محققون أميركيون وأوروبيون: «نجمة البحر» بداية أسطول من 20 سفينة قديمة اشتراها بن لادن

TT

وصل رجلان من الشرق الاوسط في اوائل يوليو (تموز) عام 1993 الى ميناء ليماسول في قبرص وقدما نفسيهما على انهما يمثلان مجموعة شركات بن لادن. وكان هذا الاسم في ذلك الوقت اشد ارتباطا بمجموعة بن لادن السعودية المتنفذة للانشاءات، واستعان هذان الرجلان بمحام وشركة محاسبات محلية لتأسيس شركتين كان الغرض منهما شراء سفينة شحن قديمة يبلغ طولها 224 قدما. بيد ان أحد هذين اللبنانيين كان وديع الحاج الناشط في مجموعة بن لادن الاخرى او منظمة القاعدة الارهابية التي كانت لا تزال في ذلك الوقت في مراحل التكوين. وعلى طول الاعوام التالية، قطعت سفينة «سيستار» او نجمة البحر مياه البحر الاحمر جيئة وذهابا وهي محملة ببذور السمسم والبطيخ، ولكن بعض المحققين يشتبهون في ان حمولتها الفعلية كانت بضائع اخطر من ذلك بكثير. ويقال ان القاعدة تسيطر الآن على 20 سفينة يتخوف المسؤولون الاميركيون من لجوء اسامة بن لادن الى استخدام واحدة منها للهرب من افغانستان. وتسلط قصة سفينة الشحن «نجمة البحر» الضوء على فترة مختلفة من حياة منظمة «القاعدة» عندما شرع اسامة بن لادن في الجمع بين التجارة والارهاب وعدم شك اي طرف حينها بالتحولات التي ستطرأ عليه هو وكبار قادته. ولم تجتذب هذه السفينة المدهونة بالابيض والرمادي وعمرها 27 عاما في ذلك الحين سوى اهتمام ضئيل من جانب المحققين في الارهاب. كما لم يبعث غرق هذه السفينة، التي تملكها شركة في النرويج يشتبه المسؤولون الاميركيون في ان تكون لها صلة بالقاعدة، قرب ساحل عمان قبل 18 شهرا اي ضجيج. غير ان المحققين الاوروبيين والاميركيين بدأوا قبل اشهر من وقوع هجمات 11 سبتمبر (ايلول) في مراجعة صفقة شراء السفينة التي وصلت كلفة شرائها الى 450 الف دولار، وكانت حتى ذلك الوقت اضخم الصفقات التي قامت بها الشركات الخاضعة لسيطرة بن لادن. ولم يعثر هؤلاء المحققون على اي دليل يربط تلك السفينة بأي هجوم ارهابي، رغم وجود مصادفة تستحق الالتفات وهي ان السجلات الحكومية تشير الى مغادرة السفينة ميناء جدة في السعودية في نوفمبر (تشرين الثاني) عام 1995، اي قبل يوم واحد من انفجار سيارة مفخخة على بعد مئات الاميال في الرياض ادت الى مقتل 5 اميركيين وشخصين آخرين، واشاد بن لادن علنا بذلك الهجوم. وعلق مسؤول من الحكومة الاميركية قائلا «نعتقد ان حمولة تلك السفينة كانت قانونية».

رغم ذلك، فان النظر جار الى تلك السفينة الآن على انها رمز لاستراتيجية القاعدة، ويوضح مسؤول اميركي عمل على تعقب عناصر تنظيم «القاعدة» في ارجاء العالم قائلا «كل امر يقدم عليه هؤلاء الناس كان من ورائه هدف وهذا الهدف هو الارهاب، سواء كان يتعلق بالجانب الفعلي في تنفيذ عمليات ارهابية او ان اقتصر على ابقاء المنظمة على قيد الحياة، ومن هنا فانك لا تشتري سفينة بنصف مليون دولار لاجل لا شيء».

واستعرض الادعاء في المحاكم الاميركية كيف لجأ بن لادن الى استخدام شبكة مترامية من الاعمال التجارية والمالية الشرعية، بينها شركات زراعية وانشائية واستثمارية، لتوفير المال اللازم للانفاق على الارهاب. واضافوا انه وظف شبكة معقدة من شركات الواجهة المزيفة للتعمية على عملياته الارهابية. وظل الحاج، الذي ساعد في ترتيب صفقة شراء السفينة في قبرص، يعمل على مدار اعوام لتشييد ذلك الصرح التجاري. وشغل الحاج اللبناني الاصل والذي يحمل الجنسية الاميركية منصب السكرتير الشخصي لابن لادن في السودان في اوائل التسعينات وسافر نيابة عنه الى العديد من الجهات بهدف عقد الصفقات وانشاء شركات الواجهة. وعلى سبيل المثال، اشترى الحاج في عام 1992 بالنيابة عن بن لادن طائرة نقل ركاب تابعة للجيش الاميركي مقابل 200 الف دولار، طبقا لسجل مرافعات المحكمة. واوضح احد الشهود في تلك المحكمة ان الحاج ذكر ان بن لادن اراد نقل مدافع صواريخ ستنجر المضادة للطائرات من باكستان الى السودان. وكان المحققون الاميركيون قد التفتوا الى نشاطات الحاج التجارية والمالية مطلع العام الحالي خلال المحاكمات التي عقدت بسبب تفجير السفارتين الاميركيتين في شرق افريقيا في عام .1998 وقال احد ممثلي النيابة الفيدراليين الى هيئة المحلفين ان «الادلة تشير الى ان وديع الحاج كانت له حياتان احداهما مكشوفة وعلنية والاخرى سرية اجرامية وكانت نشاطاته عبرها تجري بالنيبابة عن تنظيم «القاعدة»، وانه رتب خدمات لوجستية للقاعدة سمحت لعناصرها الآخرين بالاضطلاع بمهمات اجرامية».

وادين الحاج بالتآمر لتنفيذ عمليات ارهابية وحكم عليه بالسجن مدى الحياة. في المقابل، اشار سام شميدت وجوشوا دراتل محاميا الحاج في مرافعاتهم عنه في تلك المحكمة الى ان الحاج عمل في اطار الاعمال التجارية والمالية الشرعية لابن لادن وان ليس له علاقة بالارهاب. ورغم قول شميدت الشهر الحالي انه لم يكن على علم بصفقة شراء السفينة «نجمة البحر»، فانه نوه الى ان شراء تلك السفينة لنقل بضائع من السودان «يتطابق تماما مع الدور الذي لعبه في صفقات الشراء والاعمال التجارية والمالية لابن لادن»، واضاف «لقد كان السفر لشراء مواد تتعلق بتلك الاعمال التجارية جزءاً من عمله».

وتشير المرافعات المختلفة في تلك القضية الى متابعة بن لادن اللصيقة لمشاريعه التجارية والمالية وان الصفقات الضخمة على وجه الخصوص لم تنفذ الا بموافقة منه. ويلمس من دفتر ملاحظات خاص بالحاج انه كان يعكف على تنفيذ صفقة شراء سفينة منذ عام 1993، وسجل في هذا الدفتر خططه وافكاره حول تلك الصفقة وما يحتاجه لانشاء الشركة التي تقوم بعملية الشراء، وكتب قائلا «1 ـ اسماء للشركة. 2 ـ عناوين ملاك اسهم الشركة». وتحت قائمة «المدراء» اورد اسمه واسم زميل له هو صادق وليد عواد. كما دون ملاحظات حول سعة حمولة وحجم محرك السفينة التي يفكر في شرائها. ويمثل الحاج شخصية محورية بين مجموعة من الرجال الذين كشف المحققون عن صلاتهم بالقاعدة. اذ كشفت مرافعات المحكمة عن ان عواد الذي رافق الحاج الى قبرص عمل ضمن مشاريع تجارية يمتلكها بن لادن. واشار المحامي الذي ساعد الحاج وعواد في قبرص الى انه طلب منه ارسال كل الاوراق القانونية الخاصة بهذه القضية الى عنوان في هامبورغ بالمانيا تحمله بطاقات الحاج التعريفية بعمله كما استخدمه عواد في تسجيلات الشركة. اما من يسكن في هذا العنوان، 34 «ويج اهلينهورستر» فهو مأمون دركزنلي الذي يشتبه المحققون الالمان في ان يكون احد اعضاء خلية القاعدة في هامبورغ التي ساعد افرادها في تنفيذ هجمات 11 سبتمبر. وبادرت ادارة بوش بعد الهجمات الى تجميد ممتلكات هذا الشخص، واتهمته بتقديم مساعدات مالية الى الارهابيين وهي التهمة التي انكرها. ورفض مأمون، بعد الوصول اليه اخيرا في هامبورغ، الادلاء بأي تعليق. ووصف آرنو هايدن احد العاملين في شركة السمسرة، ولثر ميلار جي. ام. بي. اتس. آند كمباني، التي اشرفت على صفقة شراء السفينة في عام 1994، ان الصفقة «عقدت تماما في العلن». كما اشار الى ان مأمون كانت له علاقة بالتحويلات المالية لاتمام الصفقة ولكنه رفض اعطاء اي تفاصيل. ونوه الى ان افرادا من مكتب المباحث الفيدرالي (اف. بي. آي) والشرطة الالمانية زاروا مكاتب الشركة في مارس (آذار) الماضي وسحبوا نسخا عن الوثائق المتعلقة بصفقة الشراء تلك. وعندما كان الحاج في طور انشاء شركات لاستخدامها في شراء السفينة تفيد الملاحظات التي دونها بأنه احتاج الى اسم ضامن مصرفي وانه اراد استخدام اسم رجل يدعى سيدي طيب، احد مساعدي بن لادن البارزين والمتزوج من ابنة اخته ويشرف على الاعمال اليومية لامبراطوريته المالية، طبقا للمرافعات. وبناء على توجيهات الحاج وعواد في وقت لاحق انشئت شركتان في قبرص، طبقا للمحامي الذي اشرف على ذلك وطلب عدم ذكر اسمه، واضاف ان اجراءات تشكيل هاتين الشركتين بدت روتينية بالكامل. ورتبت اجراءات اتمام صفقة شراء السفينة التي كانت تسمى جنيفر واشرف على بيعها قبطان الماني يدعى كلاوس دارلي في ابريل (نيسان) عام 1994، طبقا لاوراق التسجيل ومقابلات. وقالت زوجة هذا الكابتن انه مسافر في البحر ولن يكون موجودا الا في يونيو (حزيران) المقبل لاجراء مقابلات معه، ووصفت السفينة جنيفر بأنها «سفينة شحن صغيرة وصدئة». واشارت الى انها وزوجها لم يقابلا مشتري هذه السفينة وانهما لا يعرفان عنهم سوى انهم «كانوا عربا».

واضاف المحامي الذي اشرف على صفقة البيع بأن سفينة الشحن هذه كانت في اوضاع مزرية الى درجة انها كانت دون المعايير القبرصية، مما تطلب انشاء شركة ثالثة في مالطا حيث تفرض معايير اقل تشددا. واوضح ان السفينة اخضعت بعد الصفقة لعمليات اصلاح في ليماسول وان عواد انتقل للعيش على سطحها وانه كان يتركها ويتجول في انحاء المدينة بسبب معاناته من دوار البحر، واستذكر قائلا «لم تكن عنده اي فكرة عن عمل السفن او ما تحتاجه».

وزارت سفينة «نجمة البحر» على مدى العامين اللاحقين عشرات الموانئ في البحر الاحمر، حسب سجلات الابحار الخاصة بوحدة الاستخبارات البحرية للويدز في لندن. وفي نهاية 11 شهرا وصولا الى يناير (كانون الثاني) عام 1996 كانت السفينة قد قامت بـ16 رحلة بحرية بين ميناءي السودان وجدة، وكانت حمولتها في العديد من المرات تصل الى 500 طن من بذور السمسم والبطيخ، حسب وكالات بارويل في السودان التي استؤجرت لانزال حمولة السفينة وتحميلها بالبضائع. كما نقلت هذه السفينة الاسمنت من ميناء العقبة في الاردن الى ميناء السودان، حسب تلك الشركة. ولا تعتري الرحلات التي قامت بها هذه السفينة شبهات ممكنة سوى رحلتها في نوفمبر الى جدة التي تشير الى علاقة محتملة بالارهاب، ولكنها علاقة ظنية اكثر منها فعلية. فبعد قضاء اكثر من اسبوعين في جدة ابحرت نجمة البحر الى ميناء السودان في 12 نوفمبر، وفي اليوم التالي انفجرت سيارة مفخخة في الرياض واردت 7 قتلى، بينهم 5 اميركيين وموظفون حكوميون. ورغم ان السلطات الاميركية لم تتهم اي جهة بالتورط في هذا الحادث، فان بن لادن اشاد بهذا التفجير ووصفه بأنه «عمل ارهابي يستحق المديح».

وفي عام 1996 اشترت شركة نرويجية تديرها مجموعة من الصوماليين تلك السفينة. وقال مسؤول اميركي طلب عدم ذكر اسمه الشهر الحالي ان هذه الشركة «كان يشتبه في ان لها علاقة بتنظيم «القاعدة». ولكنه رفض الافصاح عن اي تفصيلات. ولم يمكن العثور على اي دليل يربط بين تلك الشركة وبين القاعدة. وفي مايو (ايار) عام 2000 صدرت اصوات مثل اصوات الانفجار من محركات السفينة التي وصل عمرها عند هذا الحد الى 34 عاما واعيدت تسميتها بـ«سكاي واحد» بينما كانت تبحر من ميناء دبي. وكانت متجهة في رحلتها تلك صوب الصومال وهي محملة بالاخشاب والفولاذ والسيارات شاقة طريقها وسط مياه مضيق هرمز الهادئة ومتجهة جنوب غربي بحر العرب. ولكنها لم تصل ابدا الى وجهتها تلك، اذ ان «سكاي واحد» بدأت تغوص قرب شاطئ عمان وغرقت في اقل من يومين، وتولت سفينة شحن روسية التقطت رسالة الاستغاثة التي صدرت عن السفينة انقاذ طاقمها من الغرق.

* خدمة «نيويورك تايمز» ـ خاص بـ«الشرق الأوسط»