جيرترود بيل راسمة حدود العراق الحديث ترقد منسية في مقبرة ببغداد

كنيسة تدفع لحارس 3 دولارات شهريا للاعتناء بقبر المغامرة والكاتبة وعالمة اللغويات البريطانية

TT

بغداد ـ رويترز: تفتح ابواب المقبرة ويقود حارسها الزائر عبر صفوف من شواهد القبور المكسورة. ويشير علي منصور الى شاهد قبر مصنوع من الحجر الرملي قائلا: ها هي ذي...اعتني بها لكن لا احد يزورها».

وكان علي يتحدث عن جيرترود بيل، وهي مغامرة وكاتبة وعالمة لغويات بريطانية، واحدى اكثر النساء نفوذا خلال فترة العشرينات، حيث كانت مستشارة صانعي الامبراطوريات ومقربة من الملوك. وينسب الى بيل، التي كانت مستشارة شرقية للحكومات البريطانية، ترسيم حدود دولة العراق الحديثة من بين انقاض الامبراطورية العثمانية في نهاية الحرب العالمية الاولى.

والان وفي ظل اقتراب الدولة التي شكلتها من حافة الانهيار، بسبب العنف الطائفي، ترقد المرأة التي لقبت بملكة العراق، منسية في احدى مقابر بغداد. وبعد نحو 80 عاما من وفاة بيل واكثر من ثلاثة اعوام على احتلال قوات قادتها الولايات المتحدة للعراق للاطاحة بنظام صدام حسين يخشى الكثيرون من انهيار وحدة العراق، بسبب اعمال القتل والميليشيات والخوف الذي يدفع عائلات الى النزوح عن ديارها. ويعتقد البعض ان هذا البلد قد ينقسم الى ثلاث مناطق على اسس طائفية وعرقية.

وتعهد رئيس الوزراء المكلف نوري المالكي بتشكيل حكومة ائتلافية توحد الشيعة والعرب السنة والاكراد المتناحرين، وتتفادى انزلاق العراق الى هاوية صراع طائفي وعرقي شامل. لكن كما يظهر التاريخ، فان العراق، البلد الذي شهد قيام حضارة ما بين النهرين، هو دولة مقسمة منذ تشكلت.

ووضعت بيل والمستعمرون حدود العراق بدمج اقاليم الموصل وبغداد والبصرة، التي كانت تحت السيطرة العثمانية في مسعى لتأمين المصالح البريطانية، من دون وضع اعتبار يذكر للحدود القبلية والعرقية. وكتبت بيل التي كانت متخصصة في اللغتين العربية والفارسية لوالدها عام 1921 قائلة: «امضيت نهارا جيدا في المكتب، وانا اضع حدود الصحراء الغربية من العراق». وتمخض ذلك عن دولة مركزية تعيش فيها ثلاثة تجمعات لها اهداف ومبادئ ومعتقدات مختلفة، هم الاكراد في منطقة الشمال الجبلية والشيعة في الجنوب والعرب السنة في بغداد وباقي وسط البلاد.

وفي عام 1958 تمكنت مجموعة من الضباط الوطنيين من الاطاحة بالنظام الملكي، الذي ساعدت بيل على ارسائه، من خلال استفتاء مزيف في عام 1921، حظي فيه النظام بالموافقة بنسبة 96 في المائة. كما ساعدت بيل ايضا على صياغة الكثير من السياسات التي تبناها في وقت لاحق حزب البعث بقيادة صدام حسين، والتي ساهمت في تفاقم التوترات القائمة منذ قرون بين الشيعة والسنة.

وعملت بيل على ضمان ان تهيمن صفوة من السنة، التي كان يفضلها النظام العثماني السني على الحكومة والجيش، وأن يستمر قمع الاغلبية الشيعية، التي كانت تعتبرها متطرفة دينيا. وحرم الاكراد من الحكم الذاتي حتى تتمكن لندن من السيطرة على حقول النفط في كردستان، وبناء رادع ضد الروس. وكتبت بيل في رسالة اخرى: «لا اشك للحظة في أن السلطة العليا يجب ان تكون في ايدي السنة، رغم قلة عددهم، والا فسيكون لديك دولة دينية وهذا هو الشر بعينه». وبعد ذلك بأعوام فرض صدام حسين منهجه القومي العربي السني بالقوة، واعدم عشرات الالاف من الشيعة، وأسس نظاما قائما على الانتماءات القبلية والاسرية. وفاقمت سياسته تجاه الشيعة والاكراد من انقسام العراق الى ثلاثة تجمعات. لكن المجتمع الشيعي اكتسب نفوذا سياسيا بعد ان اطاح الأميركيون بصدام.

واثناء الانتخابات البرلمانية، التي اجريت في ديسمبر (كانون الاول)، ادلى العراقيون باصواتهم على اسس دينية وعرقية، متجاهلين الحكومة المركزية التي فرضتها بيل والسلطات البريطانية ثم صدام بعد ذلك. وعندما سأل صحافي الرئيس العراقي جلال طالباني في الآونة الاخيرة عن السبب وراء اختلاف السياسيين العراقيين بهذا الشكل بشأن تشكيل حكومة، اجاب طالباني، «هذا هو العراق الذي شكله اصدقاؤنا البريطانيون».

وكانت بيل التي تتحدر من عائلة ارستقراطية، تعيش في بغداد التي كانت اكثر رقيا، مقارنة بالعاصمة العراقية الان، التي تعد ابرز مظاهرها اكياس الرمال والمركبات المدرعة وانقاض مبان حكومية من عهد صدام. وكانت بيل ترتدي فساتين قطنية طويلة وقبعات مزينة بالريش، وهي تمتطي الخيول بمحاذاة ضفاف نهر دجلة. وفي رسائلها كانت بيل تصف بغداد بأن من اهم مظاهرها حفلات الشاي وسباقات الزوارق والسباحة ومآدب الغداء على شرفات المباني البريطانية. لكن مع انتشار الثورة ولجوء بريطانيا الى القنابل والغازات السامةد لقمع المعارضين لوجودهاد اختفت بيل من الحياة العامة. وقالت في احدى المرات: «قللنا من شأن حقيقة ان هذا البلد مؤلف من حشود قبلية لا يمكن احتواؤها في ظل اي نظام».

وقبل خمسة اعوام من وفاتها عن عمر يناهز 57 عاما بسبب جرعة زائدة من الحبوب المنومة عام 1926، كتبت بيل قائلة: «يمكنكم ان تعتمدوا على شيء واحد.. لن اشارك ابدا في صنع ملوك مرة أخرى. انه ضغط اكبر من اللازم». وعندما دفنت خرج الالاف الى الشوارع ليلقوا نظرة على نعشها خلال رحلته الاخيرة الى المقبرة البريطانية في حي الباب الشرقي ببغداد.

ويقول الحارس منصور، الذي يعيش مع زوجته في كوخ داخل المقبرة، ان كنيسة محلية تدفع له نحو ثلاثة دولارات في الشهر لازالة الاعشاب الضارة عن قبر بيل. وجرى تنظيف القبر واعادة ترميمه من قبل احد فاعلي الخير العام الماضي، وقبل الحرب كان الصحافيون الاجانب يمرون لزيارته. لكن الان يقول منصور ان الكل خائف من تعرضه للقتل أو الخطف اذا حاول الدخول الى تلك المنطقة.