الضاحية الجنوبية لبيروت صباحها كئيب وليلها مخيف وأقصى آمال سكانها أن لا تكون منازلهم هي «التالية»

نجاة مسؤول مفترض في «حزب الله» من غارة إسرائيلية

TT

لم تفعل ايام الهدوء التي نعمت بها الضاحية الجنوبية لبيروت، بعد اسبوعين من القصف المدمر، فعلها في اعادة الحياة الى تلك المنطقة التي كانت تعج حتى 12 يوليو (تموز) الجاري بضجيج الناس.

صباح الضاحية كئيب موحش، لا لانها دخلت في عطلة الاسبوع وهجرها سكانها الى الجنوب او البقاع لقضاء الـ«ويك اند» كما جرت العادة في مثل هذه الايام الصيفية الحارة، بل لان «البوارج الاسرائيلية والطائرات التي دكت الضاحية قد تعاود ذلك في اي لحظة»، كما تقول صباح،57سنة، وهي تقف على مدخل بناء في احد احياء الضاحية وفي يدها ربطة خبز اشترتها من احد الافران القليلة التي لا تزال تعمل.

الدخول الى الضاحية من المدخل الشرقي كان الاكثر أمنا حتى صباح امس، فقد اغارت الطائرات الاسرائيلية صباحا على سيارة «شيروكي» على الطريق المؤدية الى الضاحية، ودمرتها بعد ملاحقة تشبه الافلام البوليسية، كما قال احد شهود العيان لـ«الشرق الأوسط». واوضح خالد، وهو عامل سوري يتولى حراسة معرض سيارات لم تعد فيه الا بضع سيارات، انه سمع دوي الانفجار الاول ثم شاهد السيارة تصطدم بالرصيف المحاذي وينزل منها السائق ويفر عبر احد البساتين المجاورة قبل ان يختفي بين الاشجار، فيما صبت الطائرة غضبها على السيارة الفارغة فأحالتها كتلة نار مشتعلة.

المشهد الذي يشبه احد مقاطع افلام العنف الاميركية اشعل مخيلة الناس، فقد سمعنا اكثر من رواية عن ان المستهدف هو احد المسؤولين الكبار في حزب الله. وما عزز هذه الروايات سحب السيارة بعد اقل من ساعة على قصفها بحيث بقي منها فقط بعض القطع الصغيرة والاطارات التي كانت ما تزال رائحة احتراقها نفاذة والدخان يتصاعد منها.

اول ما يصدم انف الداخل الى الضاحية رائحة كريهة يردها البعض الى تحلل الجثث تحت الانقاض ويردها اخرون الى تجمع النفايات في شوارع الضاحية التي قطعت الطائرات الاسرائيلية اوصالها ودمرت البوارج مبانيها. التجول في الشوارع سهل ولا يتعرض احد للزوار، الا اذا حملوا كاميرات وتصرفوا بطريقة «مشبوهة». عندها تنشق الارض عن شبان غير مسلحين يسألون ويستفسرون، فهاجس العملاء يسيطر على السكان وعلى حزب الله. والروايات عن اعداد العملاء الذين قبض عليهم كثيرة جدا. ويتبرع البعض باضافة «تفاصيل» قتل هؤلاء ورميهم من الطبقات العالية. غير ان حزب الله يؤكد ان كل الذين قبض عليهم سلموا الى السلطات اللبنانية المختصة.

لكن الوصول الى قلب الضاحية في حارة حريك، المنطقة التي غير القصف معالمها وخلق مساحات واسعة بين مبانيها، المتراصة سابقا، ليس بالامر السهل. الشوارع اقفلت بعوائق ولافتات تحذر من «خطر الموت». ويضفي المشهد جدية فائقة على هذا التحذير فمن يعرف الضاحية، سيجد انه لم يعد يعرفها عندما يدخلها ويضطر لان يخمّن اين موقعه واين هذا المبنى او ذاك. ينظم حزب الله بين الحين والآخر جولات للاعلاميين في الاحياء المقصوفة، لكننا اخترنا الدخول على مسؤوليتنا، فالوضع هادىء رغم الغارات الصباحية والامور يبدو انها ستبقى على حالها طوال اليوم. ولان لا مرافق حزبيا معنا كان من الافضل عدم القول بأننا صحافيون وعدم اظهار الكاميرات، ثم الادلاء بكذبة «بيضاء» لها جذور واقعية «منزل عمي هنا، ونريد الاطمئنان الى انه لا يزال مكانه»، فيرد الشاب اللطيف الذي استوقفنا: «حسنا، لكن ادخلوا فرادى وبدون سيارة»، ثم يتابع: «الطائرات الاسرائيلية حلقت منذ بعض الوقت ولا نريد المخاطرة».

ما ان نقطع الحاجز ويتراءى لنا الشارع العريض الذي كان يقع فيه مبنى تلفزيون «المنار» التابع لحزب الله حتى يبدأ حجم المشكلة بالظهور، مبان اختفت من مكانها وشارع «الشهيد راغب حرب» الذي يؤدي الى مبنى شورى حزب الله اصبح اثرا بعد عين. المشهد لا يشبه اي مشهد اخر، وبعض السكان يحاولون استخلاص ما امكن من متاعهم من تحت انقاض المباني المدمرة. غير ان بعضهم لا يبدي اسفا كبيرا على ما سقط « فهناك من سيعوض علينا... والله يعوض». الروايات التي يتناقلها السكان منبعها ما قاله امين عام الحزب السيد حسن نصرالله عن «مساعدة ستقدم للمتضررين». وتقول احدى هذه الروايات ان حزب الله سيعوض السكان ثمن شققهم بالاضافة الى مبلغ 15 الف دولار مقابل «تجديد» فرش المنزل. فيما يذهب اخرون الى القول ان الحزب لن يجعل السكان ينتظرون لبناء منازل جديدة فهو سيشتري منازلهم للسماح لهم بشراء منازل جديدة فورا.

معنويات من تبقى من سكان الضاحية جيدة كما يؤكد كل من تقابله في غير احياء الاشباح، اي المناطق المدمرة التي بالكاد يظهر فيها اثر للناس بعدما طلب الحزب من سكانها مغادرتها قبل بدء موجة التدمير. لكن اثر التعب والخوف بدأ يظهر على السكان. وهذا امر طبيعي في حالة كهذه.

اما ليل الضاحية فهو مخيف، اذ تتحول مع ساعات المساء الى مدينة اشباح فيغادرها زوار النهار ويطفىء سكانها اضواء منازلهم لئلا يدل نورها على وجود حياة قد تستهدفها الطائرات الاسرائيلية. وتساهم طائرات الاستطلاع التي يعرفها اللبنانيون بـ(ام.ك) ويلقبونها تهكما بـ«ام كامل»، باضفاء اجواء من الخوف بازيزها المتواصل الذي يسمع بوضوح ليلا، علما ان هذه الطائرات تحلق هذه الايام على علو مخفوض خلافا لعادتها خلال السنوات الماضية. فهذه الطائرات اصبحت مسلحة وتحمل مهمة جديدة تتمثل كما اكد مصدر عسكري لبناني بالاستطلاع والرصد وتحديد الهدف ومهاجمته بصاروخين تبلغ زنة المتفجرات في كل منها نحو كيلوغرامين، غير ان هذه الصواريخ بطيئة مما يسمح للمستهدفين احيانا بالنجاة منها اذا لاحظوها.

ليلة هادئة، غير هانئة، جديدة يقضيها الصامدون من سكان الضاحية بانتظار وقف النار. وامالهم معقودة على ان لا تقصف من جديد... وان لا يكون منزلهم هو التالي.