فرنسا: الطامحون لخلافة شيراك يتناحرون جهارا

نهاية ولاية صعبة تنتظر الرئيس في قصر الإليزيه

TT

لم يبق للرئيس الفرنسي جاك شيراك الذي دخل قصر الإليزيه الرئاسي في 7 مايو( أيار) عام 1995 سوى 361 يوما بعد أن أمضى فيه حتى الآن 4019 يوما، بينها الأعوام السبعة لولايته الأولى والأعوام الأربعة من ولايته الثانية الممتدة الى خمسة أعوام بعد أن قصرت الولاية الى 5 أعوام.

ومرت المناسبتان (مناسبتا انتخابه الأول ثم الثاني) من غير شموع أو احتفالات أو تجمعات. فالوضع السياسي في فرنسا «غير مريح» والسؤال الذي يشغل الوسط الحكومي والحزبي والسياسي والإعلامي اليوم هو التالي: ما هي الطريقة التي سيعتمدها شيراك لإتمام ولايته الثانية بأقل قدر ممكن من الخسائر فيما البلاد تعاني من أزمة سياسية وأخلاقية تتمثل في فضيحة «كليرستريم» التي تهدد رئيس الحكومة دومينيك دو فيلبان وليس من المستبعد أن تطال شظاياها الرئيس نفسه؟

والواقع أن شيراك الذي أعيد انتخابه عام 2002 بنسبة تزيد على 80 في المائة من الأصوات، عانى في الأشهر الـ12 الأخيرة من سلسلة متواصلة من «الكوارث» السياسية والاجتماعية فيما التنافس بين الطامحين لخلافته يتفاقم بعد أن تبين أن حظوظ الرئيس في الترشح لولاية ثالثة شبه معدومة. وجاءت الكارثة الأولى مع رفض الفرنسيين التصديق على الدستور الأوروبي في الاستفتاء الذي أجري يوم 29 مايو (ايار) من العام الماضي. فقد استجلب الرفض الفرنسي رفض دول أوروبية أخرى ما أدى الى وأد الدستور وخصوصا الى تهشيم صورة فرنسا الأوروبية التي تخلت عن دورها «التقليدي» كـ«محرك» للبناء الأوروبي بالمشاركة مع ألمانيا والتي أدت خصوصا الى إضعاف موقف شيراك على الساحة الداخلية وكذلك على الساحتين الأوروبية والدولية.

إزاء هذا الوضع، أخرج شيراك من قبعته «ورقة» دومينيك دو فيلبان، وزير الخارجية ثم وزير الداخلية السابق الذي كلفه بتشكيل الحكومة الجديدة. وكان شيراك يأمل في أن ينجح دو فيلبان الدبلوماسي الشاعر والسياسي «غير التقليدي» بتوفير «نفس» جديد لرئيس الجمهورية لما معروف عنه «توقده» وعزيمته وهو المعجب بـ«ملحمة بونابرت»، الإمبراطور الفرنسي الذي بسط في أوائل القرن التاسع عشر «النسر الإمبراطوري» على ثلاثة أرباع القارة القديمة وتربع على عرش امبراطور النمسا ثم على عرش القيصر الروسي في قلب موسكو. وسارع دو فيلبان الى الإعلان أنه يتعهد بـ«اعادة الثقة» الى الفرنسيين خلال 100 يوم وأن هدفه الأول هو محاربة البطالة التي تطال 10 بالمائة من الفرنسيين. وكان شيراك يتقصد من إيصال دو فيلبان الى رئاسة الحكومة «تأهيله» لقطع الطريق على وزير الداخلية ورئيس حزب التجمع من أجل حركة شعبية اليميني الحاكم نيكولا سركوزي الطامح بخلافة شيراك.

ونجحت «ضربة» المعلم شيراك في تغيير المعادلة السياسية. فرئيس الحكومة الجديد نجح في الأشهر الأولى في التأسيس لممارسة سياسية وحكومية جديدة. اذ ان دو فيلبان لم تكن تعوزه «المشاريع» الطموحة في كل المجالات. ورأى الكثيرون أن فترة العامين الفاصلة عن الانتخابات الرئاسية والتشريعية قد تكفيه لقلب الأمور وتحقيق نتائج إيجابية في حقل محاربة البطالة والقيام بسياسة متشددة على الصعيد الأمني الداخلي وهو الشغل الشاغل للفرنسيين بعد البطالة.

لكن لم تكد سياسة دو فيلبان تبدأ بإعطاء أولى النتائج الإيجابية حتى جاءت «انتفاضة الضواحي» في بداية الخريف الماضي لتطيح بالكثير من الرصيد الحكومي لدى المواطنين الذين كانوا يشاهدون بكثير من القلق السيارات التي تحترق في الشوارع ومعها عدد من الأبنية الإدارية والحكومية.

لم تنفع وعود دو فيلبان بمعالجة الجذور الاجتماعية للأزمة بموازاة تأكيده على ضرورة عودة الأمن والنظام العام شرطا لفتح باب التفاوض في تقصير أمد الأزمة، كذلك بقيت مداخلات الرئيس الفرنسي المتأخرة دون المطلوب. ولذا فإن الأزمة المتفاقمة دامت لأسابيع عديدة كانت كافية لضرب صورة فرنسا في الخارج ولإبراز فشل السياسات الاجتماعية وتبديد وعود شيراك بمعالجة «الشرخ الاجتماعي». ولتكتمل دورة الكوارث، جاءت أزمة قانون العمل الجديد الذي تسرع به رئيس الحكومة لينزل مئات الآلاف من الطلاب والتلامذة والنقابيين الى الشوارع. واضطر شيراك، تحت ضغط الشارع، الى سحب دعمه لرئيس الحكومة والى سحب المشروع من التداول. دو فيلبان خرج منهكا سياسيا لكن شيراك احتفظ به رئيسا للحكومة لأن البدائل غير متوافرة. وقد راهن على «إعادة تعويمه» آملا في أن يستعيد نوعا من سلطته ويكمل في رئاسة الحكومة طيلة العام الأخير من ولايته الرئاسية.

لم تصدق حسابات شيراك الذي يجد نفسه اليوم في وضع صعب بسبب فضيحة «ووتر غيت» الفرنسية التي انطلقت من اتهامات لسياسيين فرنسيين أبرزهم سركوزي ولصناعيين و ضباط أمنيين بحيازة حسابات سرية في شركة كليرستريم متأتية من عملات على صفقات اسلحة وخلافها. ومشكلة شيراك أن ثمة من يظن بضلوع دو فيلبان في هذه الفضيحة، استنادا الى اعترافات أحد كبار ضباط المخابرات الفرنسية الجنرال فيليب روندو كما نشرتها صحيفة «لو موند». ويوحي محضر استجواب روندو أن التعليمات التي نقلها دو فيلبان وكان وقتها وزيرا للخارجية الى روندو كان مصدرها الرئيس الفرنسي شخصيا. ولذا فإن دو فيلبان حرص أكثر من مرة على «حماية» الرئيس والتأكيد أنه لم يكن على علاقة بهذا الأمر أبدا.

والآن، تضج باريس بأخبار استبدال دو فيلبان وتكليف سركوزي برئاسة الحكومة. وفيما تؤكد بعض المصادر أن دو فيلبان سيترك رئاسة الحكومة، تقول أوساط الإليزيه عكس ذلك وتؤكد أنه «يحوز ثقة الرئيس التامة» وأن لا نية أبدا لاستبداله.

وفي أي حال يبدو الرئيس الفرنسي في وضع صعب للغاية: فإن استغنى عن دو فيلبان فسيجد نفسه «رهينة» سركوزي سياسيا الذي لن «يتردد في دفنه حيا». أما إذا احتفظ به، فالأزمة السياسية مستمرة وشعبية شيراك تتهاوى وكذلك شعبية رئيس الحكومة فيما نواب اليمين أخذوا بدعوته الى التحرك والى تحاشي ترك الأمور تتفاقم.

وهكذا، تسير الأمور في فرنسا: اليسار وجد الفرصة للم شمله على حساب الحكومة وعلى حساب الرئيس. أما اليمين فهو غارق في الانقسام بين مؤيدين لسركوزي واوفياء لشيراك ودو فيلبان. وبين هؤلاء وأولئك، تقترب ولاية شيراك الثانية من نهايتها ويقترب السؤال الذي بدىء بطرحه: ما الذي سيبقى من ولايتين رئاسيتين استمرتا 12 عاما؟ ومن أي باب سيدخل الرئيس الحالي التاريخ، الباب الواسع أم الباب الضيق وما الذي سيحسب له وعليه؟

الأسئلة مطروحة لكن الإجابات عصية حتى الآن.