نقد الأميركيين لسجن «غوانتانامو» متأخر وبطيء

أجهزة الإعلام الغربية عوقت مهمتها.. والصليب الأحمر تأخر ستة أشهر

TT

قال مسؤول في سجن «غوانتانامو» في القاعدة العسكرية الاميركية في كوبا، ان انتحار ثلاثة معتقلين هناك، في الاسبوع الماضي «لم يكن بسبب اليأس، ولكنه كان جزءا من الحرب ضدنا». وقال مسؤول في البنتاغون ان الثلاثة «قتلوا انفسهم حسب اتفاق مسبق على الانتحار».

ولم ينتقد اي مسؤول اميركي او سياسي اميركي كبير، حتى الآن، انتحار الثلاثة في سجن «غوانتانامو». حتى مجرد سوء معاملة المعتقلين في السجن، لم ينتقدها اي مسؤول اميركي او سياسي اميركي كبير. افتتاحيات بعض الصحف انتقدت سوء المعاملة. لكن النقد الرئيسي جاء من منظمات حقوق الانسان، ومن المحاكم الاميركية، وانضمت أخيرا، الامم المتحدة الى الناقدين.

ولخص، في الشهر الماضي، دونالد رامسفيلد، وزير الدفاع، رأي الاميركيين في غوانتانامو عندما قال ان «فيها أسوأ الأسوأ» في العالم.

لكن المحاكم الأميركية ظلت، في هدوء وبطء معهودين، تدافع عن حقوق المعتقلين في قضايا رفعها محاميهم بالنيابة عنهم (رغم ان المحامين لم يقابلوا المعتقلين الا أخيرا).

وبسبب استئنافات الحكومة المستمرة، وصل الموضوع الى المحكمة العليا التي حسمته، قبل سنتين، في قرار تاريخي وشجاع، اكد ان «المتهمين معتقلون في سجن في مكان تسيطر عليه الولايات المتحدة سيطرة قانونية». واضافت المحكمة انه، لهذا، يضمن لهم التعديل الخامس في الدستور الاميركي «حق المثول امام قاضي».

كانت البداية مذكرة قدمها، قبل اربع سنوات، روبرتو غونزاليز، مستشار الرئيس بوش القانوني (اصبح، في وقت لاحق، وزير العدل)، واوضح فيها النقاط الآتية:

اولا، لا يعتبر المعتقل «سجين حرب» لأن هذا ينطبق على الحرب النظامية (بين جيوش نظامية).

ثانيا، لا يتمتع «سجين الحرب»، على اي حال، بحماية الدستور الاميركي.

ثالثا، يعتبر المعتقل «عدوا مقاتلا»، وذلك لأنه لا يتبع جيشا نظاميا.

رابعا، اعلن بوش الحرب ضد الارهاب، واستهدف منظمة «القاعدة» ومنظمات ارهابية اخرى، ولهذا لن تنهي الحرب الا بالقضاء على كل ارهابي.

خامسا، يقدر «العدو المقاتل» على العودة الى ميدان القتال اذا اطلق سراحه، ولهذا يجب الا يطلق سراحه قبل نهاية الحرب ضد الارهاب.

لم تكشف الصحف الاميركية هذه المذكرة الا بعد اكثر من سنة من كتابتها. وكان القسم القانوني في البنتاغون طلب من القسم القانوني في البيت الابيض تقديم تفسيرات قانونية لوضع المعتقلين، ولطريقة معاملتهم. وقال غونزاليز، في نفس المذكرة، ان التعذيب «ممكن» للحصول على معلومات من المعتقلين ما داموا ليسوا «اسرى حرب».

وكانت منظمة «هيومان رايتز ووتش» (مراقبة حقوق الانسان) اول منظمة عالمية رئيسية انتقدت معاملة المعتقلين بغوانتانامو. واعلنت في تقريرها السنوي لسنة 2003، بعد سنتين من افتتاح السجن، ان «واشنطن تجاهلت تطبيق قانون حقوق الانسان على الطريقة التي تعامل بها المتهمين بالارهاب». وان «واشنطن رفضت تطبيق قانون جنيف على سجناء الحرب من افغانستان».

ونشرت صحف اميركية رئيسية هذا الخبر بدون ان تعلق عليه، وظلت تفعل ذلك حتى وقت قريب. وركزت هذه الصحف، مثلما فعلت مع اخبار غزو العراق، على تصريحات المسؤولين الاميركيين، ولم تنشر تحقيقات جادة وعميقة للتأكد من صحة هذه التصريحات. (وكانت التلفزيونات والاذاعات اقل اهتماما بالمعتقلين من الصحف، ولا تزال. وكان السياسيون اقل اهتماما منهم كلهم، ولا يزالون).

واعتذرت جريدة «نيويورك تايمز»، بعد سنتين من غزو العراق، على تركيزها على المعلومات الحكومية عن الغزو، وعلى عدم مطالبة الصحافيين فيها بالتأكد من صحة هذه المعلومات. (لم تعتذر جريدة «واشنطن بوست» حتى الآن). لكن، فيما يخص موضوع غوانتانامو، لم تفسر اي صحيفة، حتى الآن، تقصيرها في التأكيد من صحة المعلومات (ناهيك من ان تعتذر). وركز الاعلام الاميركي، في يوليو (تموز) سنة 2003، بعد اكثر من سنة من افتتاح السجن، على سلسلة تصريحات ادلى به الجنرال ميلار، مدير السجن، وابرزتها في صدر صفحاتها الاولى. ومما قال الجنرال ان «ثلاثة ارباع المعتقلين اعترفوا باشتراكهم في عمليات ارهابية بصورة او اخرى». وقصرت الصحف من ناحيتين، على الاقل: اولا، لم تضغط على المسؤولين للتأكد من ان هذه المعلومات صحيحة. وثانيا، لم تسأل عن سبب استمرار اعتقال «الربع الرابع». وركز الاعلام الاميركي، في الشهر التالي، اغسطس (آب)، على «خبطة» في الصفحة الاولى في جريدة «واشنطن بوست» حصلت عليها دانا بريست (نفس الصحافية التي حصلت في السنة الماضية على «خبطة» ارسال المتهمين بالارهاب الى سجون في شرق اوروبا، ونالت عليها جائزة «بولتزر»). كان العنوان: «البنتاغون يوافق على تحقيقات اكثر تشددا» مع المعتقلين في غوانتانامو. وكشفت الخبر ان ثلاثين معتقلا حاولوا الانتحار، وان العسكريين اوقفوا استعمال كلمة «انتحار»، واستبدلوها بعبارة «تصرف أذى شخصي متعمد». لكن حتى ذلك لم يسبب في افتتاحيات او تصريحات معارضة.

استمر الحال هكذا حتى بداية سنة 2004، عندما صدر تقرير «هيومان رايتس ووتش»، الذي اشرنا اليه سابقا. وكان السبب الرئيسي لتجاهل ما يجري في السجن، هو التكتيم الاعلامي العسكري المشدد. ورغم ان العسكريين سمحوا لبعض الصحافيين بزيارة السجن، لم يسمحوا لهم بالحديث مع اي معتقل، او أي حارس سجن، او دخول أي زنزانة.

وبدأت معلومات جديدة تتسرب عن طريقين:

اولا، كشفها مدنيون كانوا يعملون في السجن، مثل د. دأرييل ماثيو، استاذ علم النفس في جامعة هاواي، وعمل لفترة مستشارا نفسيا في السجن. قال لمجلة «فانيتي فير» في يناير (كانون الثاني) سنة 2004، ان الاحباط تفشى وسط المعتقلين، وان 20 في المائة منهم يتناولون «بروزاك»، وغيره من الادوية النفسية.

ثانيا، كشف مترجمون كانوا يعملون في السجن. مثل ايريك سعر، الذي ترك العمل في السجن في صيف سنة 2003، وبدأ يتحدث للصحافيين في بداية سنة 2004، واصدر كتابا عن الموضوع («داخل الاسلاك الشائكة: مذكرات استخباراتي عسكري داخل سجن غوانتانامو») في بداية سنة 2005.

الصليب الاحمر:

تأخرت جمعية الصليب الاحمر ستة شهور عن منظمة «مراقبة حقوق الانسان» في نقد الوضع في السجن. وقالت، في يونيو (حزيران) سنة 2004 ان العسكريين استعملوا «طرقا مذلة، وحبسا انفراديا، وزيادة وتخفيض درجة الحرارة» للحصول على معلومات من المعتقلين.

ثم انضمت الى الناقدين منظمة العفو الدولية. وهزت المنظمة العالم، بعد سنة اخرى، في مايو (أيار) سنة 2005، عندما اصدرت بيانا فيه العبارة الشهيرة: «هذا ارخبيل عصرنا»، اشارة الى «ارخبيل الغولاغ» عن تعذيب الحزب الشيوعي الروسي لمعارضيه خلال سنوات حكم الرئيس الروسي ستالين.

كشف برنامج «ستون دقيقة» في تلفزيون «سي بي اس» في ابريل (نيسان) سنة 2004، فضيحة سجن ابو غريب في العراق. وتطوعت الجنرالة كاربنسكي، مديرة السجن التي حقق رؤساؤها معها (وحملوها جزءا كبيرا من المسؤولية، وامروها بالتقاعد)، وقالت ان تعذيب ابو غريب لم يكن الا امتداد لتعذيب غوانتانامو. وانفردت جريدة «نيويورك تايمز»، بعد ذلك بثلاثة شهور، بخبر عن تورط الجنرال ميلر، مدير سجن غوانتانامو، في اعمال التعذيب في ابو غريب. ومع بداية سنة 2005، ساعدت فضيحة ابو غريب في كشف فضيحة غوانتانامو. بدا صحافيون اميركيون، بعد كل هذه التطورات، وفي سنة 2005، بعد ثلاث سنوات من افتتاح السجن في نقد معاملة المعتقلين فيه. وكان من اوائل هؤلاء توماس فريدمان، كاتب عمود في جريدة «نيويورك تايمز»، وكتب عن ذلك في مايو (أيار) في عمود عنوانه: «فقط اقفلوا هذا السجن».

كتب: «اصبح سجن غوانتانامو اكثر من احراج لأميركا امام العالم. ياسيدي الرئيس، من فضلك اقفل هذا السجن».

وبعد ذلك بشهر، في يونيو (حزيران)، كتبت جريدة «نيويورك تايمز» افتتاحية رئيسية تنتقد السجن، وتطالب، ايضا، باغلاقه. (كانت اول افتتاحية في مطبوعة اميركية رئيسية تفعل ذلك. مثلما كتبت نفس الجريدة، قبل ذلك باكثر من ثلاث سنوات، اول افتتاحية رئيسية تنتقد غزو العراق، قبل الغزو).

قالت افتتاحية «نيويورك تايمز»: «عبارة «ارخبيل الغولاغ»، التي استعملتها منظمة العفو الدولية في نقد سجن غوانتانامو، تنطبق ايضا على سجون سرية في العراق وافغانستان وغيرها تشرف عليها وزارة الدفاع، ووكالة الاستخبارات المركزية (سي آى ايه)».

السياسيون:

زار سجن غوانتانامو، في نفس شهر افتتاحية جريدة «نيويورك تايمز»، اول وفد من الكونغرس (بعض اعضاء لجنة الشؤون العسكرية في مجلس النواب). وعقدوا، بعد عودتهم، اول جلسة استماع عن الموضوع. واتفقوا، جمهوريون وديمقراطيون، على ان السجن ليس بالسوء الذي تتحدث عنه الصحف والتلفزيونات ومنظمات حقوق الانسان العالمية. قال واحد منهم ان السجن «متنزه»، واشاد ثان بـ«الطعام الصحي»، وتحدث ثالث عن «احسن من سجونهم»، وقال رابع ان المعتقلين «زاد وزنهم بمعدل 13 رطلا»، واشار خامس الى عبارة الرئيس بوش: «اذا اطلقنا سراحهم، سنقبض عليهم مرة اخرى وهم يحاربوننا».

وفي نفس الشهر، يونيو (حزيران) 2005، عقدت لجنة الشؤون القانونية جلسة لمناقشة تجديد قانون «باتريوت» لمراقبة الذين يعتقد انهم ارهابيون. وعندما تحدث عضو ديمقراطي عن غوانتانامو، رد عليه جيمس سنسنبريمر، رئيس اللجنة الجمهوري: «غوانتانامو لا تهم».

تشيني:

لا يزال نائب الرئيس تشيني يقود حملة السياسيين (وخاصة الجمهوريين) ضد كل من ينتقد معاملة المعتقلين في غوانتانامو، ولم يغير رأيه رغم كل هذه التطورات. وقال، في بداية هذه السنة، ان المعتقلين «يعاملون معاملة احسن من معاملة اي حكومة اخرى على وجه الكرة الارضية».

وزار السجن، في بداية هذه السنة، السناتور الجمهوري بات روبرتز (من ولاية كنساس)، وعاد وقال ان المعتقلين يعاملون «أحسن من المعتقلين في كنساس». وانتقد، وهو الجمهوري المحافظ، الذين يطالبون باغلاق السجن.

وكشف، قبل ثلاثة شهور، مركز الحقوق الدستورية (في نيويورك)، ومن اهم المنظمات القانونية التي تدافع عن المعتقلين، ان السناتور روبرتز، وبقية السياسيين الذين زاروا السجن، لم يقابلوا المعتقلين لأن العسكريين لم يسمحوا لهم بذلك.

ولهذا، لا بد ان مواقف السياسيين ستكون غير نزيهة. ولا يعتقد، مع اقتراب الانتخابات، ان يتجرأ سياسي ويطلب اغلاق السجن، حتى اذا سمح له العسكريون بمقابلة المعتقلين.