الشموع عملة نادرة في القرى اللبنانية المحاصرة وقناديل الزيت تشعّ من جديد بعد «تقاعدها» لعقود

TT

هم ليسوا مهجرين من القرى الجنوبية، التي يستهدفها العدوان الأسرائيلي، لكنهم نازحون من المدن اللبنانية التي يقيمون فيها، سعيا للعمل والدراسة إلى قراهم الجبلية هاربين من القصف ودويه، «مستفيدين» في الوقت عينه من عطلة وإن تكن قسرية. ويحاول هؤلاء التكيف مع الظروف الراهنة، بيد أنها مهمة صعبة متى مرت ساعات النهار على وقع نشرات الأخبار ومشاهد القتل والتدمير والهدم.

وبما أن مصائب قوم عند قوم فوائد، لجأ كثر الى الاحتكار والتحكم في المواطن، الذي لا يملك الا الرضوخ وشراء ما توافر، في ظل القلق من احتمال امتداد الازمة ونفاد المواد الغذائية، اضافة الى ان تقطع اوصال المناطق افقد الناس القدرة على الرفض والمخاطرة او التنقل لشراء الحاجيات من مكان آخر. وليس مستغربا والحالة هذه، ان نبدأ سماع كلام التأفف من تضاعف المصاريف وعدم القدرة على التحمل. ورغم مراقبة الوزارات ومصلحة حماية المستهلك اللبنانية، وتحذيرها من رفع الاسعار تحت طائلة المحاسبة القانونية، واعلان نقابة صناعة المواد الغذائية عن احتمال ارتفاع الأسعار بنسبة تتراوح بين 3 و15 في المائة، بسبب زيادة تكلفة النقل، فإن تقاطر اللبنانيين على المتاجر والأفران زاد اطماع التجار الذين عمدوا الى رفع الاسعار ما بين 25 و50 في المائة، فلجأ كل منهم الى وضع التسعيرة التي تناسب مصالحه.

وعلى سبيل المثال، دفع عجز الأفران الكبيرة عن توزيع الخبز على الأفران الصغيرة الكائنة في المناطق، حيث النازحون كثر والتي لم تكن قبل ذلك قادرة على تصريف انتاجها، الى بيع ربطة الخبز المحدد سعرها رسميا بدولار اميركي واحد، بدولارين. فيما ادى انقطاع التيار الكهربائي الى زيادة الطلب على وسائل الانارة التقليدية، التي كانت مكدسة في المحلات وكان استعمالها نادرا، فلا نستغرب ان علبة شموع لم يكن يقارب سعرها الدولار الواحد، باتت تساوي اليوم دولارين، هذا اذا لم يتم تفريغ العلبة، وبيع كل شمعة على حدة.

والقناديل العاملة على الزيت، التي كانت قد «تقاعدت» عن العمل منذ وقت بعيد ووضعت على رفوف التحف الاثرية، انزلت من الرفوف ووفت بالغرض المطلوب في حال توفير الزيت اللازم لها.

ومحاولة منهم لتقليص هذه المعاناة قدر المستطاع، تهافت النازحون على شراء المولدات الكهربائية التي اصبحت بدورها كالعملة النادرة رغم ارتفاع سعرها بحوالي 40 في المائة وقلة وجود مادة البنزين، فصار المولد وسيلة مشتركة للعديد من البيوت في القرية الواحدة، يستخدمه كل من احتاج اليه، بعد ان يوفر له الوقود، للغسل ورفع المياه من الآبار.. كما بات مكان وجوده دليلا واضحا على عنوان تجمع الساهرين التواقين الى سماع اخبار المساء.

وهكذا، يبذل هؤلاء اللبنانيون جهودهم لتوظيف كل ما يحيط بهم ويتوافر لديهم للاستفادة منه قدر الامكان. فارتفاع تكلفة سعر قارورة الغاز من 10 دولارات الى 20 دولارا، دفع البعض الى تجميع الحطب او شرائه، للاستعاضة به عن الغاز.

وتجدر الاشارة الى ان المؤونة التي ملأت المنازل لا تخلو من أكياس الطحين زنة خمسين كيلوغراما رغم ارتفاع سعرها من 18 دولارا للكيس، الى اكثر من 25 دولارا. وندرة المواد الغذائية وارتفاع اسعارها، طالا البطاطا والبيض فارتفعت الاسعار 70 في المائة، اضافة الى ان البقوليات التي كانت تعرف بـ«لحم الفقراء» نزعت عنها الاسعار الجديدة صفة «اللحم».

ولعل ازمة الحرب هذه عادت بالفائدة على هؤلاء النازحين من جهة واحدة فقط، اذ تمكنوا من الاستفادة من الحليب والالبان والاجبان والخضر والفاكهة الطازجة، مما يتوافر في القرى، وإن بأسعار مرتفعة بعض الشيء.

وهذا الوضع بشكل عام حرك همم ابناء القرى الذين هبوا متضامنين وتطوع بعضهم للتوجه الى المدن، حيث لا تزال الاسعار على حالها، لشراء كميات كبيرة من المواد الضرورية واعادة بيعها لمواطنيهم بالاسعار نفسها من دون ارباح.

شباب ورجال وفتيات وسيدات امضوا اسبوعين بعيدين عن اعمالهم بسبب صعوبة التنقل، فاتخذت بعض المؤسسات قرارا تعسفيا بحقهم اما بطردهم او احتساب هذا الشهر عطلة من دون أجر.. حتى أفراح هؤلاء اللبنانيين واحزانهم لم يعد لها طعم أو أهمية واتخذت طابعا مختلفا، فسماع اخبار عن عشرات القتلى والجرحى يوميا، استنزف اعصابهم، وباتت أي حالة وفاة عادية لا تمثل بالنسبة اليهم الا خبرا عابرا، ومراسم الدفن لا تقام كما يجب انما يُكتفى بأدنى متطلباتها. حتى ان اهل الفقيد انفسهم تراهم يطلبون من المعزين تقديم العزاء والانصراف مباشرة من دون اللجوء الى التجمعات مخافة من القصف. والمعروف في هذه القرى، ان فصل الصيف هو فصل الافراح والحفلات والمهرجانات بامتياز، انما الوضع الراهن قلب المقاييس، فأجلت كل الاعراس الى أجل غير مسمى. وحتى حفلات نجاح الابناء في الامتحانات المدرسية والجامعات لم ولن تُنظم شعورا بالخجل من إقامتها.