السعودية: حفريات أثرية تكشف هيكل معبد لحياني العائد إلى 2700 سنة خلت

مقابر الأسود المنحوتة وأسطورة «محلب ناقة صالح» قادت إليه

TT

«محلب ناقة النبي صالح» الحوض الصخري العملاق الذي بقي وحيدا بين تلال أثرية، شمال المملكة العربية السعودية، مقابل مجموعة مقابر الأسود العالية المنحوتة في جبل الخريبة، خارج المدينة المنورة .. لم يكن مجرد أسطورة شاعت على مدى قرون تحكي قصة حلب الناقة المعجزة لقوم ثمود، وإنما كانت دليلا أثريا كشف لعلماء الآثار عن هيكل معبد لحياني الذي يعود إلى القرن السابع قبل الميلاد، ليكون الحوض أو «الحلوية» كما أطلق عليه أهالي العلا «مغطسا نحته اللحيانيون من صخر جبلي ضخم ألحقوه بمعبدهم كي يتطهروا فيه قبل دخولهم»، استناداً الى الدكتور سامر السحلة أستاذ علم الآثار والحضارات القديمة في كلية السياحة والآثار بجامعة الملك سعود الذي أشرف على الموقع.

وقد بدت واضحة في هيكل المعبد جدرانه العريضة وبعض الجوانب المرصوفة ببلاطات صخرية منحوتة وبعض المداخل والأعمدة. ويعلق الدكتور سحلة على الفخامة البادية على هذا الأثر، ويقول: «لقد اهتم اللحيانيون بهيبة البناء الحجري على ما يبدو بحكم أنه معبد له عظمته لديهم، وحتى التماثيل التي وجدت في الموقع كانت أكبر من الأحجام الطبيعية، إلا أننا وجدنا أيضا تماثيل مكسرة». والتماثيل والقطع الأثرية التي افتقدها الموقع بسبب نقلها الى الجامعة من أجل الدراسة، ستعرض بعد الانتهاء من دراستها في المتحف الوطني بالرياض، كما أشار إلى ذلك أخصائي الترميم حاتم العيدي، وعلى حد قوله «إنه متحف أنشئ بمعايير عالمية».

وتجولت «الشرق الأوسط» برفقة الدكتور سحلة، في الموقع الذي تبلغ مساحته ما يقارب 2.30 كلم مربع. وشرح استاذ علم الآثار قائلاً: «نتوقع الكشف عن مدينة كاملة قائمة بشوارعها ومساكنها. والمركز الديني أو المعبد الذي ظهر خلال التنقيب يقع وسطها في ساحة المدينة». والمنطقة التي تبعد عن العلا 14 كلم وسماها أهلها «الخريبة» نسبة إلى الخرابة، ما هي إلا مملكة دادان التي أشارت النقوش والكتابات التي عثر عليها في الموقع إلى استيطانها فيه خلال 800 قبل الميلاد، واستمرت حتى 400 قبل الميلاد».

ويضيف السحلة: «بعد دادان أصبحت مملكة لحيان مسيطرة على المنطقة وشاركهم العيش فيها المعينيون كجالية تجارية مهاجرة من الجنوب.. والحكم السياسي كان للحيان بينما الحكم الاقتصادي كان لمعين الذين استطاعوا تكوين قوة اقتصادية في المنطقة».

والموقع الذي عملت فيه جامعة الملك سعود منذ ثلاث سنوات كأول فعل تنقيبي؛ كان قد تمت الإشارة إليه سابقا من خلال المصادر المقروءة للرحالة الأوروبيين والقدماء الذين زاروا الموقع. وقال سحلة ان «المعبد اللحياني تبلغ مساحته تقريبا 15 مترا مربعا، وقد كان مدفونا بالكامل تحت الأرض باستثناء الحوض الصخري الذي كان بارزا للعيان».

والمغطس الصخري الضخم المليء بالنقوش القديمة وبداخله درج صغير منحوت كان يُظن في السابق أنه الصحن الذي كانت تُحلب فيه ناقة صالح العملاقة المعجزة حليبها للثموديين، إلا أنه لا يوجد أي علاقة زمنية أو مكانية بين هذا الحوض وبين الثموديين وناقة صالح كما أوضح الدكتور السحلة، والسبب كما يقول: «لأن المنطقة انتهت الحياة فيها عام 200 قبل الميلاد، وليس لها علاقة تاريخية مع منطقة مدائن صالح التي سكنها الأنباط 150 قبل الميلا، بينما الثموديين قبل هذا التاريخ بأضعاف مضاعفة».

واستطاع علماء الآثار السعوديون من خلال دراسة المعبد الذي ما يزال يحتاج للتنقيب الدقيق التعرف على ثلاث مراحل بناء تمت عليه.

وعن أسباب علمهم بحقيقة الهيكل أنه معبد، أوضح أخصائي الآثار فؤاد العامر أن الموقع عثر فيه على العديد من التماثيل المنحوتة المتفاوتة في الحجم حد الضخامة إلى جانب النقوش والكتابات الكثيرة التي أشارت إلى ذلك. وقال، إن «نتائج الحفريات التي توصلنا إليها في المعبد أشارت جميعها إلى ذي الغابة أو ذي الغيبة، وهو الآلهة الرئيسة لدى اللحيانيين والدادانيين الذي يرمز لآلهة الزرع والغابات وهذه المنطقة كانت محاطة بالغابات كونها منطقة زراعية، لهذا عبده اللحيانيون».

واضاف العامر: «لم نجد نقوشا لغيره من الآلهة التي كانت تعبدها تلك الشعوب ولا نستطيع الجزم باستمراريته لديهم، لأن الحفريات حتى الآن لم تنته، فهناك آلهة ثانوية عرفت لديهم مثل طحلن آلهة دادانية، وكذلك ود إله القمر الذي عبد في فترات ومناطق متعددة في الجزيرة، وكذلك ذو الشرى آلهة العالم السفلي المكلف حماية القبور لاعتقادهم أنه راع ما بعد الموت والذي كان يعبد لدى الأنباط وشمال الجزيرة».

ويعمل فريق عمل الترميم على تهيئة الموقع وإعادته الى طبيعته بعد عمليات التدمير الضخمة التي تعرض لها خلال الزمن سواء من عمليات التعرية الطبيعية كالزلازل أو غير المقصودة نتيجة جهل أهالي العلا القديمة الذين استخدموا حجارتها في بناء منازلهم وحتى عملية النبش بحثا عن الذهب، بينما يجد حاتم العيدي أن المقابر التي تعود للحيانيين ومقابر الأسود التابعة لمعين والمنحوتة في زوايا عالية من الجبل المحيط بالمنطقة السكنية «متحفا مفتوحا لا تحتاج إلى تأهيل وهي محتفظة بمعالمها» حيث يظهر نحت لأسود على واجهات المقابر التي خصصت لعلية القوم والأغنياء كما أشار سحلة بينما غابت قبور الفقراء عن الموقع ولم تكشفها الحفريات. وحول أهمية الاكتشاف الأثري، يقول الدكتور عبد الناصر الزهراني: «المركز الديني في الحضارات القديمة له سلطة اجتماعية واقتصادية وسياسية، وهذا يجعلنا نتعرف الى ملامحها الإنسانية». ويتابع: «نستطيع مثلا تفسير البعد الاجتماعي من خلال ما كانوا يقدمونه من نذور في المعبد باسمهم وباسم أخوتهم لنعرف مدى الترابط الأسري الذي كان لدى العرب القدماء». وهو ما أكده الدكتور خالد الأسكوبي من وكالة الآثار والسياحة، والذي قال: «سوف يكون لهذه المنطقة مستقبلها السياحي في المملكة بعد اكتمال الحفريات، خصوصاً أننا نتجه حاليا لاعتماد السياحة كمورد اقتصادي»، إلا أن هذا الموقع ينتظر ما يقارب 30 سنة كي تنتهي جامعة الملك سعود من عملية التنقيب التي تقوم بها لمدة شهرين فقط في كل عام دراسي لتدريب طلابها.