400 عائلة لبنانية تعيش في موقف للسيارات تحت الأرض

لا مياه ولا أدوية وخطر المرض محدق

TT

تعيد زيارة مجمع «بيروت مول» الذي يحتضن نحو 400 عائلة لبنانية مهجّرة، ترتيب مفاهيم «الذل» في ذهن قاصده، الى درجة يكتسب فيها الموت مكانة مرموقة، لا بل قد يُحسد من وقعت عليه القرعة ونال هذا النصيب من الحرب. قد يرى البعض في هذا الامر كفرا، لكن من اختبر المكوث لنحو اسبوعين في موقف للسيارات تحت الارض لا يدخله خيط من الضوء او يتسلل اليه الهواء الطبيعي، ولو كان ملوّثا بمركبات الاسلحة الاسرائيلية، قد يعيد النظر في مسلماته.

بضع فتحات، يفترض انها للتهوئة، تنبعث منها سخونة تزيد فلك الموقف حماوة... لتلطيف الصورة وتخفيف وطأتها، يمكن الاكتفاء بالقول انه مكان لا تتوافر فيه الشروط الصحية، كما وصفه لـ«الشرق الاوسط» الطبيب الموجود هناك لمعاينة نحو 200 فرد يوميا، الدكتور عبد الاله كنج. ويضيف :«نفتقد كل الادوية ولا تصل إلينا المساعدات من الهيئة العليا للاغاثة او وزارة الصحة. هناك الكثير من حالات الاسهال والتقيؤ في صفوف الاطفال، وعدم توافر المياه ومواد التنظيف يسبب الجرب. لا نملك سوى بعض المسكنات والاسعافات الاولية. ونوزع علبة الدواء الواحدة على عدد من المرضى. باختصار ان الظروف المعيشية والصحية اقل بكثير من الحد الادنى».

حديقة اسمنتية استحدثت في زاوية ليلعب فيها الاطفال، فنجحت في جذب بعضهم وأخفقت في إلهاء الكثيرين ذلك انهم كبروا قبل اوانهم وباتوا يحملون هواجس الكبار ويحلمون بهدية «سلام» بدلا من لعبة، أو على الاقل بوقف لإطلاق النار يقي آذانهم دويّ القذائف وهدير الطائرات الحربية الاسرائيلية، فوائل، 9 سنوات، يحلم بـ«ان يتوقف كل هذا وأعتقد انه سيتحقق لأن غدا عيد ميلادي وسأطلب ذلك. لن أقيم حفلة سأكتفي بالصلاة». أما فضول الاطفال في سن الرابعة والخامسة، أي سن طرح الاسئلة، فبات مركّزا على مواضيع من نوع «متى نعود الى المنزل؟» و«متى ينتهي كل هذا؟».

وفي زاوية اخرى وضعت شاشة عملاقة لمتابعة الاخبار دائما عبر محطة «المنار» التابعة لحزب الله، وأحيانا توضع بعض افلام الصور المتحركة للاطفال. نظرة سريعة في المكان كافية لتلمّس البؤس ورؤية القهر والاسى اللذين تركا آثارهما على الوجوه الحزينة والمتجهمة... عبارات جاهزة وكأنها من توليفة واحدة وان اختلفت كلماتها فمضامينها واحدة، تصب جميعها في التمسك بالصمود والمقاومة والايمان بغد أفضل.

ربما عمل شباب حزب الله على توفير المعلبات الغذائية للجميع لكن الاطفال الرضع هم الفئة الاقل حظا في الحصول على الحليب والمستلزمات الحياتية التي تفتقدها غالبية المناطق اللبنانية ليصيروا بالتالي عرضة للامراض والأوبئة. ستة منهم ولدوا في المستوصف الصغير في ذلك الموقف واحدى الامهات نُقلت الى مستشفى لإصابتها بنزف حاد لعدم توافر الادوية اللازمة، كما قال كنج.

وسارة المقداد، 14 سنة، تنام الى جانب طفلتها جوليا وعمرها اسبوعين، قالت: «الخوف ساعدني على الوضع بسرعة... والافضل لها ان تعيش هذه الظروف لتعتاد منذ صغرها على التغلب على الخوف». وأبدت سيدة اخرى في شهرها التاسع انزعاجها من هذا الوضع: «أخاف كثيرا وقد نقلني الاسعاف الى المستشفى منذ ايام وأعطاني الطبيب بضع حبوب مهدئة لانني مصابة بالهلع والتوتر. أخاف من التنقل ولا أعرف اين سأضع مولودي. لا نستطيع ان نستحم فلا مياه. وكلما اردت دخول الحمام توجب علي الذهاب الى منزل أصدقائي في الشارع المقابل». التنهدات تتصاعد من كل زاوية ليسارع الايمان لتلقفها ومساعدة اصحابه على تحمل المحنة، فحافظ البعض على الصلاة وسط تلك الاجواء والبعض الآخر على رسم ابتسامة علّها تنجح في رفع معنويات مَن اقترب اليأس منهم. الغالبية يتحفظون عن ذكر اسمائهم وثمة من ينزعجون من وجود وسائل الاعلام «ماذا تريدون؟ رؤية مصائبنا؟» والبعض يرحبون لكن يكتفون بإجابات مقتضبة، ربما لان الحزن العميق يؤلم التحدث عنه وقد تضيع الكلمات أو تسارع ابتسامة للسيطرة على دمعة. «معنوياتنا عالية جدا رغم استهداف قريتنا... ولا نخاف الموت والاستشهاد. لست مزعوجة من المكوث هنا ومستعدة للبقاء حتى انتصار المقاومة»، قالت آلاء منصور، 15 سنة، متأسفة لموقف بعض الدول العربية والحكومة اللبنانية. وثمة من استقوا حسنات هذه التجربة فقالت احدى السيدات التي فضلت عدم ذكر اسمها: «لقد تعرفت هنا على سيدة من قريتي لم اكن اعرفها. أجمل شيء في الحرب انها تقرب الناس بعضهم من بعض» وقالت سيدة اخرى بحماسة لافتة «مستعدة للنوم على الحجارة لأدعم المقاومة ولنهزم اسرائيل. أصلي وأصوم وأدعو كل يوم وان شاء الله سننتصر... فنحن لا نرضى العيش في الذل والسماح لإسرائيل واميركا ان يحكمانا...».

وسيدة في الزاوية المقابلة قالت: «الوضع عدم. منزعجة جدا. يقتصر الطعام على المعلبات. .. لا استطيع النوم الا ساعتين أو ثلاثا على احسن تقدير، فالمكان مزدحم والضجيج لا يتوقف... أشعر بالاختناق». ... الاختناق هو فعلا ما يشعر به زائر المكان، فلا يتنفس الا عندما يخرج منه، مع ان هدير الطائرات ينبئه بأن الخطر يحوم فوق رأسه.