاصمة تجارية، ومركزيتها المصرفية، كما مدارسها وجامعاتها التي هجرت. صارت المناطق المحيطة مكتفية ذاتيا. أهالي زغرتا ليس عندهم بحر ابتكروا بحيرة، وربما قريبا يستطيعون إنشاء مرفأ.. من يدري؟ لا أحد يريد أن يغامر بحياته من أجل قضاء أشغاله في طرابلس».

ويجمع عدد من التجار على أن مبيعاتهم انخفضت عن السنوات الماضية بنسبة أكثر من 50 في المائة مما يمكن وصفه بالكارثة الاقتصادية لمدينة يقطنها نحو نصف مليون نسمة. أما حسامي الذي يمتلك أرقاما أكثر دقة فيقول: «انخفضت المبيعات التجارية عام 2011 بنسبة 50 في المائة عن السنة التي سبقتها، ثم عادت وانخفضت عام 2012 بنسبة 70 في المائة عن السنة التي قبلها. إنها انهيارات كبرى وساحقة، والمحلات تغلق واحدا بعد الآخر».

يشكو صاحب أحد المطاعم، متحفظا على ذكر اسمه، من زبائنه الذين اختفوا، لأن أكثر من نصفهم ليسوا من سكان طرابلس. يقول: «كانوا يتسوقون في العادة، ثم يأتون ليأكلوا قبل العودة إلى مناطقهم، من منهم يجرؤ اليوم على المجيء؟». ويتابع: «بالأمس جاءني أحدهم، وقال إنه لم يأتِ إلى طرابلس منذ شهرين، لكنه جازف هذه المرة، لأنه اشتاق لأطباقي. طرابلس من دون محيطها مدينة ميتة، ولا قيمة لها. نحن نبكي مدينتنا، ولا نرى سببا لما أوصلونا إليه». يضيف صاحب المطعم: «أهالي الكورة وزغرتا وعكار صاروا يخافون. أسوأ أيامنا، على الإطلاق، هو يوم الجمعة، منذ حولوه إلى موعد للمظاهرات المناصرة؛ الثورة السورية أو مناصرة المعتقلين الإسلاميين». ويشير إلى أن «الناس تلزم بيوتها يوم الخميس خشية أن يكون تحضيرا لمشاغبات يوم الجمعة، وإذا لم يحدث أمر جلل في هذين اليومين، يخرج الناس من بيوتهم بتخوف يوم السبت».

كمال محيي الدين، تاجر، هو الآخر يعلق غاضبا: «يوما يشتبكون ويطلقون الصواريخ، ويوما آخر يقطعون الطريق، ومرة يطلقون الرصاص بسبب تشييع قتيل أو خروج أحد الزعران من السجن، أو زواج أحدهم، أو لأن زعيمهم تحدث على التلفزيون، هذا عدا الحوادث الفردية التي يمكن أن تباغت المارة. وساعة تصريح سياسي ناري، وساعة أخرى إشاعة. الناس خائفة».

من جهته، يشير أحد تجار بيع الملابس في شارع عزمي في طرابلس إلى أنه «توقف عن شراء البضائع، إذ يفضل أن يترك في جيبه مبلغا نقديا إن اضطر للهرب مع عائلته في حال اندلعت معارك كبيرة».

محمد ياسين يعمل في تصليح السيارات، كان مرأبه في منطقة باب التبانة الأسوأ أمنيا. وبعد أن أحرقوا سيارة أحد زبائنه، انتقل إلى باب الرمل، ليفاجأ أن المنطقة هناك تكاد تنزلق أيضا. ويقول: «الوضع سيئ والخسائر كبيرة، وأتخذ دائما احتياطاتي تحسبا للأسوأ، استأجرت بيتا في الجبل، كي نهرب إليه في حال تأزمت الأمور». ويتابع: «لا تزال لوعة الحرب الأهلية ماثلة في ذهني. بمجرد أن تبدأ اشتباكات أضع عائلتي في السيارة ونصعد إلى الضنية. لست مضطرا للعيش مع مجانين».

في شارع نديم الجسر، حيث توجد فروع لمحلات ألبسة عالمية، تبدو الحركة خفيفة وبطيئة. داخل أحد أشهر هذه المحال، المؤلف من طابقين، لا يلوح أحد. تقول إحدى البائعات: «منذ ساعتين لم يدخل أحد. بالكاد يأتينا عدد قليل جدا من الزبائن بين الثالثة والرابعة بعد الظهر، ثم يختفون. هذه حالنا منذ أشهر طويلة، وإذا استمر الأمر على هذا المنوال، فسيسرّح نصف الموظفين». ولا يختلف الحال في المحال المجاورة على الرغم من أن غالبيتها تقدم حسوما تصل إلى 70 في المائة.

لا يخفي أحد الباعة خشيته بالقول: «نحن هنا متروكون لقدرنا، لو دخل مسلح وطلب مني ما في الصندوق فسأعطيه ما معي، وسأسأله إن كان يرغب ببنطلون جينز وقميص معه». يستطرد البائع: «ماذا نفعل في مواجهة مسلحين فالتين على هواهم. من يحمينا منهم؟». ولا يتردد في مخاطبة سيدة تخرج من المحل، وقد مال الوقت إلى الغروب، قائلا بجدية: «انتبهي على نفسك. لا تخرجي مرة ثانية من المنزل في هذا الوقت. لا أمان».

ليس بعيدا عن المحال التجارية، توصد إحدى الصيدليات بابها الحديدي في وضح النهار فيما تركت نافذة صغيرة مفتوحة، تطل سيدة لتسأل القادم إلى الصيدلية عما يريد، بينما يسألها الجميع عن سبب إغلاق الباب. وتجيب: «هذا ما أفعله حين أكون وحدي في الصيدلية. يأتينا أشخاص، بينهم مسلحون أحيانا، يصرون على الحصول على أدوية ممنوعة ومخدرة، ويهددونا إن لم يتمكنوا من الحصول عليها».

الوضع يصبح أسوأ حالا حين تقترب من الأسواق الأثرية القديمة، التي شهدت تكرار اشتباكات مسلحة عنيفة. أنت هنا في قلب مدينة مملوكية هي الثانية في مساحتها بعد القاهرة. المحلات التجارية مفتوحة، لكن الزبائن باتوا يفضلون التسوق في أماكن أكثر أمنا. سوق الذهب والعطارين والنحاسين والكندرجية التي كانت تعج بالرواد، صارت تفتح على استحياء، ولا يعرف تجارها في أي لحظة يضطرون للهرب. يقول أحدهم: «منذ أيام فقط جاء مسلحون، وأطلقوا النار على جاري جهاد عمران وأحد العاملين عنده. صار هؤلاء يتحكمون بنا، يتجولون حين يستنفرون، بقنابلهم بين المارة». ويشدد على أن هذا «الأمر لا يمكن احتماله»، معربا عن اعتقاده وتأكيده «أن أسبوعا واحدا من الهدوء كفيل بإعادة الحركة. ثم إن منطقة عكار خزان بشري، ينعش طرابلس. أهالي عكار والبداوي باتت حياتهم مهددة بالقنص، وهم يعبرون باب التبانة إلى طرابلس، لذلك لم نعد نراهم إلا نادرا».

بدوره، يتخوف غسان حسامي من أن «المدينة القديمة التي هي العمود الفقري الاجتماعي والتاريخي مهددة بشكل جدي». ويبرر ذلك بالقول: «أخشى أنه بحجة مطاردة مخلين بالأمن أن نصل إلى هدم الأسواق، فسوق الذهب على سبيل المثال شاغلوه ورثوا محلاتهم وحرفتهم عن آبائهم وأجدادهم. هذا تراث المدينة، والقضاء عليه بمثابة جريمة». ويذكّر حسامي بأن منطقة باب التبانة هي التي كان يطلق عليها اسم «سوق الذهب»، والآن صارت أسوأ من «التنك» ومهددة بأن تُدكّ في أي لحظة لمكافحة الإرهاب، ولا شيء يمنع أن يتكرر السيناريو نفسه في الأسواق الأثرية».

ويكمل: «ما أقوله ليس بعيدا عن الواقع، فأين أسواق بيروت القديمة؟ لقد دمرت سوق الطويلة وسوق إياس وسوق سرسق. الخوف أن تلقى أسواق طرابلس التاريخية المصير نفسه. أنبّه الجميع إلى أن قذيفة تحرق محلا واحدا في السوق القديم يمكنها أن تشعل المنطقة كلها، فهذه أزقة ضيقة ومكتظة، مما يرفع نسبة الخطر». وكان تجار طرابلس أطلقوا صرختهم منذ عدة أشهر، محتجين على ما آلت إليه حال مدينتهم، وجمعوا مفاتيح محلاتهم في صندوق وذهبوا به إلى القصر الجمهوري وسلموه إلى رئيس الجمهورية ميشال سليمان. «لكن الرئيس لم يفعل شيئا، لم نر أي ردة فعل، حتى إن القصر الجمهوري لم يدرج الخبر ضمن النشرة الإعلامية التي يصدرها»، يقول حسامي. ويشدد: «إننا لم نقصّر في التواصل مع المسؤولين، ورفع الصوت، وشرح المعاناة. طرابلس لها مرافق مشلولة يمكن تحريكها، منها معرض رشيد كرامي الدولي والمرفأ وغيرها، لكنه العجز التام، بما في ذلك العجز عن معاقبة من يهددون أمن الناس وحياتهم اليومية».