قانا بلدة بدون بشر.. باستثناء حفنة من الشبان بقوا فيها وكأنهم حراس للموت المخيم عليها

مراسل «سي.إن.إن» لم يصدق أنه عاد مرة ثانية إلى مسرح مجزرة مكررة

TT

الاسم: سامي شلهوب، الصف: الرابع الابتدائي، المادة: تنشئة وطنية، العنوان: ركام كان بيتاً من بيوت قانا.

... لم نعرف اذا كان صاحب الكتاب قد نجا من مجزرة قانا، لكن الواضح أن الريح وحدها تفلش صفحات كتابه ليقرأه التاريخ في موقع شهد للمرة الثانية خلال عشر سنوات أفظع المآسي، دفع ثمنها الأطفال والنساء والمعاقون والعجائز. ومن يشاهد حجم الدمار الذي تسبب به العدوان الإسرائيلي على هذه البلدة الجنوبية يصعب عليه معرفة مكان وقوع المجزرة ولا يستطيع منع نفسه من السؤال عن سبب إصرار الآلة العسكرية الوحشية على الامعان في دك بيوت هذه البلدة وقطع الطرق إليها غير مكترثة بالضحايا التي تسقط نتيجة عدوانها.

لا بشر في البلدة، باستثناء عدد من الشباب يعدون على أصابع اليد الواحدة، بقوا كأنهم حراس للموت الذي يسود الشوارع والركام.

لافتة عند مدخل البلدة تزيد من الدلالة على حجم المصيبة وتحمل عبارة: «من قانا إلى فلسطين نعيش أحراراً ونموت واقفين». محسن هاشم يؤكد هذه المقولة ويصر على البقاء في البلدة على رغم خسارته أقاربه، ويقول لـ«الشرق الأوسط»: «لم يحن أجلي، على ما يبدو، فقد خرجت من المبنى بعد الظهر (أمس الاول) لأحضر طعاما وخبزا وماءً من ساحة البلدة، وهي الحد الاقصى الذي تستطيع سيارة أن تبلغه، لأن الطرق مقطوعة، لكني لم أستطع العودة فقد بدأ القصف بكثافة لا تصدق. لجأت الى حيث وصلت. والمسافة لا تبعد أكثر من 300 متر. اشتدت كثافة القصف حوالي الساعة الثامنة مساءً، واستمرت حتى الثامنة صباحاً. استهدف الحي بأكثر من 80 صاروخا». محسن شعر خلال الليل أن القصف طاول أهله، نقل إحساسه الى رفيقه، عرف الحقيقة في السادسة صباحاً عندما شاهد قريبته تحمل ابنها المصاب وتطلب النجدة. عمره أربع سنوات. ابنتها قتلت وكذلك زوجها. قال: «عندما رأيتها سألتها عن الأهل، فأجابت: كلهم تحت الردم. حاولنا تضميد جراح الصبي فلم نفلح. حينها وعلى رغم استمرار الغارات ركضت الى الطريق العام أحاول فتحه. قال لي مسعف منظمة الصليب الأحمر، كان قد حاول الوصول الى البلدة أربع مرات وفشل: أنت مجنون. انتظر حتى يتوقف القصف».

اسم الحي المستهدف هو الخريبة. معناه تطابق مع واقعه. يبعد 1500 متر عن مجزرة قانا الأولى. تظلله اشجار الزيتون، ويطل على مدرجات زراعية. لا يمكن تجاهل لوازم الاطفال المتناثرة بين الركام. دراجة هوائية بثلاثة دواليب وعربة ودمى وطابة ودواء مسكن للأطفال. لكن المضحك المبكي هو كتاب عنوانه: «النظرية العامة للجريمة» لمؤلفه الدكتور مصطفى العوجي، والى جانبه كتاب آخر لسيد قطب عنوانه «في ظلال القرآن»، إضافة الى كتب مدرسية ودفاتر تحولت رماداً. وينفي هاشم إدعاء إسرائيل بأن حزب الله أطلق صواريخه من المكان. يقول: «مستحيل. لم يطلع القصف من هنا. لو أن الأمر صحيح لهربت العائلات. القصف يطلع من الوديان والاحراش وليس من بين المنازل. طائرات الاستطلاع الاسرائيلية تراقب وتعرف أن في حي الخريبة أطفالاً يلعبون طوال النهار. ويلجأون الى هذه الزاوية ليلاً».

أم عقيل تحتار من تنادي. تقول: «كل من أعرفهم ماتوا. كلهم». هي أيضاً لا تريد أن تترك البلدة. تقول: «من يبكيهم اذا ذهبت؟ من يقرأ على قبورهم الفاتحة؟».

غرفة صغيرة قرب موقع المجزرة لا تزال تحافظ على الفرش والكراسي البلاستيكية الزرقاء المركونة الى الحائط، وبجانبها طاولة عليها ركوة القهوة وصحون الطعام. على إحدى الفرش قرآن كريم. نقترب لنقرأ سورة «يس». الغرفة التي لا تبعد عشرة أمتار عن مكان المجزرة ولم تصب بأي أذى. علي حمود كان أيضا في المكان، لا يعرف حتى الآن كيف نجا، يقول: «ليست المرة الأولى، في مجزرة (عناقيد الغضب) أصيب شقيقي وشقيقتي، وأنا نجوت من دون اصابات، الاعمار بيد الله». علي كان يؤمّن المساعدات يوميا لضحايا المجزرة، وقبل كل شيء الدواء، لأن بينهم عدداً من المسنين والمرضى والمعاقين. يضيف: «كلهم كانوا مزارعين ورعاة. لم يغادروا في أي من الحروب. أوضاعهم الاقتصادية لا تسمح لهم بذلك. وإذا أجبروا على النزوح، كانوا سيموتون على الطريق. سياراتنا كلها قصفت ونحن معزولون عن العالم». يقول علي إن «سبع جثث ما زالت تحت الركام، أو هي طارت من هواء القصف. فقد استخدموا قذائف فراغية تسحب الهواء وتحدث ضغطا مهولاً».

موقع المجزرة تحول برج بابل إعلامي، حيث تتصاعد أصوات مراسلين ومصورين يرطنون بجميع اللغات. برنت سدلر، مراسل «سي إن إن» يمسح الرماد عن وجهه ومشروع دمعة. يقدم تقريرا موجعا. لا يصدق أن العدوان أعاده الى المكان ذاته بعد عشرة أعوام يوصينا بالانتباه ويغادر. مراسلة جزائرية تصرخ بالانجليزية: «طفل. سمعت بكاء خافتا لطفل في السفح». يقترب الجميع من الحافة حيث المبنى المتكوم. يسارع صحافي أجنبي الى النزول الى سفح المكان ليتبين مصدر الصوت. يجد قطة مصابة بجرح تموء ألما.