أوروبا تصرح بغضبها على نزعة أميركا الانفرادية في التصدي لمشاكل عالمية

انتقادات العواصم الأوروبية لتوجه واشنطن نحو توسيع نطاق الحرب على الإرهاب تتعدى الحسابات الانتخابية

TT

التضامن غير المشروط الذي اعلنته اوروبا بسرعة قياسية مع ادارة الرئيس الاميركي جورج بوش، بعد صدمة هجمات 11 سبتمبر (ايلول) على نيويورك وواشنطن، تبخر بنفس السرعة التي ظهر بها. وقد اعرب حلفاء اميركا الاوروبيون، في مقابلات وتصريحات علنية، عن غضبهم على ما يرونه نزعة اميركية جديدة لتجاهلهم والانفراد بالقرار والتصرف، فيما تحاول ادارة بوش توسيع الحرب ضد الارهاب لتشمل العراق.

اعطت هجمات 11 سبتمبر (ايلول) هدفا محوريا للرئيس بوش، واضفت طابعا اخلاقيا على اعماله، مما جعل الاتحاد الاوروبي وحلف شمال الاطلسي الناتو، كليهما، يقفان بقوة وراء الولايات المتحدة. ولكن الاوروبيين كانوا يعتقدون ان جهود واشنطن لبناء تحالف عالمي عريض ضد الارهاب، تنبئ برغبة جديدة للتعاون مع حلفائها، وتعني بصورة خاصة اهتماما اكثر بالاوروبيين انفسهم. لكن مسؤولا اوروبيا كبيرا قال: «نتبين كل يوم اننا كنا مخطئين. وهذا يغذي شعورنا بالمرارة».

وعلق مسؤول اميركي كبير في واشنطن: «الوضع سيئ جدا حاليا. والمناخ السائد مناخ سلبي. فالاوروبيون يعتقدون ان الولايات المتحدة قوية لدرجة لا تسمح بفرض قيود على تصرفاتها».

ويحاول بعض كبار المسؤولين الاوروبيين حاليا تخفيف حدة المرارة في الخلاف مع واشنطن حول وصف بوش لبعض الدول بانها «محور الشر». ولكن اللطف الدبلوماسي ليس سوى غلالة خفيفة الغرض منها اخفاء خلافات جدية حول السياسة الخارجية للولايات المتحدة. وقد ساعدت احداث 11 سبتمبر على اخفاء هذه الخلافات لبعض الوقت.

وتقوم الاتهامات بالنزعة الانفرادية والغرور والوقاحة والتبسيطية الزائدة عن الحد، على خلفية من الخلافات الثقافية والايديولوجية التي عمقتها اكثر الحرب الافغانية، وجعلها اكثر وضوحا التوجه الحالي لشن حرب ضد العراق. فبوش يشعر بمخاطر جديدة، لذا فانه يحاول ان يغير العالم، في حين ان اوروبا مشغولة بمشاكلها الخاصة وهي توسع اتحادها وتقويه ولذا فانها ترغب في ابقاء الاوضاع العالمية كما هي عليه الان. والاوروبيون من الجانب الاخر ليسوا مقتنعين بان الاعمال العسكرية هي الاداة الناجعة لتحقيق أي من الغايتين، أي تغيير العالم او ادارته، ومع ذلك فانهم يشكون مر الشكوى من ان عروضهم بتقديم المساعدات العسكرية قد رفضت على وجه العموم، مع غياب أي شعور بالجميل في كثير من الاحيان.

ويحاول الاوروبيون بكل ما يملكون من جهد ان يؤثروا على الجدل الدائر في واشنطن خاصة حول العراق. ويحاولون ممارسة تأثيرهم هذا من خلال وزير الخارجية كولن باول، الجنرال السابق الذي ساعد على تكوين التحالف ضد الارهاب. ولكنهم يقولون ان الاراء المعتدلة للجنرال السابق يتم تجاهلها باستمرار. وقد تصاعدت الاتهامات الاوروبية خاصة بعد قرار الولايات المتحدة بان تنطلق من الحرب ضد افغانستان لتتبنى استراتيجية وقائية، تقضي بشن الحرب ضد العراق فقط لأنه يمثل خطرا محتملا. هذه الاستراتيجية تعني في تفسير الاوروبيين ان اميركا مستعدة للتضحية بافضل حلفائها للدفاع عن مصالحها العالمية الخاصة.

قال ايفو دالدر، المسؤول السابق في ادارة بيل كلينتون والذي يعمل حاليا مع معهد بروكنغز: «قبل هجمات 11 سبتمبر كانت الولايات المتحدة واوروبا تسبحان ببطء بعيدا عن بعضهما البعض، ولكن يبدو الان انهما تندفعان في اتجاه التصادم. ومع ان الكثيرين كانوا يأملون ان تحظى السياسة الخارجية الاميركية برضى اوروبا، الا ان واشنطن صارت اكثر ميلا للنزعة الانفرادية مما كانت عليه فيما مضى، واكثر اصرارا على ان تسير الاشياء وفق رغبتها، واكبر استعدادا لتجاهل الزوايا التي ينظر بها الاخرون الى الامور. وهي تفعل ذلك اذا كان الامر متعلقا باعادة بناء افغانستان او تحديد الاسباب التي تولد الارهاب او توسيع مدى الحرب على الارهاب».

وقد طلب خافير سولانا، كبير المسؤولين الاوروبيين في مجال السياسة الخارجية، من الجانبين ان يتصرفا كما يتصرف الراشدون. وقد شكره باول على هذا الرأي في محادثة هاتفية. قال سولانا في مقابلة اجريت معه: «هذه العلاقة من الاهمية بحيث لا يمكن التلاعب بها من قبلنا او من قبلكم. وعلينا في الجانبين ان نحافظ على الحكمة والرشد».

لكن الاوروبيين انفسهم، وبعد تبنيهم لعملة واحدة هى اليورو، يشعرون بانهم صاروا قوة اكبر ويمكن ان يفرضوا ارادتهم ايضا. وفي الوقت الذي تجري فيه هذا العام الانتخابات في اكبر بلدين اوروبيين، هما المانيا وفرنسا، فان الساسة اليساريين من امثال وزير الخارجية الفرنسي هوبير فيدرين ووزير الخارجية الالماني يوشكا فيشر، يحاولون تقوية مراكزهم الانتخابية بالهجوم على بوش وملاحظاته حول «محور الشر».

ويقول المسؤولون الاميركيون والاوروبيون ان هذه الانتقادات لا يمكن تفسيرها بانها مجرد حملات انتخابية والعاب سياسية. فقد تميز حوار تم الاربعاء الماضي في التلفزيون الالماني بهجوم حاد على السياسة الخارجية الاميركية شاركت فيه كل الوان الطيف السياسي الالماني. وقال احد المشاركين في البرنامج: «التضامن لم يعد غير مشروط».

بل ان الرئيس الالماني يوهانس راو، الذي يعتبر فوق السياسة، قد حذر الاميركيين وذكرهم بأن النجاحات العالمية تعتمد على التحالفات. اذ قال: «نجاحات الاعمال في المستقبل، سواء كانت هذه الاعمال اقتصادية او سياسية، لن تعتمد على العزلة او السياسات القائمة على الانفراد بالقرار، وخاصة عندما يتعلق الامر باستخدام الوسائل العسكرية فانه يجب ان يحظى بتأييد عالمي واسع حتى يكلل بالنجاح المطلوب. ويجب ان يكون الشركاء على استعداد للحوار فيما بينهم وسماع وجهات نظر الاخرين، ولكن يجب ان يتوحدوا عندما تحين ساعة الفعل».

ويعتقد المسؤولون الاوروبيون انهم ملزمون بالصراخ حتى يسمعوا اصواتهم لواشنطن السائرة في مزاجها الحربي وشعورها بان على عاتقها ايصال رسالة للعالم. ولكنهم يشعرون انهم حتى اذا اسمعوا اصواتهم فان ذلك ربما لا يجدي، وربما يؤدي الى نتائج عكسية بعرقلة جهود باول للتهدئة.

ويتمسك كريستوفر باتن، المسؤول الاوروبي عن السياسة الخارجية، بكل ما قاله حول هذه المسألة. فقد حذر واشنطن من «طغيان النزعة الانفرادية» في الحرب ضد الارهاب، ومن اهمال العلاقات البناءة مع كل من ايران وكوريا الشمالية. وقال في مقابلة اجريت معه: «انا صديق حقيقي لاميركا، ولكني صديق لا يخلط بين الصداقة والتملق». وقال ان الاميركيين يتضايقون عندما يبدو الاوروبيون «وكأنهم يمارسون الضغوط، او يدعون الحكمة ويتصرفون بأبوية. ونحن ايضا نشعر بالضيق عندما نشعر ان اميركا تحاول ان تمارس نفوذها على الجميع».

ويقول باتن ان المشكلة هي ان الوزن العسكري الاميركي من الثقل بحيث يبدو الوزن العسكري العالمي كله قزما ازاءه، وان هذه الظاهرة ستزداد تفاقما باقتراح بوش زيادة ميزانية البنتاغون بـ 48 مليارا من الدولارات، أي اكثر من كل الموازنة العسكرية البريطانية بمقدار الثلث. علما بان بريطانيا هي صاحبة ثاني اكبر موازنة عسكرية من بين دول الناتو. والحرب ضد افغانستان كانت سهلة نسبيا. ولكن التحالف الاوروبي الاميركي «تواجهه الان خيارات صعبة. وتحتاج ادارة العلاقات بيننا الى فكر وحذر وحرص».

عندما سئل حول ما اذا كان يفهم بالضبط ما حدث من تغير في النفسية الاميركية بعد 11 سبتمبر، قال باتن: «لا اعتقد ان اولئك الذين ذهبوا الى نيويورك ويعرفون اميركا معرفة جيدة ويشعرون بالتعاطف مع نيويورك ومع اميركا، لا اعتقد ان هؤلاء انفسهم قد فهموا تماما ما حدث هناك. ولا اعتقد اننا نستوعب بصورة كاملة الاثر الذي يترتب على تدمير هذه البراءة العظمى وهذه الثقة المفرطة بالنفس وهذا الشعور بالقوة والامان، بهذه الطريقة البشعة. اعتقد ان مثل هذا النقد الموجه الينا مشروع». وقال انه منتبه الى حقيقة ان ادارة بوش وجدت غاية وهدفا. «وعندما تحارب من اجل هدف عادل، فان ذلك يكون صحيحا. ولكن ليس بالضرورة ان الناس يريدون سماع صوت البوق وهو ينادي للقتال».

ومع كل ذلك يرى باتن ان قضايا التحالف ومصير القانون الدولي ومقتضيات المنطق، معرضة كلها للخطر. وقال ان العراق وايران وكوريا الشمالية لا تمثل محورا، وهي ليست الدول الوحيدة في العالم التي تنشر اسلحة الدمار الشامل. وتساءل: «لماذا تكون العلاقات البناءة من اجل تحسين مسلك الدول، فكرة جيدة في حالتي الصين وروسيا (وهما مساهمتان خطرتان في نشر الاسلحة الفتاكة) وفكرة رديئة في حالة ايران؟ انا لا افهم لماذا يقول الناس انه من الضروري ان نتخلى عن العناصر الاصلاحية الان؟

ولماذا لا نبذل جهدا اكبر مع روسيا حتى يعود المفتشون الى العراق؟ ولماذا لا نعترف بالعون الاجنبي والبناء الوطني كوسائل هامة في الحرب ضد الارهاب؟».

وقال باتن ان الاهم من كل ذلك ان للولايات المتحدة اصدقاء يجب ان تستمع الى ارائهم.

* خدمة «نيويورك تايمز» ـ خاص بـ«الشرق الأوسط»