«الوساطة» تلعب دورا أساسيا في عملية إجلاء الأجانب من لبنان .. والأميركيون وحملة «البطاقات الخضراء» الأوفر حظا في الرحيل

الشرق الاوسط تزور مواقع الإبحار إلى الأمان الموعود

TT

«اقفل مطار بيروت في وجهي في عام 1981 ومذاك لم أعد الى لبنان الا قبل ثلاثة اسابيع. واليوم اقفل للمرة الثانية! لا استطيع ان اصدّق الامر»... قالت ناديا لـ«الشرق الأوسط» قبل ان تجهش بالبكاء.

«الوساطة» هي صاحبة الدور الاساسي في عملية اجلاء الرعايا الاجانب عن لبنان عبر السفن، بعدما تعرض «مطار رفيق الحريري الدولي» للقصف الاسرائيلي العنيف. ويحتل «سوء التنظيم» اعلى الرتب وكأن الانضباط الغربي يفقد مفعوله بعد اصابته بـ«جرثومة اللبننة»، فيتجلى بوضوح على آلاف الوجوه المتجهمة والباكية، وتلك التي حاولت الاختباء خلف نظارات شمسية. ويبدو ان حمل الجنسية الأجنبية مهما اختلفت، باستثناء الاميركية، ليس كفيلا بتجنيب اصحابها «الذل» الذي عاناه اللبنانيون وأجدادهم طوال حياتهم. فغالبية الاجانب والمتحدرين من اصل لبناني خضعوا لعملية توزيع، اعادت جدولة «رتبهم الانسانية»، حتى ان البعض شعروا بتجرّدهم من اي صفة تمت الى الانسانية بصلة. ولكن هذا الامر لا ينطبق على الجميع، فالاميركيون وحاملو البطاقات الخضراء، التي تخولهم العودة الى «بلاد العم سام»، كانوا الاوفر حظا، فتربعوا على عرش البواخر التي يفترض ان توصلهم الى بر الامان، فاحتلوا بذلك «الباب الاول» رغم سوء الظروف. ومن بعدهم تتوالى ابواب الجنسيات الاخرى ففي جولة لـ«الشرق الاوسط» في منطقة «البيال» المؤدية الى المرفأ في وسط بيروت، اتضح ان اعدادا كبيرة من ابناء الجالية الكندية لا تزال رهن الانتظار وأسيرة المجهول، رغم ان سفارة بلادهم اتصلت بهم قبل يوم (اول من امس) وطلبت منهم الحضور عند الثامنة صباحا، ذلك ان هناك سفينتين ستبحران الى قبرص، ومنها الى كندا.

هذا ما كان مقررا، الا ان الواقع اختلف فـ«مقاييس الهوية وأنواعها» كانتا سيّدتي الموقف. وبعد ساعات من الانتظار المحمل بوعود الرحيل فوجئ غالبية المنتظرين بموظفي السفارة يطلبون منهم العودة الى منازلهم والمجيء في اليوم التالي، على أمل ركوب «بواخر الخلاص».

«لا نعرف ماذا يحصل. ناس يدخلون وناس يخرجون. وأنا ما أزال في الانتظار، وقد وصلت قبل الموعد بساعة اي عند السابعة صباحا. وحين احاول الدخول يعيدني موظفو السفارة ويقولون لا ابحار اليوم فالاسرائيليون يترصدوننا بقذائفهم»، قالت ناديا الآتية من الكورة في الشمال اللبناني قبل ان تضيف: «ماذا أفعل بجواز السفر الكندي؟ أعتقد انني سأرميه وأدوسه. الاميركيون دخلوا وانجزت معاملاتهم سريعا، أما نحن فمصيرنا مجهول».

جموع من الجاليات الكندية وقفت لأكثر من خمس ساعات لتسمع في نهاية الجلجلة عبارة «عودوا الى حيث اتيتم فالباخرة امتلأت». وقال احمد فرحات، وهو حامل جنسية كندية اتى الى لبنان قبل اسبوعين: «انطلقت مع عائلتي من الجنوب عند السادسة صباحا وكنت اول الواصلين. لن اعود الى هناك لاتعرض من جديد للخطر». وقالت زوجته زينب: «البعض اتوا عند الحادية عشرة وتمكنوا من الرحيل بفضل وساطاتهم مع بعض اعضاء الاجهزة (الأمنية). الوساطات تحكم البلاد ولن تزول». وقالت الفنانة اللبنانية نينا بطرس، التي انتظرت ساعات مع زوجها وطفليها، ان «الذين يتمتعون بوساطة تمكنوا من الرحيل وقد سمعنا انهم اخذوا الاميركيين قبلنا. اشعر بأنني اعيش فيلما بسبب الفوضى، حتى انه حصلت حالات اغماء. لقد اتصلوا بنا البارحة من السفارة وطلبوا منا الحضور عند الثامنة. لم يرحل سوى من افتعلوا المشكلات».

ونالت عائلة يافيريان حظها، فبعدما طُلب من أفرادها الرحيل اذيعت اسماؤهم للدخول بعد نصف ساعة، كما قال سائقهم الذي ظل منتظرا. «هذا معيب لقد رحل نحو 800 وبقي 2000 لقد أُخذت الاماكن المخصصة لهم. هناك صفقات! لقد خصصت ثلاث بواخر للجاليات الاميركية والكندية والالمانية. لا نعرف ماذا يحصل، واذا سألنا موظف السفارة يجيبنا ايضا بالمثل. لا نعرف الى من نتجه».

وقال عادل الذي يقطن في الاشرفية (في شرق بيروت)، وهو حامل الجنسية الكندية منذ اكثر من 15 عاما: «لا نعرف ما اذا كانت سفينة فعلا تنتظرنا. البعض يقولون انهم يجمعون من يدخلون في صالة والبعض يقولون ان السفينة امتلأت. أما الاخبار الرسمية فأفادت بانه لا ابحار اليوم بسبب القصف الاسرائيلي... وحين نحاول الاستفسار عما يحصل يجيبنا المسؤول الكندي بعبارة لا اعرف. هذا امر معيب. لمَ اتصلوا بنا ما دامت الباخرة لا تتسع للجميع». وأضاف: «ما يزيد الوضع سوءا اننا لا نعرف ما سيحل بنا حين نصل الى مطار قبرص. فنحن لا نملك ما يكفي من المال لشراء تذاكر السفر في ذروة الموسم. وحين سألت مسؤول السفارة قال ان مسؤوليتهم تتوقف عند ايصالنا الى قبرص». ووقفت سيدة مسنة تسأل يائسة عما ستفعل بحفيدها وعمره 13 سنة وقالت: «يبكي خوفا فهو وحده هنا واهله في كندا وابني الآخر محتجز مع عائلته في الجنوب وزوجته حامل في شهرها التاسع». هنا تنتهي رحلة «الشرق الأوسط» وسط جموع المعلقين بين الارتحال الى امان الغربة وغربة البقاء في وطن لا أمان فيه.