اكتشاف مدينة أثرية مدفونة في السعودية

«القرح» ازدهرت في القرن الثاني للهجرة وكانت ثاني أهم مدينة بعد مكة

TT

تنفس رائحة ما بين القرنين الثاني والخامس هجري.. هذا ما تشعر به وانت تتجول بين أرجاء حفريات اكتشفتها جامعة الملك سعود في منطقة تبعد نصف ساعة من جنوب مدينة العلا السعودية. وتظهر الحفريات موقعا أثريا لمدينة إسلامية قديمة، وهو عبارة عن جزء من سور ومدينة مدفونة تحت عمق نحو 6 أو 7 أمتار تحت الأرض عرفت باسم «مدينة قرح» قبل الإسلام و بـ«المابيات» كثاني مدينة إسلامية بعد مكة المكرمة وكان لها حضور صناعي منذ القرن الثاني الهجري، حسبما أفاد المشرف على تدريب طلاب الآثار في الموقع الدكتور مشلح المريخي الأستاذ بكلية الآثار والسياحة في جامعة الملك سعود.

وهذه الحفريات التي كشف عنها لأول مرة وتجولت فيها «الشرق الأوسط» هي عبارة عن جزء من سور المدينة التي تصل مساحتها الى نحو 800 × 800 متر. ويشير الدكتور مشلح الى ان السور «بني في مرحلة متأخرة من عمر المدينة لأنه جاء بشكل متعرج ولعل أهل المدينة قرروا بناءه خلال القرن السادس هجري أثناء فترة الحروب والاضطرابات السياسية لحماية منازلهم».

ويكشف الجزء الذي توصلت إليه الحفريات داخل السور، عن منزل ذي تصميم فاخر، حسب ما كان سائدا في تلك الفترة، اذ أرضه مرصوفة بالبلاط الملون وبه درج يوصل للطابق الثاني كما يضم بقايا دورة مياه ومطبخ إلى جانب أعمدة دائرية ضخمة. ويفترض الدكتور مشلح أنه «منزل للمحتسب بسبب وجود أدوات الوزن به أو لأحد أعيان المدينة أو أنه دائرة حكومية بسبب ما وجد فيه من نقوش زخرفية فاخرة وقطع أثرية تظهر رفاهة قاطني الموقع».

وتقع خارج السور منشأة عمرانية يعتقد أنها كانت منزلا للوالي، كما توجد خارج المدينة أفران لصناعة الخزف والبلاط والفخار، وهي امور اشتهرت بها المدينة.

ويقول مشلح: «المابيات كانت محطة رئيسة على طريق الحج، وتميزت بهوية فريدة، كونها مزجت بين عدة ثقافات متنوعة أهمها المصرية والعراقية والشامية مما أعطاها طابعا ثقافيا خاصا». ويضيف ان «نشأتها تعود إلى الفترة الجاهلية كما أشارت إلى ذلك المصادر المقروءة إلا أن فترة ازدهارها ونشاطها كحاضرة تعود إلى ما بين القرن الثاني الهجري والخامس الهجري، واضمحلت خلال القرن السابع الهجري في أواخر عهد الدولة العباسية تقريباً بعد توقف طريق الحج الشامي بسبب الحروب الصليبية حيث ضعفت المدينة اقتصاديا خلال تلك الفترة».

وتعلو المدينة الإسلامية المدفونة تحت الأرض تلال أثرية يملأها الكثير من القطع الفخارية والزجاجية والخزفية وصناعات معدنية في مختلف أنحاء الموقع ولهذا يعتبرها الدكتور مشلح «متحفا مفتوحا باهرا بسبب وجود كميات هائلة (من القطع التاريخية)، فقد كانت مدينة صناعية من الطراز الأول بها الكثير من الأفران الصناعية حتى أنني أشبهها بمدينة الجبيل أو الخبر الصناعية الآن». ويتابع قائلاً: «كانت مشهورة بصناعة البلاط المحلي والطوب والأعمدة والفخار والزجاج الملون وما كانت تحلى به من نقوش وألوان وغير ذلك». وقال ايضاً «ان ما عثرنا عليه من قطع أثرية أظهر لنا مدى ما وصل اليه سكانها من تقنية فائقة وفنية جمالية رائعة في تصميماتهم وألوانهم فيما تميزت بها مصنوعاتهم الزجاجية والعمرانية».

وبدا الموقع الذي امتلأ بعدد من العمال والطلبة مع أساتذتهم، أكثر حيوية، من خلال امتزاج روح البحث العملي والإنساني الذي ظهر على ملابس مرتادي الموقع. وعلق رضا، أحد الطلاب كان مرتديا زيا باكستانيا بحماسة قائلاً: «نريد أن نثبت أن لدينا، كمسلمين، تاريخا لا يقل عن التاريخ اليوناني أو الروماني أو الفرعوني».

إلا أن هذا التاريخ الذي تعمل الجامعة لإبرازه يحتاج إلى نحو 25 سنة أو أكثر للكشف عن المدينة المدفونة بأكملها، كحال مدينة الفاو التي تم الكشف عنها في منطقة الربع الخالي من خلال مجهودات الجامعة وحدها والتي دامت 30 سنة.

ويقول الدكتور مشلح: «هذا هو الموسم الثالث لنا في الحفريات التي نقوم بها مع طلابنا بهذا الموقع، حيث تخصص الجامعة مدة شهرين من كل عام دراسي للتدريب العملي، وهي الفترة المتاحة للعمل في الموقع طوال السنة، وما تم الكشف عنه في المابيات حتى الآن، وهو جزء صغير، كان خلال ثلاث مواسم دراسية». ويتابع قائلاً: «نحن لا نلتزم فقط بالعمل التدريبي للطلاب، بل وجدنا لزاما علينا أن نرمم ما يتم الكشف عنه من مواقع أثرية، ومن ثم تأهيلها ليراها الزوار من خلال وضع ممرات آمنة ولوحات إرشادية داخل الموقع، وهذا العبء حملته جامعة الملك سعود لوحدها حماية وحفظ هذه المواقع الأثرية المهمة لنا جميعا كتاريخ إنساني».