التقاط صورة تذكارية في وقت غير مناسب بعد هجمات سبتمبر يحطم أحلام المهاجر الباكستاني أنصار محمود وعائلته في حياة أفضل

TT

حتى قبل خمس دقائق من حضور موظفي هيئة الهجرة والتجنيس الاميركية، كان انصار محمود مقتنعا بان الامر لن يحدث. فقد ارتدى زي محلات «دومينو» للبيتزا واتصل برئيسه في العمل وقال له «سأصل في غضون نصف ساعة»، ثم انتظر في مكتب محاميه لفترة من الوقت، على امل ان يكون مخطئا.

في تلك الساعة من شهر يناير (كانون الثاني) الماضي بدا انه لا نهاية لوقوع محمود تحت تأثيرات هجمات 11 سبتمبر، وخصوصا منذ هجمات الجمرة الخبيثة عندما قبضت عليه الشرطة المحلية بعدما شاهدوه وهو يتصور امام معمل لتكرير المياه.

وخلال 48 ساعة برأ مكتب المباحث الفيدرالي ساحة انصار محمود من كل التهم التي وجهت اليه على انه ارهابي. ويحمل محمود بطاقة اقامة، ولكن هل يضمن ذلك لاي مهاجر نهاية سعيدة لمشكلته؟

بعد 6 اشهر من هجمات 11 سبتمبر يواجه انصار محمود نفس المشكلة التي يواجهها معظم المقبوض عليهم وعددهم 1200 بعد الهجمات الارهابية. وبالرغم من تبرئة معظمهم، فإن ذلك اصبح بلا معنى. فلم تقدم وزارة العدل الاميركية اية معلومات بخصوص المعتقلين، الا ان المصادر في الوزارة وفي هيئة الهجرة والتجنيس اشارت الى انه من المرجح ان اقل من خمس المحتجزين سيبقون في الولايات المتحدة. واذا لم يرحلوا بالفعل، فانهم سيرحلون قريبا، واذا تم ترحيلهم لا يمكنهم العودة مرة اخرى. ومن بين المرحلين العديد من المقيمين الشرعيين، وبينهم انصار محمود واشخاص تزوجوا من اميركيات.

في البداية فإن هذا الكم الاجنبي المجهول اثار مخاوف اميركا من هجوم ارهابي داخل اراضيها. والان فإن القضايا الفردية تشير الى درس اخر: كيف لا يمكنهم الافلات من القوانين واستغلال انتهاء فترة التأشيرات للبقاء في البلاد لفترة اطول، وكيف اختفى الغموض والعفو المفاجئ الذي كان احد صفات تطبيق قوانين الهجرة في الولايات المتحدة.

وقد تم القبض على معظم هؤلاء الاشخاص في اعقاب 11 سبتمبر بطريقة مماثلة: خلال البحث علن ادلة على علاقات بالارهابيين، عثر المحققون على اخطاء ومشاكل كان يمكن ان تظل مختفية او يتم تجاهلها، البقاء بعد انتهاء فترة الاقامة المسموح بها، الحصول على ظائف غير قانونية. وقد اعاد رجال هيئة الهجرة والتجنيس العمل بعدد من القوانين التي لم تطبق او استخدموا بعض القوانين القديمة بطريقة جديدة.

وفي حالة انصار محمود فانه ساعد صديقة باكستانية غير مسجلة على العثور على مسكن، وهي حالة عادية ومتكررة في اوساط المهاجرين. وادى ذلك الى اتهامه بايواء مهاجرة بشكل غير قانوني، وهي تهمة كانت قبل 11 سبتمبر تستخدم فقط تقريبا ضد المهربين على نقاط الحدود.

واوضحت صوفي فيل التي تعمل مع مشروع المحامين المتطوعين في بافلو «ابلغ عملائي، سواء كانوا من العرب او المكسيكيين او الكاريبيين بان الامور تغيرت. فلن يحصلوا على تعاطف بعد الان اذا ما انتهكوا القانون».

ومن زنزانته في السجن الفيدرالي في بافلو كان من الواضح لانصار محمود انه اختار الوقت غير المناسب لبدء حياته في الولايات المتحدة. ولكن بعد ظهر 9 اكتوبر (تشرين الأول) الماضي، كان كل ما يفكر فيه هو الزاوية المناسبة لالتقاط الصورة.

ويبدو انصار محمود اصغر من عمره الحقيقي (24 سنة) بسبب نحالته. وهو يبكي عندما يشعر بالحزن او الغضب، وقد بكى كثيرا في الاونة الاخيرة. فهو يبكي عندما يذكر مصيف سيف الملوك، مصيفه المفضل في باكستان، او الغزلان التي تتجمع في الصباح المبكر خلف منزله في هدسون. وهو يبكي عندما يتذكر الفتيات الاميركيات اللائي ساعدونه خلال وجوده في الولايات المتحدة لمدة سنتين. جيسكا زميلته في محل البيتزا التي علمته قيادة السيارات، وكيلي زميلته في محل اخر للبيتزا التي دافعت عنه عندما حاول عمدة المدينة استعراض عضلاته.

ويبكي بحرقة عندما يتذكر شقيقاته الثلاث في باكستان، اللائي تمكن من انهاء الدراسة بفضل 400 دولار كان يرسلها شهريا الى اهله.

المشكلة بدأت حين قالت له اخته مريم عندما اتصل بها في الخريف الماضي لا نعرف عن حياتك اي شيء الا انك تعمل فقط. وقرر ارسال صورة كاملة لحياته في هذه المدينة الاميركية الصغيرة. فقد التقط العديد من الصور للبناية البيضاء النظيفة التي يعيش فيها، ومحل دومينو للبيتزا الذي يعمل فيه ومشاهد للمدينة في الطرق التي يمر بها لتسليم طلبات البيتزا. والتقطت 36 صورة وبقيت صورة واحدة.

وبعد تسليم طلب بيتزا في الساعة الخامسة بعد الظهر، انتقل الى مكان اخبره زبون مستديم انه اعلى نقطة في هدسون، واوضح صورة للجبال. وطلب من حارس التقاط صورته. غير ان التل كان يطل على معمل لتكرير المياه الرئيسي في المدينة. وبسبب مشكلة الانثراكس خصصت المدينة حارسين لتلك المنطقة.

واثناء التقاط الصورة اتصل الحارس الاخر بالشرطة التي كانت في انتظار انصار محمود عندما عاد الى محل البيتزا. وسأله ضابط شرطة «لماذا كنت تلتقط الصور لمعمل التكرير؟».

اجاب محمود ما هو نوع هذا النبات؟

ـ بعد يومين اعيدت فحوصات المياه، وكانت تؤكد خلو المياه من التلوث، وحدد المحققون ان انصار محمود هو فعلا الشخص الذي يزعمه: أي انه مهاجر كان يأخذ صورة يريد ارسالها الى اهله في الوطن. ولكن المحققين عثروا كذلك على وصولات تثبت انه دفع ايجار الشهر الاول وتأمين السيارة لزوجين باكستانيين كانا يعيشان بصورة غير قانونية في هدسون. وفي 16 اكتوبر (تشرين الاول) اعترف انصار محمود بانه مذنب بجريمة ايواء مهاجر غير قانوني. ومع انه لم يحكم عليه بالسجن، الا انه تعرض مباشرة لاجراءات الابعاد.

يقول انصار محمود انه لا يعرف انهما لم يسجلا، ولكنه يقول كذلك انه لم يسأل وانه لم يكن بامكانه ان يفعل شيئا مختلفا. المرأة التي ساعدها، واسمها عائشة يونس، هي شقيقة اقرب اصدقائه.

«كيف لا اساعدها؟» ـ عندما وصلت عائشة يونس العام الماضي مع زوجها، كان انصار محمود قد اقام عاما كاملا في الولايات المتحدة وكان وضعه يسمح له بمساعدة الاخرين. وبعد ان جال في عدد من المدن وجد بغيته في محل للبيتزا في مدينة سالسبري. وكانت تلك وظيفة تناسبه تماما. فكلما عملت اكثر كلما زاد دخلك. وكان انصار يعمل 13 و14 ساعة في اليوم. وبنهاية اكتوبر كان محمود يملك سيارتين وشقة نظيفة وكان يرسل 400 دولار الى اسرته بباكستان. اشترت اسرته جهاز تلفزيون جديدا، وثلاجة واصبحت شقيقاته يذهبن الى المدرسة. كما ان والده الذي اصيب بنوبة قلبية في سبتمبر، اصبح قادرا على الحصول على العلاج، كما ان الاسرة كانت تخطط للرحيل الى منزل جديد هذا العام.

لكن في يناير، تحركت سلطات الهجرة والتجنيس الاميركية لتصادر بطاقته الخضراء. وفي يوم 24 يناير، أي اليوم السابق لاعتقاله، عمل انصار ساعاته الـ13 العادية، ولم يكن يصدق انه سيتعرض للترحيل فعليا.

يقول «ماذا افعل عندما اعود. لا عمل، لا مال. سأجلس هكذا لاشاهد اسرتي وهي تعاني. والدي لن يحصل على الدواء. اخواتي لن يذهبن الى المدرسة. كل شيء سينتهي. لا اعتقد انهم يمكن ان يرحلوني».

عند الساعة العاشرة مساء، توقف ليجري محادثة مع اسرته. كان والده يردد: «سأدعو لك. الله سيساعدك». وحاولت اخته ان ترفع من معنوياته بطلب بيتزا باللغة الانجليزية التي تعلمتها في المدرسة.

وقالت والدته: «ليس هناك مشكلة اذا اردت العودة الى الوطن».

ولكن كل ذلك لم يكن عزاء كافيا لانصار.

قال: «امي وابي عطوفان. ولكنني لن اذهب الى باكستان. صحيح ان القوانين واللوائح كلها ضدي، ولكن الله سيساعدني».

في صباح اليوم التالي، ارتدى ملابس العمل، وذهب الى مكتب محاميه، وبعد ذلك جاء موظف الهجرة والقيد في يده. وفي يوم 26 فبراير (شباط)، ذهب انصار محمود الى جلسة الاستماع حول ابعاده. وكان في حالة من التفاؤل واضحة. «لن اغادر هذه البلاد مطلقا».

كان انصار محمود متأكدا انه سيستأنف عمله في الاسبوع التالي. فهو قد استاجر محاميا، اسمه ريكس فيلاسكيز. ولان انصار كانت لديه بطاقة خضراء كان فيلاسكيز يعتقد ان هناك فرصة لاطلاقه بالكفالة. ولكن المشكلة هي انه اعترف بانه مذنب في قضية الايواء.

قال فاسكيز: «يجب ان نكون واقعيين. ليس هناك الكثير الذي يمكن ان نفعله».

جلسة الاستماع كانت قصيرة. وقبل ان يلقي فيلاسكيز دفاعه قال القاضي انه لا يملك صلاحية اعطاء انصار محمود الكفالة. وقد بدت خيارات انصار واضحة بصورة فجائية ومفجعة: اما ان يدخل في سلسلة لانهائية من الاستئنافات التي لا يستطيع دفع قيمتها ويراكم ديونه بهذه الطريقة، واما ان يوافق على الابعاد. ومع انه لم يلم بكل التفاصيل الا ان الفكرة العامة كانت واضحة لديه. بعدها انفجر باكيا. وقد بكى للدرجة التي اضطر لاستلاف نظارة يخفي بها عينيه.

ومع ذلك فان انصار محمود ما يزال يقاوم. ففي يوم الثلاثاء الماضي سلم مذكرات للمحكمة الفيدرالية ومحكمة قضايا الهجرة طلب فيها تأخير ابعاده. وهو يخشى ان ينفد كل ما معه من النقود.

* خدمة «واشنطن بوست» ـ خاص بـ«الشرق الأوسط»