إجراءات مشددة تتخذها إدارة بوش للحفاظ على سرية المعلومات العلمية تثير جدلا بين العلماء

TT

تتخذ ادارة الرئيس بوش حاليا اجراءات واسعة لتشديد القيود على سرية المعلومات العلمية، سعيا وراء وضع اسلحة الدمار الشامل بعيدا عن متناول ايدي الاعداء. وقد سحبت من التداول في هدوء، الشهر الماضي، 6600 وثيقة فنية مخصصة اساسا لانتاج الاسلحة الجرثومية والكيماوية. وتعكف الادارة حاليا على اعداد لائحة عن سلامة المعلومات، من المقرر ان تصدر في الاسابيع القليلة الماضية، ويقول المسؤولون انها ستؤدي الى سحب مزيد من الوثائق من التداول. وتطالب الادارة الجمعيات العلمية بوضع قيود على ما يمكن نشره من البحوث.

قال توم ريدج، مدير ادارة الامن الوطني: «نحن نبذل قصارى جهدنا للوصول الى موجهات تحول بين الارهابيين وبين استخدام المعلومات التي تنتجها هذه البلاد ضد اهلها. ويجب ان تتصف هذه العملية بالديناميكية». وقال ان العلماء يستشارون في كل هذه الخطوات.

ولكن المعارضين يقولون ان الاجراءات المتطرفة المقترحة في هذا الصدد، ستجعل من المستحيل على العلماء ان يقيموا ويستفيدوا من بحوث زملائهم، مما يقوض الاسس التي قامت عليها النهضة العلمية الاميركية. وتنتاب العلماء المخاوف من ان رغبة المسؤولين الحكوميين في المحافظة على السرية يمكن ان تجعلهم يتجاهلون حقيقة ان حرية البحث حول المواد الخطرة يمكن ان ينتج ثروة من الادوية والامصال والاكتشافات غير المتوقعة.

وقال روبرت ريتش، رئيس الاتحاد الاميركي لجمعيات الاحياء التطبيبية: «يمكن تلخيص المسألة في التناسب بين المزايا والاخطار. واعتقد ان مخاطر ابطاء التقدم العلمي اكبر من مزايا حجب المعلومات عن الوصول الى من يسيئ استخدامها».

وتشمل الوثائق التي تم سحبها، والتي كان الناس يطلعون عليها مجانا في الماضي، معلومات فقدت صفة السرية يرجع تاريخها الى الاربعينات والخمسينات والستينات. كما تشمل وثائق حديثة لم تكن تعتبر سرية في ما سبق. ويقول الخبراء ان كمية الوثائق التي سحبت لا سابق لها في التاريخ الاميركي.

وقال بول ريان، المدير المناوب لمركز المعلومات الفنية لوزارة الدفاع، وهو الذي يحتفظ بالوثائق، ان لجانا من العلماء ستجتمع لتقرر ما اذا كانت الوثائق ستوفر للجمهور من جديد ام تعتبر اسرارا من اسرار الدولة وتحفظ على هذا الاساس. ولكنه قال انه لا يستطيع تحديد موعد انعقاد هذه اللجان.

وكانت الحكومة تفكر منذ 11 سبتمبر (ايلول) الماضي في ايقاف تدفق المعلومات على عدة جبهات. ففي اكتوبر (تشرين الاول)، مثلا، ابلغ المدعي العام جون اشكروفت عددا من المسؤولين الفيدراليين ان وزارة العدل ستؤيدهم اذا قاوموا الطلبات المتعلقة بحرية المعلومات. ولكن جبهة العلوم اصبحت الآن هي رأس الرمح في هذا الهجوم. وعلى سبيل المثال طلب البيت الابيض من جمعية الاحياء الدقيقة، التي تحوي اكبر تجمع للعلماء في مجال الابحاث الجرثومية في العالم، وتتخذ من واشنطن مقرا لها، ان تضيق من نشر المعلومات الخطيرة في المجلات الـ11 التي تصدرها، ومنها مجلات العدوى والمناعة ومجلة الباكتريولوجيا والفيروسات.

ومن الاقتراحات التي قدمها البيت الابيض الغاء الفصول التي تطرح التفاصيل التطبيقية التي يستخدمها الباحثون من المختبرات الاخرى للتأكد من صحة الاستنتاجات الواردة فيها.

وقال رونالد اطلس، رئيس الجمعية المنتخب عن هذه المقترحات: «ان هذا يلغي جزءاً من الاساس الذي تقوم عليه العلوم. وقد اوضحت اننا لن نقبل أي اجراء تشتم منه رائحة الرقابة. وهم يناقشون هذا حاليا، ولا استبعد ان يقدموا على أي اجراء». وقال انه مندهش من عدد زملائه في المجال الاكاديمي المستعدين لمناقشة الحدود التي يمكن فرضها على حرية المعلومات. وكانت ابيغيل ساليرز، رئيسة الجمعية اكثر حدة في ملاحظاتها: يتغذى الارهاب على الخوف، ويتغذى الخوف على الجهل. وقالت ان افضل حماية ضد الجمرة الخبيثة او أي مرض معد اخر هو نشر المعلومة التي يمكن ان ترفع من درجة السلامة العامة.

ويقول الخبراء ان هذه القضايا تناقش حاليا في اكاديمية العلوم الوطنية التي تقدم الاستشارات للحكومة في هذا الشأن. وقال ريدج ان رد فعل المعارضين كان مبالغا فيه.

«انني اتفهم اسباب قلقهم ولكنني لا اعتقد ان الوقت قد حان لقرع نواقيس الخطر. دعونا نقوم بالعمل اولا، (أي دعونا نصدر الموجهات اولا)، وعلى العلماء ان يتذكروا كذلك الاخطار التي نواجهها، وهي تتعلق بحركات ارهابية يمكن ان تنتج اسلحة غريبة تؤدي الى ابادة الملايين».

لم تكن هذه اول مرة يصطدم فيها العلماء مع البيت الابيض حول حرية انسياب المعلومات العلمية. ففي عام 1982 قررت ادارة ريغان، في محاولة منها لاحباط مؤامرات الجواسيس السوفيات، منع تقديم 100 ورقة علمية سرية للمؤتمر العالمي حول هندسة المناظير في سان دييغو. وكان الاحتجاج على القرار من القوة بحيث اجبر الادارة على التنازل عنه. وفي العام الماضي، حينما توفي 5 اشخاص من اصابات الجمرة الخبيثة عن طريق الرسائل، ثار الجدل من جديد حول ضرورة فرض القيود على نشر المعلومات وعلى نشر المواد التي يمكن ان يستخدمها الارهابيون لصنع اسلحة فتاكة. وكانت المخاوف تتعلق اساسا بالاسلحة الجرثومية والكيماوية والاشعاعية. وقد سارعت ادارة بوش، الميالة اصلا الى السرية، الى سحب كثير من المعلومات حول الاسلحة ونقاط الضعف الوطنية من مواقع الحكومة في الانترنت. ولكنها، ولدهشة كثير من الخبراء، سمحت ببيع الوثائق الحكومية التى كانت تعطي تفاصيل الابحاث حول الاسلحة الجرثومية وكيفية انتاجها. وقد اجريت هذه البحوث في الفترة 1943 و1969 واهملت بعد ذلك لان الحكومة صارت تسعى الى حظر انتاج هذه الاسلحة عالميا.

ولكن الحكومة بدأت في سحب هذه الوثائق من السوق في الشهر الماضي. واكتشف الباحثون ذلك عندما وجدوا فجوات كبيرة في الوثائق المتوفرة. ويقول ماثيو ليسكو، مؤلف اكثر من 100 كتاب اعتمادا على المعلومات التي توفرها الوثائق الفيدرالية: «هذا شيء مدهش. كل المعلومات التي تطلبها تفاجأ بانها اصبحت سرية. واذا كانت هذه الوثائق متوفرة لمدة 40 و50 سنة فكيف يمكنك سحبها من كل الاماكن؟».

وصرحت شيريل مندونسا، الناطقة باسم وزارة التجارة، بان 6619 وثيقة قد تم سحبها من التداول حتى يوم الخميس وان وثائق اخرى مرشحة للسحب، «لان العملية مستمرة».

وتمنع السياسات الفيدرالية الحالية اعادة تصنيف الوثائق التي كانت اصلا سرية، ولكن ادارة بوش تسعى للالتفاف حول هذه المسألة بامر اداري. وصرح ستيفن كارفنكل، الذي كان مديرا للمكتب الحكومي لرقابة المعلومات، ان المصادرة الحالية للوثائق غير مسبوقة من حيث الحجم وانها غير مقبولة لان الوثائق كانت متاحة بالفعل للعامة من الجمهور لوقت طويل نسبيا. وقال انه من الممكن طلب هذه الوثائق استنادا الى قانون حرية المعلومات، واضاف ان كثيرا من التأخير المقصود يمكن ان يحدث في هذه الحالة، حتى يقرر المسؤولون الفيدراليون المستويات التي يريدون الوصول اليها في فرض السرية.

وقال الدكتور اطلس، من الجمعية الاميركية للاحياء الدقيقة، والعميد بجامعة لويس فيل، انه يشك في فائدة اخفاء هذه الوثائق من جديد. ولكن الدكتور ريتش قال ان الاوراق التي تعالج صناعة اسلحة الدمار الشامل يجب سحبها من التداول العام. ولكنه نبه في نفس الوقت الى ان مزايا البحوث الاولية تفوق بكثير اية مخاطر يمكن ان تترتب عليها. وضرب على ذلك مثلا محددا: يمكن ان ينظر الى نشر ورقة حول الهندسة الحيوية للفيروسات ذات الصلة بالجدري، باعتباره امرا خطيرا. ولكن بحثا حرا حول هذا الموضوع يمكن ان يدفع الى الامام بخطوات جبارة البحوث الاخرى حول الامصال الواقية من عدد كبير من الامراض، بما فيها تلك الخاصة بضعف المناعة البشرية.

وقال الدكتور ريتش: «هناك القليل الذي تنتجه المختبرات الجامعية مما يعتبر حساسا. ولذلك فان الحظر الشامل الذي يستوجب مراقبة كل المنشورات العلمية سيكون باهظ التكلفة، فضلا عن انه سيخنق الاكتشافات العلمية الهامة».

* خدمة «نيويورك تايمز» ـ خاص بـ«الشرق الأوسط»