خبراء وسياسيون غربيون يخشون انطفاء كل «مصابيح» الشرق الأوسط كما حدث في أوروبا عام 1914

عوامل الكرامة والحسابات الخاطئة تعد المسرح لكارثة * وزير أوروبي: لا نعرف أين نقف أو ماذا تريد أميركا ودول المنطقة

TT

عندما ظهر ان الاحداث اخذت تفلت من الايدي بصورة خطيرة في اغسطس (آب) 1914، لخص السير ادوارد غراي الموقف حينها بملاحظة تنم عن القنوط، حين قال: «أخذت المصابيح تنطفئ في كل انحاء اوروبا. ولن نراها وهي تشتعل مرة اخرى في حياتنا هذه».

لم تصل الاحداث في منطقة الشرق الاوسط الى هذه الدرجة، كما ان وزير الخارجية كولن باول من الرجال المعروفين بالتفاؤل الجم. ولا يميل لإراقة الدماء، وهو مكلف بتحقيق السلام في وقت غرق الاسرائيليون والفلسطينيون في مسلسل من العنف المتبادل، الفظ حتى بمقاييسهم هم انفسهم، فانه يمكن ان يصدر حكما اكثر تشاؤما من الحكم الذي اصدره السير ادوارد غراي.

وظل الشرق الاوسط لعدة عقود اكثر المناطق اشتعالا في العالم. وصارت الحرب، والاوضاع الشبيهة باوضاع الحرب هي النمط السائد للحياة خلال اكثر من نصف قرن، أي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. ولكن هناك اسبابا قوية لاعتبار الصدام الحالي ليس اكثر دموية فحسب، بل مختلفا تماما عن كل الصدامات التي حدثت في الماضي القريب.

وهو صراع تمتد اثاره لتتخطى الاراضي المقدسة، بل تتخطى الشرق الاوسط نفسه. وليس من قبيل المبالغة ان نقول ان له اثارا على حرب الولايات المتحدة ضد الارهاب، وعلى علاقة الولايات المتحدة بحلفائها الاوروبيين، وعلى الصراع الدائر بين الهند وباكستان. ويمكن لهذا الصراع ان يمتد الى سورية، والتي ربما تنتهز الفرصة لمواجهة اسرائيل ما دامت اسرائيل ترسل تهديداتها المبطنة لضرب اهداف سورية. ويمكن ان تزعزع الاوضاع في الاردن، وهو من قوى الاعتدال في المنطقة. وما لم تحل هذه المشكلة فان احتمالات التأييد الاسلامي او الاوروبي لمحاولات اسقاط صدام حسين، ستكون اقل من الصفر. واذا اغرى انفجار يحدث في الشرق الاوسط شخصا مثل صدام حسين بايقاف امدادات البترول، او استخدام اسلحة الدمار الشامل، فان الاخطار سرعان ما تصبح عالمية. وستواجه الدول الكبرى تحديا، اكبر كثيرا مما تواجهه الان، للتمييز بين الافعال الموزونة والهوجاء.

ولهذه الاسباب، وربما لاسباب اكثر منها، فان الموقف اليوم يعيد الى الذاكرة تلك الاحداث التي افلتت من السيطرة واستعصت على التحكم في عام .1914 وقتها تضافرت عوامل الكرامة والحسابات الخاطئة والاسلحة والتكتيكات الجديدة لتعد المسرح لمواجهة كارثية . وبمجرد بداية تلك المواجهة فان التحالفات الصماء، كانت كفيلة بادخال اوروبا كلها في دائرة المواجهة الشريرة. ولكن التحالفات الصماء ليست مشكلة في عالم اليوم بالطبع. فالاميركيون واثقون من تفوقهم في ميدان الحروب. ولكن الغضب الواسع على الولايات المتحدة، ليس في العالم الاسلامي وحده، بل في اجزاء من اوروبا، يمكن ان يدفع كثيرا من الدول الى اشكال من الوحدة والعمل المشترك تبدد ثقة اميركا في انها يمكن ان تحقق نصرا حقيقيا في معركتها ضد الارهاب.

قال ريتشارد هولبروك، الدبلوماسي العريق المعروف باثارة الاسئلة الحرجة: «اذا نظرت الى افغانستان والعراق والشرق الاوسط والعالم الاسلامي، لوجدتها متفرقة حاليا. ولكنها جميعا تقوم بينها صلات. وليس من بيننا من يعرف بدقة كيف تتفاعل كل هذه القوى في المستقبل. وهناك سيناريوهات عديدة يمكن ان تقودنا الى «مدافع اغسطس» ومهمتنا ان نمنع ذلك».

ولكن هذا لن يحدث اذا كان القادة الاسرائيليون والفلسطينيون يعتقدون ان وجود شعبيهما نفسه في خطر. وسواء كان هؤلاء القادة محقين او غير ذلك، فانهم يتصرفون على اساس ان القوة الباطشة وحدها هي الكفيلة بالحيلولة بينهم وبين الانقراض. وقد حاول باول الاسبوع الماضي، ودون ان يحقق نجاحا يذكر، اقناعهم بان تحليلهم للاوضاع ليس صحيحا. وقال لرئيس الوزراء ارييل شارون انه مهما تمادى في شن هجومه الحالي فانه لن يقضي على الارهاب.

قال باول: «سيظل العنف والغضب والاحباط، الذي يغذي هذا الارهاب موجودا ما لم نصل الى عملية التفاوض». ولكن البيت الابيض كان يقول عن شارون، في نفس الوقت، انه «رجل سلام». كما ان الاحداث التي شهدها الاسبوعان الاخيران لم تفعل غير زيادة شعبية القائدين وسط شعبيهما، وهذا معناه ان ايا منهما لن يجد حافزا لتغيير مناهجه وتكتيكاته. وقد علق دبلوماسي اوروبي لا يفتقر الى مشاعر الصداقة مع الولايات المتحدة: «اصبحت هذه نبوءة تحقق نفسها. فالارهاب له ثمن مجز في الشرق الاوسط. فقد استطاع المتطرفون تدمير عملية اوسلو للسلام. واخشى ان نكون حاليا متورطين في صناعة مزيد من الارهابيين في كل دقيقة جديدة».

وقد تعززت مواقع شارون وعرفات حاليا بصورة لم يعرفها أي منهما قبل عام من الان، وبعد ان تراجع موقعه كناطق باسم الشعب الفلسطيني في بداية العام، فان حصار الدبابات الإسرائيلية لمقر الرئيس عرفات دفعه للقول بأنه على استعداد للشهادة. وعلى الجهة الاخرى فانه على الرغم من الضغط الدولي للانسحاب من الضفة الغربية، فان شارون ظل معارضا، وجاءت العمليات الانتحارية التي وقعت في لحظة حرجة، لتدعم من موقفه المتحدي للمجتمع الدولي.

وقالت جوديث كيبر، المتخصصة في الشرق الأوسط، والعاملة في مجلس العلاقات الاجنبية: «الوضع خارج السيطرة كليا، بشكل لم يحدث مثيل له من قبل.. فليس هناك سوى الولايات المتحدة لتؤدي دور الاشراف المؤثر في المنطقة».

وحسب بعض الدبلوماسيين الأميركيين والغربيين، فان ادارة بوش ظلت، ولفترة، تتبنى موقفا سلبيا من الشرق الاوسط، بشكل لم تقم به أي سلطة أميركية سابقا. فحتى الان، ليس هناك أي مبعوث خاص للمنطقة، وحينما بدأت بارسال مسؤولين كبار، آخرهم كولن باول، لم يكن لديها أي تفويضات واضحة لمبعوثيها.

ففي الوقت الذي تتباهى الولايات المتحدة بكونها أقوى دولة على الكرة الأرضية، فانها اصبحت مهددة، بفقدانها القدرة على التأثير على المستوى الدولي، وخصوصا في واحدة من أكثر المناطق أهمية. والسبب يعود بدرجة كبيرة، الى وجود قائدين متهورين، حولا أي ضغوطات دبلوماسية او سياسية أو اقتصادية الى فعل ضئيل الفائدة، لكن الولايات المتحدة لم تقم بأي جهد فعال لضبطهما قبل ان يفلت الوضع من اليد.

من جانب آخر، ليس لأوروبا أو بريطانيا أي تأثير محسوس على إسرائيل، والرأي العام الأوروبي قد انقلب ضد سياسة الولايات المتحدة في المنطقة. فالدعم الشعبي الكبير الذي حظي به الرئيس بوش في حربه ضد الإرهاب قد تبخر كله في القارة الاوروبية. ويرى الزعماء الأوروبيون ان بوش قد فشل في القيام بواجبه بلجم شارون الذي يرونه المسؤول الرئيسي عن تصاعد العنف في المنطقة.

ظاهريا، أبدت بريطانيا وقوفها الثابت إلى جانب الولايات المتحدة. فتوني بلير لم يقم بارسال قوات البحرية البريطانية الى أفغانستان، لكنه القى خطابا في تكساس، واعدا فيه بالتزامه بتقديم الدعم للحملة الأميركية المتوقعة ضد العراق، لكنه بعيد جدا عن الرأي العام، خصوصا داخل حزب العمال الحاكم.

وقال أنتوني سامبسون، الكاتب والصحافي البريطاني: «لا أتذكر المرة الأخيرة التي كانت أوروبا والولايات المتحدة على خلاف واضح في قضية مهمة مثل الان.. ربما فيتنام».

على صعيد الواقع، ما زالت أوروبا تحاول التكيف مع حقيقة وجود قوة عظمى واحدة، وتعيش الان وقتا صعبا نتيجة لهذا التغيير. فهي تجد التوسع الأميركي الهائل في الانفاق العسكري، عنصرا مطمئنا لها لكنها في الوقت نفسه غير مستعدة لتوظيف أموال أخرى للمهام الدفاعية. ويمكن القول ان النجاح العسكري الأميركي قد كسب احتراما اوروبيا كبيرا لكنه خلق في الوقت نفسه قدرا من الازدراء للقوة الأميركية. فالاوروبيون يخافون من التحولات الجديدة من وضعهم خارج افق اتخاذ القرارات المصيرية الكبرى، حتى مع نداءات بلير بالوحدة أمام الإرهابيين.

ضمن هذا السياق، قال وزير أوروبي لأحد أصدقائه الأميركيين: «أقول لك بصراحة، نحن لا نعرف أين نقف، ولا نعرف ما تريد ان تفعله الولايات المتحدة، أو الإسرائيليون أو الفلسطينيون أو بلدان الشرق الأوسط. ونحن لا نعرف ما يجب علينا القيام به». ومثلما كتبت بربارة توشمان حول بداية الحرب العالمية الأولى في كتابها «بنادق أغسطس»، فان تبديل عناصر كثيرة في معادلة ما عمل بسيط على الاستراتيجيين لخداع انفسهم بأنهم مع قليل من الحظ يستطيعون تحقيق الانتصار. في وضع كهذا الحسابات العقلانية عسيرة، مثلما تظهر هذه الأيام.

فاذا كانت المصابيح لم تنطفئ كلها في الشرق الأوسط، فانها تتعرض للاختفاء بشكل سريع جدا ففي عتمة الموت والدمار، مع انهيار التحالفات القديمة، يصبح أصعب فأصعب على الخبراء ان يجدوا الطريقة التي ستساعد على اعادة اشعال المصابيح ثانية.

* خدمة «نيويورك تايمز» ـ خاص بـ«الشرق الأوسط»