النزاع والتفتت في الحالة الشيعية العراقية

من الإخباريين والأصوليين إلى آل الصدر وآل الحكيم

TT

على كثرة التوقعات المعاكسة، ظلت لعبة اسم رئيس الحكومة العراقية المقبل تراوح مكانها، بعد أن فضّل المرشح إبراهيم الجعفري أن تكون تنحيته عن المنصب «داخل البرلمان»، بدلاً من إعادة التصويت، مرة أخرى، داخل لائحة «الائتلاف العراقي الموحد» في الوقت الذي برز في الأفق تساؤل مشروع عما إذا كانت قواعد التوافق الهش لهذه اللائحة قابلة للتماسك أم لانفراط عقدها، وهي التي تضم خليطاً لا يعوزه الاختلاف والتجانس، بل التنافر، بين القوى والاتجاهات الشيعية الساعية كل منها إلى إحراز المكاسب والتفريط بالتعايش.

وربما تصح هنا إشارة العديد من المطلعين على الملف الشيعي العراقي إلى أن ثمة صراعاً محموماً يدور بين طرفين أساسيين في الائتلاف لعبا دوراً ملموساً في تصعيد حدة الاستقطاب والتجييش داخله. الطرف الأول هو «التيار الصدري» يقوده الزعيم الشاب مقتدى الصدر، وفي المقابل «المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق» بزعامة عبد العزيز الحكيم.

وإذا كان «موقف» الجعفري نوعاً من الهروب إلى أمام، فأن قدرته لا تكمن في الإفلات من محطة الاستحقاق الأبرز في البرلمان فقط، بل «صموده» أيضاً في الوقوف طويلاً على خطوط التماس بين الخصمين الشيعيين المتنافسين، الصدر والحكيم، اللذين باتا يتغذيان في صراعهما على عوامل عدة مهمة، من بينها انسداد الآفاق أمام أي صوت شيعي آخر لا ينضوي تحت راية أي منهما أو لا يتحالف معهما من موقع الإلحاق والتبعية، وهناك دورة اقتصادية موازية ينهض كل منهما عليها، عمادها موارد مالية سواء كانت مرتبطة بكرم أغنياء الطائفة أو المساعدات المتدفقة من إيران، هذا فضلاً عن حدّة الهوية الطائفية التي يعكسها الفريقان المتنافسان، وما تفرزه هذه الهوية من تأسيس مليشيات شديدة الفتك، ناهيك من سيطرتهما الفعلية على مناطق بعينها على رغم مشاركتهما الفعلية في الأجهزة الحكومية المختلفة. لكن الافتراق بين خيارات الرجلين هو الآخر أبعد وأعمق من اللحظة السياسية الراهنة. فشيعة مقتدى الصدر لم تتعلم أصول اللعبة السياسية وأسلوب المناورات لمواجهة الواقع العراقي الجديد، وما يمليه هذا الواقع من سلوك معقد. ولئن جاء الصدر متكئاً على رصيده العائلي ليطالب بحجز مقعد في مكان فارغ يتسابق مع الآخرين لاقتسامه من خلال أسلوب المواجهة مع موازين قوى مائلة بصورة حاسمة لمصلحة الطرف الآخر (الأميركي) واضعاً مناصريه وجزءاً من طائفته على خط التماس مع القوات الأمريكية، فقد اختار عبد العزيز الحكيم أسلوب «قضم» المواقع بشكل تدريجي بالسياسة من جهة وببناء أدوات تستطيع تدريجاً أن انتزاع المواقع والأدوار لطائفته. ولئن كانت إطلالة مقتدى الصدر على المسرح الشيعي العراقي اقتحامية وكأنه يندفع لتنفيذ انقلاب واسع داخل طائفته وعلى مستوى المسرح العراقي برمته، فإن الحكيم في المقابل اتبع مبدأ «الغموض البنّاء» المتأرجح في مزيج بين الديني والسياسي وبين العسكري والبرلماني. ولئن اعتمد الصدر في حركته على الخزانات البشرية المهمشة اجتماعياً والأقل تجربة والأكثر غوغائية، فإن «جمهور» الحكيم، في الغالب الأعم، يتحدر من الجيل الأكبر سناً ومن فئات اجتماعية أكثر مدينية وأعلى في الهرم الاجتماعي. أما بشأن طروحات الطرفين «الفكرية»، فلا يصعب استشراف الفوارق بين مشروعين متناقضين؛ ففي حين يتبنى مقتدى الصدر شعارات آيديولوجية مغلفة بخطاب عام يخبئ خلفه لغة تقتل الواقع قبل أن تعيه، وتفصّله على عقيدة ثابتة في يقينها، بريئة من كل حيرة والتباس ومتربعة على عرش الحقيقة المطلقة، يلجأ منافسه الحكيم إلى نوع من الطرح الاجتهادي النسبي في التعامل مع المشكلات الواقعية.

من نافلة القول إن الافتراق في نهج كلا الفريقين الشيعيين يضرب جذوره عميقاً في تاريخ المرجعيات الشيعية الذي لم يكن، حتى يومنا هذا، سوى تاريخ تنافس على المواقع، مما يشير إلى حقيقة أن حدة التنافس بينهما لا يمكن أن تغيب عن المسرح الشيعي فجأة لكي يصبح الانصهار على أنغام «وحدة الموقف» داخل الائتلاف ممكناً وسريعاً. وتبعاً لذاكرة غير موغلة في التذكّر، لم تكن مدينة النجف في العقود الأخيرة من القرن التاسع عشر مجرد مقر للحوزة العلمية فحسب، بل عكست أيضاً جدلية للتنافس الفكري بين علمائها من «الإخباريين» الذين ذهبوا إلى عدم جواز الأخذ بظواهر القرآن إلا عن طريق أخبار السنة الواردة عن أهل البيت، وهو التيار الذي أسس مرتكزاته وقواعده الأمين الأسترآبادي، وبين «الأصوليين» القائلين بفتح باب الاجتهاد. هذا الصراع الذي استمر طيلة نصف قرن، كان النصر فيه حاسماً لـ«الأصوليين» على نظرائهم «الإخباريين». في خلال هذه الحقبة، برز في مدينة النجف تنافس لم تكن الأفكار وحدها ساحته الرئيسية، وإنما منصب المرجعية الشيعية العليا الذي شهد حلبة سباق بين أربعة مجتهدين كبار كانوا مرشحين للظفر بهذا المنصب، حيث برز الميرزا محمد حسن الشيرازي (توفي 1895) كأقوى المرشحين المحتملين لخلافة سلفه مرتضى الأنصاري. وعلى النقيض من العلماء الشيعة الذين كانوا يميلون بصورة فطرية ربما إلى نوع من الاستكانة السياسية، برز محمد حسن الشيرازي كزعيم ديني وسياسي في آن معاً، فهو رفض استقبال شاه إيران آنذاك، ناصر الدين القاجاري، عند مدخل مدينة النجف أو حتى زيارته في محل إقامته، حتى أصبح هذا الموقف سلوكاً تلتزم به المرجعيات الشيعية اللاحقة. لكن أهم مواقفه السياسية على الإطلاق كانت في تزعمه «انتفاضة التنباك» التي اندلعت عام 1890 في إيران، حيث أصدر فتواه الشهيرة التي تحرم استعمال التبغ، بسبب اتفاقية شركة الدخان الإيرانية ـ البريطانية. وكانت هذه الفتوى سبباً في تزايد شعبيته على حساب المراجع الشيعية الأخرى في النجف وكربلاء، لعل بينهم محمد سعيد الحبوبي وهبة الله الشهرستاني وغيرهما، الذين نظروا إلى سطوع نجم الشيرازي باعتباره تزايداً لنفوذ عائلته وبمثابة تقهقر حظوظ عائلاتهم في الفوز بسباق المرجعية العليا للشيعة.

لم يكن الاستنتاج أعلاه صحيحاً تماماً لكنه لم يكن خاطئاً في الوقت نفسه، فقد انتقلت المرجعية العليا بعد وفاة الشيرازي إلى الشيخ حسين خليل الذي كان بمثابة مرحلة انتقالية عابرة في معناها والمغزى، إلا أنها دفعت إلى واجهة الساحة الشيعية عدداً من المنافسين الأقوياء من أمثال الملا كاظم الخراساني الذي تتلمذ على يد الميرزا الشيرازي وعبد الله المازندراني اللذين كان نفوذهما يوازي إن في الأهمية أو الحضور نفوذ كاظم اليزدي الذي تولى منصب المرجع الأعلى بعد وفاة الشيخ خليل.

ومن جديد برزت ساحة المواجهة في النجف على خلفية قيام الثورة الدستورية (المشروطة) في إيران عام 1905، حيث تحول الجدل بشأنها إلى صراع حاد أدى إلى انقسام عمودي في صف المجتهدين داخل الحوزة العلمية في النجف تبلور في اتجاهين متعارضين: أطلق على الاتجاه المؤيد للحركة الدستورية تسمية «المشروطة»، والاتجاه المعارض بـ«المستبدة». نرى هذا الصراع بوضوح في وصف هبة الدين الشهرستاني له بالقول: «إنه خلال عام 1907 أصبح النزاع (بين الفريقين) على أشدّه بين المجتهد الملا كاظم الخراساني الذي كان يتزعم المشروطة وبين المجتهد كاظم اليزدي الذي تزعم المستبدة»، واشتدت الخصومة بينهما حتى «بلغت منتهى الوحشية من حيث إيذاء العوام لإخواننا وهيئتنا، وبتسمم فكرة العوام في أننا نريد الحرية التي هي ضد الدين».

لم يطل الوقت كثيراً حتى تبلور الصراع بين هذين التيارين إلى مدرستين، فشكل تيار «المشروطة» مطلع عام 1908 هيئة أطلق على تسميتها «هيئة العلماء» ضمت 33 عضواً يمثلون الغالبية العظمى من كبار المجتهدين بزعامة الملا الخراساني في مواجهة مفتوحة مع المرجعية العليا المتمثلة في اليزدي. إلا أن نظرة سريعة في لائحة أسماء هذه الهيئة تدلل على أن الصراع لم يكن بين مؤيد معارض لحركة (المشروطة) في إيران، بقدر ما كان يعبر بصورة غير مباشرة عن الصراع على مواقع النفوذ داخل جسم المرجعية العليا. وللتدليل على صحة الاستنتاج هذا، نرى أسماء العديد من العائلات الدينية التي ستؤدي لاحقاً أدواراً متباينة التأثير في الحوزة العلمية؛ من بينها على سبيل المثال، عائلات بحر العلوم والشبيبي والكاشاني والصافي والجزائري وكاشف الغطاء.

وقبل نشوء الدولة العراقية الحديثة، برز إلى الواجهة صراع من نوع آخر بين كبار الزعامات الشيعية على خلفية أحداث «ثورة العشرين» المسلحة التي اكتست هذه المرة صراعاً مناطقياً بين كل من مدن النجف وكربلاء والكاظمية. ففي النجف برز محمد سعيد الحبوبي، وفي كربلاء احتل كل من علي التبريزي والميرزا مهدي الخراساني واجهة الأحداث. أما الكاظمية فقد برز فيها مجتهدان آخران هما مهدي الحيدري ومهدي الخالصي.

وعلى الرغم من الأدوار التي لعبها هؤلاء جميعاً في رفد «الثورة» بالوقود البشري اللازم، إلا أن الحصاد كان من نصيب محمد تقي الشيرازي الذي كان قد نقل محل إقامته آنذاك إلى كربلاء، حيث يعتبره البعض بمثابة «القائد والموجه الروحي للثورة»، مستنداً بالطبع إلى إرث عائلي، سيؤهله حتى قبل اندلاع المواجهات المسلحة في مناطق الفرات الأوسط إلى الإمساك بناصية المرجعية العليا بعد وفاة سلفه اليزدي عام 1919. وفي غمرة هذه الأحداث، انتشلت يد القدر سريعاً الشيرازي لتنتقل المرجعية العليا إلى النجف مرة أخرى على يد الشيخ فتح الله الأصفهاني. كما عاد الاستقطاب الحاد داخل النخب الشيعية بين مؤيد للتفاوض مع سلطات الاحتلال البريطاني وبين رافض له. وكان الأصفهاني من مريدي التيار الأخير، فيما ضم التيار المؤيد للتفاوض كلاً من عبد الكريم الجزائري وجواد الجواهري وعبد الرضا راضي. وفي الحقيقة، عبّر هذا الاستقطاب عن صراع خفي على مواقع النفوذ بين العائلات المختلفة.

وبنشوء الدولة العراقية الحديثة، لم يكن موقف العلماء الشيعة موحداً إزاء ترشيح الأمير فيصل ملكاً للعراق، حيث برز اتجاهان متعارضان، مثّل الاتجاه الأول الذي أعلن عدم موافقته ورضاه على تنصيب الأمير فيصل ملكاً اثنان من كبار المجتهدين في النجف هما المرجع الأعلى أبو الحسن الأصفهاني ومحمد حسين النائيني. أما الاتجاه الآخر الذي أبدى تأييده لهذا الترشيح فقد مثله عالمان بارزان في الكاظمية هما مهدي الخالصي ومحمد الصدر. باختصار، اتسمت مواقف هذه القيادات بالتناقض والاختلاف إزاء فيصل منذ ترشيحه لعرش العراق. ففي حين كان فريق من العلماء لا يرى فيه سوى «مرشح الانجليز»، تبنى فريق آخر نهجاً براغماتياً بحيث رأى أن ثمة فروقاً جوهرية بين فيصل من جهة وسلطات الانتداب البريطاني من جهة أخرى.

وبينما دخل قسم من هذا الفريق في فترة اختبار بالتعاون مع فيصل وانفصل بعدها عنه، كما هي حال مهدي الخالصي، واصل قسم آخر من العلماء التعاون مع مؤسسات الدولة الحديثة، واستمر في التعاون حتى نهاية العهد الملكي في يوليو (تموز) 1958، كما هو حال هبة الدين الشهرستاني ومحمد الصدر. ولم يكن من المستغرب أن تبرز الكاظمية كمركز استقطاب شيعي جديد، على الرغم من الأهمية التي ظلت مدينة النجف تتمتع بها. لكن الأهم هو أن معظم القيادات الشيعية الأخرى ظلت أسيرة لإقصائها التاريخي من السلطة، ليس بسبب ضعف تمدنها وتنازعها المستمر على مواقع النفوذ فحسب، بل نتيجة لتراثها من الاستكانة السياسية أيضاً.

لكن إقصاء القيادات الشيعية عن المشاركة في السلطة لم يكن بالأحرى نتيجة سلوك السلطات إزاءها، بل إلى ركون هذه القيادات إلى نوع من التبرير الفقهي لهذه المشاركة، انطلاقاً من لا شرعية السلطات الحاكمة كلها بانتظار عودة الإمام الغائب. لكن الإقصاء لم يكن يوماً مطلقاً، وقد سمح تطور جهاز الدولة العراقية الحديثة باتجاه المزيد من المشاركة الشيعية في الإدارة الحكومية، فكان تعيين صالح جبر عام 1947 رئيساً للحكومة بمثابة خرق القاعدة التي كانت متبعة بحصر رئاسة الحكومة بالسنة.

ومع ذلك، كان صوت المرجعيات الشيعية يرتفع عندما كانت المرجعية العليا تشعر بالقدرة على إحراج الحكومة المركزية في شأن وطني كالمعاهدة مع سلطات الانتداب البريطاني وارتباط الانتخابات النيابية بها، إضافة إلى قضية التجنيد الإجباري التي كان عدد كبير من علماء الشيعة ضدها وضد التطوع في المؤسسة العسكرية، بل كان البعض منهم ميالاً إلى محاربة الجيش المركزي أكثر من أي رغبة في إدخال أبناء الطائفة إليه.

أكثر من ذلك، لم تخل دعوات بعض القيادات الشيعية على إحراج الحكومة المركزية من استخدام العنف أحياناً كثيرة. في هذا السياق يشار إلى حادثة الكاظمية في يوليو (تموز) 1927 حين اصطدمت المآتم الحسينية في عاشوراء بالقوات النظامية المسلحة على خلفية مسألة التجنيد الإجباري راح ضحيتها العديد من القتلى. كانت التيارات السياسية التي تمثل الصدارة بين الشيعة العراقيين اليوم بعيدة عن الأصولية الدينية في الأمس القريب، فقد استطاعت الأحزاب العلمانية من بعث وقوميين عرب وشيوعيين أن تنخر البنية الاجتماعية الشيعية إلى حد بعيد، بينما ظلت الزعامات الشيعية التقليدية تمارس دوراً متواضعاً عموماً في الحياة السياسية للبلاد. وعلى الرغم من لعب بعض هذه الزعامات دوراً بارزاً في قيادة التمرد على الانجليز، لاسيما محمد تقي الشيرازي، إلا أن دورها كان، في الإجمال، متواضعاً في الحركة السياسية، وكان نفوذها محصوراً إلى حد كبير من النجف في اتجاه العشائر الشيعية في الفرات الأوسط وإلى الجنوب، بل كانت تتسم بالحذر في «النزول» إلى مستوى العمل السياسي، مفضلة أن يبقى صوتها مسموعاً في «القضايا الكبرى» فحسب. ولا يمكن الجزم أن تبوؤ محسن الحكيم دفة المرجعية العليا مطلع الستينات حمل زخماً كبيراً للفكر الديني الشيعي. طبعاً ينتمي الحكيم إلى عائلة من العلماء الشيعة برزت في النجف، وهو تلقى دروساً دينية في حوزة أبرز علماء الشيعة مثل ضياء الدين العراقي والحبوبي والنائيني صاحب الكتاب المثير «تنبيه الأمة وتنزيه الملة». والحكيم فوق هذا وذاك كتب ثمانية كتب جميعها في مواضيع إسلامية. لكن طموح الرجل، وما هو أهم من ذلك، طبيعة النظام الذي كان قائماً في بغداد بعد انقلاب 1958 جعل الجانب الديني من شخصيته مدخلاً لدوره السياسي، لا العكس. وكانت أصوله الدينية قد ساهمت كثيراً بلعب هذا الدور. ذات مرة، سئل الحكيم عن رأيه في السياسة وتدخّل العلماء فيها فأجاب: «إذا كان معنى السياسة هو إصلاح أمور الناس بحسب الأصول العقلائية الصحيحة والعمل على تحقيق رفاهيتهم كما هو المعنى الصحيح للسياسة فإن الإسلام كله هو هذا وليس هو غير السياسة وليس للعلماء وظيفة غير هذه، وأما إذا كان المقصود من السياسة معنى آخر، فإن هذا شي‏ء غريب عن الإسلام». هكذا بدأ الشباب المتحمس من العلماء أمثال محمد باقر الصدر وأبناء محسن الحكيم بتبني مشاريع سياسية أكثر فأكثر معتمدين، بالدرجة الأساس، على هيبة آبائهم ومكانة عائلاتهم العلمية، من دون أن يتورط جيل الآباء فعلاً فيها. غير أن شخصية محسن الحكيم غير العادية ما كانت لتذهب من دون أن يتوزع الإرث على أكثر من تيار. ولئن استطاع حزب الدعوة الإسلامية الاستفادة من دعم المرجعية العليا في توسيع قاعدته الشعبية، فقد انبثقت منظمات أخرى نافسته على التفرد بالساحة الشيعية العراقية من بينها منظمة الشباب المسلم والحركة الإسلامية في العراق. ولكن نادراً ما كانت تغيب المفاجآت عن السياق الشيعي العراقي. ففي فبراير 1977، شهد الجسم الشيعي تحركات عبرت عن نفسها في مظاهرات غاضبة ضد أجهزة السلطة البعثية التي ضربت طوقاً أمنياً وعسكرياً لمحاصرة حشود كانت تتجه من النجف إلى كربلاء، فاعتقلت الآلاف، وأعدمت الكثيرين. إلا أن منحى التشيع المسيس كان يتصاعد بين صفوف العلماء الشيعة على نحو ملحوظ، وبدأ نفوذ «جماعة علماء النجف» يتزايد من خلال كتابات محمد باقر الصدر ومحمد باقر الحكيم وغيرهما، وانتقلت هذه الكتابات تدريجاً إلى الدعوة الصريحة إلى إقامة نظام حكم إسلامي في العراق، في حين رفض المجتهد الأعلى أبو القاسم الخوئي التورط في المسألة كلها. كان لا بد أن يدفع انتصار الثورة الإيرانية في فبراير 1979، عجلة هذا التيار في العراق إلى الأمام. طبعاً لم تر السلطة البعثية في هذا التيار تحدياً شيعياً عراقي المنشأ فحسب، بل اعتبرته مجرد امتداد لـ«الأطماع الفارسية» التقليدية أيضاً، فسارعت إلى مواجهته بمزيد من الشدة والعنف، فاعتقلت الآلاف وأعدمت الكثيرين من بينهم آية الله محمد باقر الصدر، وهجرت الألوف بذريعة أنهم من ذوي الأصول الإيرانية.

في العاصمة الإيرانية، كانت حدة الخلافات تعصف بقادة التيارات السياسية الشيعية العراقية، في طهران، فتولى محمد باقر الحكيم مهمة تأسيس تنظيم سياسي جديد أطلق عليه اسم «جماعة العلماء المجاهدين في العراق»، لكنه سرعان ما اكتشف أن هذا الإطار كان ضيقاً على رجل في مثل طموحه فأقام على أنقاضه تنظيم «المجلس الأعلى للثورة الإسلامـية في العراق» في أواخر عام 1982. وفي هذه الأثناء، دأب محمد باقر الحكيم جاهداً على نفي أي انطباع قد يستشف منه أن تنظيمه هذا يدور في فلك سياسات طهران، وأراد له أن يكون تنظيماً سياسياً عراقياً بحتاً، وليس «ذيلاً» لتوجهات الساسة الإيرانيين، لكن التغير الذي طرأ فجأة على ميزان القوى العسكري في الحرب ودخول القوات الإيرانية بعض المناطق في الجنوب العراقي، عزز الاعتقاد لدى قطاع واسع من الشيعة العراقيين في أن النزعة التوسعية الإيرانية التقليدية تجاه العراق ما زالت حية، وأن «المجلس الأعلى» ليس سوى إحدى أدوات هذه النزعة. ويبدو أن تركيبة «المجلس الأعلى للثورة الإسلامية» ساعدت بدورها، وإن بصورة غير مباشرة، في تعزيز هذا الانطباع. فغالبية أعضاء المجلس هم من العراقيين الذين فروا أو هُجِّروا إلى إيران قبل حرب الخليج الأولى وخلالها، ومن بينهم جناح المجلس العسكري «فيلق بدر» الذي كان له دور مهم في الانتفاضة الشعبية التي اندلعت في العراق في مارس (آذار) 1991، وساهم في تصفية العديد من القيادات المحلية البعثية في المدن والقرى التي سيطر المنتفضون عليها.

في هذه الأثناء، أطلّ محمد صادق الصدر القطب المنافس لآل الحكيم في مدينة النجف تحديداً ليقرع بعنف على أبواب المرجعية العليا معلناً وجوده ومطالباً الآخرين بالاعتراف به. ولئن كانت شيعية محمد باقر الحكيم أصولية نضالية طرحت على نفسها مهام ثورية انقلابية، فإن شيعية «الصدر الثاني» استمدت قوتها من محيط شعبوي قليل التسيّس وربما عديمة. هذا المحيط جاء، في كثرته الغالبة، من فئات اجتماعية دنيا، ومن تعليم أقل، كما فتح عينه على الشأن العام مع الخراب الذي خلفته حربان وحصار اقتصادي مدمر، فوجد في «الصدر الثاني» بعضاً مما تبلورت عليه إرادته الجريحة، خصوصاً عندما تبنى الصدر مفهوم «الحوزة الناطقة» الاسم الذي بات لا يذكر إلا على ألحان موسيقى الطوارئ، حيث يختلط الديني فيها بالدنيوي على نحو يلوّث الأول ويحاول إضفاء نوع من القداسة المطلقة على الثاني.

* كاتب وأكاديمي عراقي مقيم في فيينا