«تبنين» مدينة لبنانية جنوبية تعاني القصف.. والجوع.. والمرض

مستشفاها بلا دواء أو أطباء أو ماء أو كهرباء.. والسكان لا يستطيعون المغادرة خوفا من القصف

TT

ظلت القذائف الإسرائيلية ترعد فوق الهضبة المحروقة الواقعة بجوار مستشفى تبنين العام. كانت هناك قذيفتان ثم أخريان وأخرى، إضافة موسيقية شاذة لهجوم جرى أول من أمس. ارتعدت الجدران بينما تسرب الدخان اللاذع عبر المبنى. وتجمع في الداخل على الأقل 1350 من اللبنانيين في الأروقة والغرف والسلالم والممرات والأقبية التي أشعل فيها عدد قليل من الشموع، حيث اختفى الناس مع قليل من الماء والطعام وتقريبا بلا أمل في النجاة من الحرب التي كانت وراء هروبهم لكنها عادت لتظهر بالقرب من عتبات بيوتهم.

صاحت سعادة عودة، 60 سنة، «يا إلهي أوقف القنابل»، حيث اندفع جسدها من قطعة اسفنج كانت تجلس عليها بجنب الجدار. أثار صراخها بكاء الأطفال وسط حرارة المكان. لكن تضرعها لم يثر سوى غضب الآخرين. قال رجل صارخا من الطابق الأسفل المملوء بالنزلاء «اسكتي».

تبعد مستشفى تبنين عن الحدود مع إسرائيل بثمانية أميال. ولم يكن فيها أطباء ولا ماء وقطعت الكهرباء في أول أيام الحرب. ويتطلب الوصول إلى صور منها سياقة نصف ساعة في أيام السلام، وهي تبدو شبيهة بلوحة الجورنيكا لبيكاسو والذي عبر فيها عن آلام تلك المدينة التي تعرضت للقصف مثلما هو الحال الآن.

اكتفت النساء المسنات اللواتي هربن من القتال الذي يدور منذ أسبوعين أن يضعن أقدامهن المتورمة والمكدومة في شاش. وولد خمسة رضع قبل موعد ولادتهم منذ بدء القتال. وليس هناك أي حمام لهم. وفي رواق آخر حملت عبير فارس بذراعيها رضيعها ابن الثلاثة أيام وهي حملته ومشت على قدميها من مدينتها بنت جبيل المحاصرة بعد تسع ساعات من ولادته.

قال حسين قدوة، 43 سنة، والذي ترك سكنه في تبنين سعيا للحصول على ملاذ داخل المستشفى «البلد يعيش حالة أسى». وقال مصطفى وهلي، 45 سنة، والذي كان واقفا بجنب قدوة «هناك قتلى في كل مكان».

كان الدخول إلى رواق في المستشفى أشبه بفتح باب فرن والغضب والخوف والشعور بالإقصاء تنفجر حولك. يحتشد الناس هناك وكل منهم يسعى إلى الحصول على فراغ له على امتداد الأرضية المغطاة بالآجر وتحت هناك مدخل يحمل اسم المستشفى على قطعة معدنية بحروف ذهبية. وكانت الجدران مزينة بأعلام لبنانية واهية. صاح رجل «أخرجنا من هنا»، قال آخر باكيا «ساعدنا»، وصرخ آخر «هل جلبت معك أي طعام؟» لم تكن هناك أي حوانيت مفتوحة في تبنين التي كان عدد سكانها 4000. وقالت العائلات إنها تبقى على قيد الحياة من خلال وجبة واحدة في اليوم، ويبلغ عدد المرضى أكثر من 40 وأغلبهم من الأطفال. هرب معظم موظفي المستشفى وكذلك هو الحال مع الأطباء. ومن الصعب الحصول على أي مساعدة طبية حيث القوات الإسرائيلية لا تكف عن قصف السيارات المتحركة. وخط الاتصال الذي يغذي المستشفى هو الهلال الأحمر اللبناني الذي فقد سيارتي اسعاف ليلة الأحد الماضي حينما ضربت صواريخ إسرائيلية سقفيهما.

في معظم الأيام تجلب سيارات الإسعاف ما بين 300 إلى 400 رزمة من الخبز المستوي وفي كل رزمة هناك 10 أرغفة و100 علبة من سمك التون المعلب. قال قاسم شعلان العامل في الهلال الأحمر الذي جُرح يوم الأحد الماضي «هذا لا يشكل واحدا بالمائة مما يحتاجونه بل واحدا بالألف».

وصل وهبي بملابس متسخة يوم الثلاثاء الماضي من قريته عيناتا مع 50 شخصا آخر. وهم آخر من بقي هناك بعد ثلاثة أيام على القصف الإسرائيلي للقرية وبشكل مستمر. قال وهبي «هم يدمرون بيوتنا فوق رؤوسنا. حسنا، ليقاتل الجندي نظيره الجندي لكننا مدنيون». بادر هؤلاء بالمغامرة بالمشي لستة أميال منذ الصباح. وظل القصف ملازما لهروبهم على امتداد الشوارع الغارقة بحطام الأشياء الضرورية للحياة اليومية. فهناك صالون لو سييل ومقهى معتوق ومطعم منصور ومدارس المهدي.

وقال وهبي «وهم قادمون من كل مكان». مشيرا إلى عائلة وصلت للتو من بنت جبيل حيث القتال احتد أول من أمس بين مقاتلي حزب الله والوحدات الإسرائيلية التي تحاول السيطرة على البلدة.

أورد اسماء المدن الاخرى التي تركها سكانها باتجاه تبنين مثل عيترون ومارون الراس ويعرون. تحدثت اسر عن مقتل او إصابة اقرباء لهم، وتوسلوا المساعدة بصورة مكررة لإخراج الجثث من تحت أنقاض المنازل المدمرة. ركز الصليب الأحمر على إنقاذ الأحياء، وبخلاف وحدات الدفاع المدني التي تنقصها الإمكانيات والمعدات، لم تعد هناك سلطة حكومية. سألت سعادة عن وسيلة الدخول الى المناطق المدمرة وإخراج جثث القتلى والجرحى. كانت عودة قد وصلت من عيترون قبل حوالي اسبوع بعد مقتل شقيقها موسى وزوجته جميلة وأطفاله علي وعبير وحسن ومريم ومحمد، الذين تتراوح أعمارهم بين 5 و15 عاما، في غارة جوية على قريتهم. اضطروا الى ترك الجثث خلفهم، وجلست مع شقيقتها هنية التي قدمت معها وآخرين من القرية التي تبعد حوالي عشرة أميال.

أشارت هنية الى الضمادات على قدميها اللتين يظهر عليها ورم واضح وقروح نتيجة المشي لمسافة طويلة، وقالت وهي تجلس على فرشة على الارض ان الوضع هنا اكثر بؤسا، وقالت شقيقتها بلهجة يبدو عليها حزن واضح: «لا نعرف ما يجري». المستشفى عبارة عن مبنى من طابقين مشيد جزء منه غير مؤثث، والذين حالفهم الحظ تمكنوا من الإقامة في غرف، فيما نام آخرون على مفارش في الممر ووضعوا متعلقاتهم داخل اكياس بلاستيك. جلس الأطفال، الذين يشعرون بضعف وإرهاق، مع امهاتهم. التوتر واضح على الجميع بفعل الازدحام في هذه المساحة المحدودة. اصبح التوتر اكثر سوءا يوم الثلاثاء مع سقوط قذائف بالقرب القلعة، وقبل حوالي ساعة اشعلت قذائف نيران على جانب التل. البعض وجد مساحة داخل البدروم المظلم الذي اضاؤوه ببعض الشموع. قالت فاطمة عاصم، 13 عاما، ان العدد يتزايد كل يوم. الخروج من تبنين على متن سيارة يكلف ما يعادل مائة دولار، وهو مبلغ اكثر من جملة ما يملكه كل الاسر التي تجمعت هنا. وحتى في حال توفر هذا المبلغ يحجم السائقون عن قيادة سياراتهم في الشوارع التي يغطيها حطام الأبنية التي دمرها القصف، فيما السيارات احترقت او تركها اصحابها، ولا تزال معلقة على بعضها رايات بيضاء. وفي بعض الأحيان يتدحرج الحطام الى الشوارع، وتنظف الشوارع من بعض الحطام المركبات التي تمر عبرها تحت شعارات مؤيدة لـ«حزب الله»، الذي يتركز مؤيدوه في جنوب لبنان. كتب على واحدة من اللافتات «المقاومة ستبقى وستبقى وستبقى»، وفي عدة مواقع اخرى على الطريق احالت النيران المرتفعات الى كتل سوداء بما في ذلك اشجار الصنوبر والزيتون. وفي بعض الزوايا في الشوارع ظهرت لافتات توضح الطريق الى صور وتوجه السائقين الى السلامة النسبية. سألت صباح هاشم، 50 عاما، حول ما يجب ان يفعلوه وقالت: «ما الذي يمكن ان نفعله الآن؟ ليس هناك دواء ولا مؤن. اذا حاولنا نقل المرضى الى مستشفيات اخرى فسيقصفون سيارات الاسعاف في الشارع». كانت ابنة شقيقها زين هاشم، 4 اعوام، تلعب بدمية، فيما كان شقيقها نائما على كرسي من النوع المصمم لعيادات اطباء الأسنان. وضعت أكوام الملابس فوق الأجهزة، وفوق جهاز للتعقيم وضع مصحف مفتوح عليه سبحة. سألت صباح مجددا: «هل يعني ذلك ان لا سبيل الى خروجنا من هذا المكان؟ الله سيعينكم اذا ساعدتمونا على الخروج من هنا». أسرعت شقيقتها فاطمة نحوها وقالت: «هل هناك أمكانية لإخراجنا من هنا بواسطة الأجانب؟ ماذا عن الامم المتحدة؟»، وقالت فاطمة عباس، 70 سنة، ان الامم المتحدة اذا اعلنت هدنة لمدة اربع او خمس ساعات، سيصبح ممكنا إخراج الناس من هنا ومن بيروت ايضا. جنوب لبنان، المنطقة الأكثر فقرا في المنطقة، عانى من ويلات الحرب اكثر من أي جزء آخر. الإحساس باليأس لدى السكان الذين لجأوا الى هذا المستشفى يصحبه إحساس بالإهمال والتخلي موجه الى كل الجهات تقريبا باستثناء «حزب الله». ويقول حسن حمزة: «ماذا قدمت لنا الحكومة اللبنانية؟»، وانضم الى النقاش آخرون. وقال صديق لحسن يدعى عاصم ان الحكومة اللبنانية «تحب الاميركيين فقط»، ورد عليه حسن قائلا: «انها تحب الاميركيين والمال فقط».

*خدمة «واشنطن بوست» خاص بـ«الشرق الاوسط»