بعد 39 عاما من توحيدها «إسرائيليا».. القدس مدينة «مقسمة» فعليا

نسبة العرب في «الشرقية» تهبط إلى 55% وترتفع في «الغربية» إلى 34%

TT

في الوقت الذي تحتفل فيه اسرائيل حسب التقويم العبري بما يسمى «الذكرى التاسعة والثلاثين لتوحيد مدينة القدس كعاصمة أبدية لدولة اسرائيل»، وهي ذكرى احتلال القدس الشرقية خلال حرب الأيام الستة في الرابع من حزيران سنة 1967، يسود اجماع في الأوساط السياسية والاعلامية والأكاديمية في إسرائيل على أن القدس في الواقع ليست موحدة على الإطلاق بل هي مقسمة الى قسمين واضحين، يهودي وعربي، وتنكشف خيوط المخطط الحكومي الرسمي الذي يعترف بهذا التقسيم ويفتش عن وسيلة أخرى لمعالجة قضية المدينة المقدسة والصراع حولها.

وكانت حكومة اسرائيل قد بدأت في تنفيذ مخطط «توحيد القدس» في اليوم التالي لاحتلالها سنة 1967، إذ قامت بهدم حي المغاربة المحاذي لحائط البراق (حائط المبكى في نظر اليهود)، وأصدرت قانونا لضم القدس الى تخوم الحدود الاسرائيلية الرسمية لتصبح جزءا لا يتجزأ من اسرائيل، ومنحت سكان القدس الفلسطينيين الذين بقوا في المدينة بطاقات هوية للإقامة الدائمة، كما لو انهم موانون اسرائيليون. ثم بدأت تبني الأحياء السكنية اليهودية في القدس الشرقية المحتلة بوتائر عالية جدا، ومنها «جيلو»، «أرمون هنتسيف»، «جبعات زئيف»، «بسجات زئيف»، «هار حوما»، حيث يبلغ عدد سكان كل حي منها 10 و15 ألف نسمة، فبدت وكأنها قرية كبيرة، ونشرت اليهود أيضا في تجمعات داخل الأحياء العربية من القدس، مثل البلدة القديمة داخل الأسوار وحي النبي يعقوب وبيت حنينا وبيت صفافا والتلة الفرنسية والشيخ جراح وراس العامود وغيرها. وإذا كانت القدس الشرقية في العام 1967 خالية تماما من اليهود، فإنها تضم اليوم 190 ألف مستوطن يهودي (45% من مجموع السكان في القدس الشرقية)، مقابل 230 ألف عربي (55%). إلا ان هذه الهجمة الاستيطانية على القدس لم تسعف الحكومات الاسرائيلية المتعاقبة في تحقيق هدفها الاستيطاني كما خطط له. فصحيح أن الاستيطان اليهودي ممتد في كل أحياء المدينة وفرض عليها أمرا واقعا من الصعب التحرر منه، إلا انه في الوقت نفسه خلق حالات من التناقض التي تضطر حكومة اسرائيل اليوم الى اعادة النظر في سياستها تجاه القدس. فهي تعترف بأن مخطط توحيد المدينة قد فشل، ولذلك تبني جدارا عازلا يفصل معظم الأحياء العربية عن الأحياء اليهودية ويسعى لتخفيض عدد السكان العرب في المدينة لضمان ابقائها ذات أكثرية يهودية مضمونة. ففي المدينة بشقيها، الغربي الاسرائيلي والشرقي الفلسطيني المحتل، يوجد 719 ألف نسمة. في فترة «التوحيد» القسري، سنة 1967، كانت نسبة اليهود فيها 74% والفلسطينيون العرب 26%. وعلى الرغم من الاستيطان اليهودي المكثف فيها ووصول عشرات الألوف اليها في كل سنة وعلى الرغم من كثرة الولادة بين اليهود المتدينين (والذين أصبحت نسبتهم في المدينة تفوق نسبة العلمانيين اليهود بكثير)، إلا ان نسبة اليهود في القدس الكبرى انخفضت الى 66% حسب احصائيات السنة الماضية فيما ارتفعت نسبة الفلسطينيين العرب الى 34%.

والسبب في هذا الانخفاض يعود الى الهجرة اليهودية السلبية منها، حيث يغادرها الكثير من اليهود العلمانيين الذين لا يطيقون الحياة بجوار اليهود المتدينين، وفي السنوات الأخيرة غادرها أيضا الكثير من اليهود المتدينين. فهي إحدى أفقر المدن الاسرائيلية (38% من سكانها يعيشون تحت خط الفقر ورواتب العمال فيها تنخفض بنسبة 25% عن معدل الأجور عموما في اسرائيل)، وهي تعاني من التوتر الأمني أكثر من أية مدينة اسرائيلية أخرى، وفي الوقت نفسه الكثير من سكانها اليهود لا يصمدون أمام الاغراءات التي تضعها الحكومة للسكنى في المستوطنات اليهودية في الضفة الغربية. فالعائلة التي تعاني من أزمة اقتصادية تستطيع أن تبيع بيتها في القدس بمبلغ كبير من المال فتشتري بيتا كبيرا في المستوطنة ويظل لديها فارق كبير من المال تستخدمه في تسوية مشاكلها الاقتصادية.

وبناء على ذلك كله فإن الحكومة بحثت عن حلول تضمن وقف هذه المعادلة الديمغرافية وتزيد من نسبة اليهود وتخفض من نسبة العرب، فاختارت بناء الجدار العازل الذي يؤدي الى سلخ أحياء من القدس الشرقية المحتلة لتكون في المستقبل جزءا من الدولة الفلسطينية، مثل حي شعفاط وحي صور باهر والعيساوية والرام وضاحية البريد وغيرها، كما تنشط الشركات الاستيطانية في شراء بيوت وحوانيت فلسطينية داخل القدس القديمة والأحياء العربية الأخرى.

بيد ان هذا الحل يصطدم ببرامج فلسطينية تقاوم هذا النهج. وفي هذا الأسبوع اكتشفت السلطات الاسرائيلية أن العديد من سكان الأحياء المسلوخة عن القدس يشترون بيوتا في الأحياء اليهودية، حتى يظلوا من سكان المدينة المقدسة. وأحد هذه الأحياء يدعى «بسجات زئيف» (وتعني بالعبرية: قمة زئيف)، الذي تجند العديد من مستوطنيه اليهود للمطالبة بوقف بناء الجدار بينه وبين حي عناتا ومخيم اللاجئين شعفاط والبحث عن حل آخر لمواجهة المشكلة. وهم يقولون إن بناء الجدار بات يحقق نتائج عكسية لما هو مراد من بنائه، حيث العرب يأتون للسكنى في الحي، وهو أمر قانوني لا يستطيعون عمل شيء ضده، وبناء الجدار يؤدي الى تفاقم غضب الفلسطينيين وتعميق عدائهم لليهود مما يجعل هذا الحي اليهودي بلدة حدودية ستتعرض آجلا أو عاجلا الى عمليات مقاومة فلسطينية. وفي حالة كهذه يصبح الجدار سببا لتفاقم الأزمة الأمنية بدلا من أن يكون حاميا لأمن السكان اليهود.