معظم البيوت سواها القصف الإسرائيلي بالأرض ومبنى تلفزيون المنار اختفى... وبقيت لافتة باسمه

رحلة «تعرف» على ضاحية بيروت الجنوبية:

TT

الابنية استلقت ارضا واثاث المنازل ينتشر «معلقا» في الهواء وخطوط الكهرباء تحمل الملابس وترسم على الارض ظلالا وخيالات، العاب الاطفال ملقاة على الطريق ولا اطفال في الشوارع. فتحت المحال ابوابها ولا باعة ولا من يشترون... انها ضاحية بيروت الجنوبية الاقرب الى بلاد العجائب بعد القصف الاسرائيلي المركز عليها. وانا اتبع الدليل الى الهدف الاسرائيلي العسكري في ضاحية بيروت الجنوبية عادت بي الذاكرة الى اغنية «من اين ادخل في الوطن». سألت: هل نحن في بئر العبد انه المسجد الشهير الذي كان يؤم المصلين فيه المرجع الشيعي اللبناني الشيخ محمد حسين فضل الله حين كان يعرف بالمرشد الروحي لـ«حزب الله» في ثمانينات القرن الماضي. أين المنطقة المحاذية للمسجد؟ اين هي الحدود الفاصلة بين بئر العبد وحارة حريك؟ اين الطريق؟ انها ابنية اقتُلعت من ارضها وارتمت تبحث عن آثار اقدام من هجرها.

«هدايا» اطفال اسرائيل بعثرت طفولة الغرف المعلقة. وتلك الدمى على قارعة الطريق تبحث عمن كانت تلهو معه.

انهم من آل رزق جاؤوا يبحثون عن منزلهم فلم يجدوه، ولم يجدوا حتى البناء. تركوا المنزل مع اندلاع الحرب الاسرائيلية التي استهدفت مسكنهم. ذهبوا الى الحدث، جارة الضاحية الجنوبية شرقا. وذهب المنزل. هم يحمدون الله ويدعون بالنصر لسيد المقاومة.

بعض من استغل هدنة غير معلنة تحت عنوان «توقف الغارات الجوية» استطاع ان يعود الى بيته. آل الحاج كانوا هربوا الى منطقة كورنيش المزرعة في بيروت. عادوا ليجدوا نصف منزل. يقول الرجل ضاحكا: «كان المنزل مؤلفا من 4 غرف، فأصبح من غرفتين. وجدنا بعض الحاجيات والملابس للاولاد». ويكمل سيره تاركا المنزل لمصيره.

نسير على سطوح المنازل التي سويت بالارض حينا وعلى ما تبقى من الطريق حينا آخر. ها هو رجل يبدو مبتسما وان كانت زوجته لا تشاركه البسمة. انه من آل حرقوص. يحمل بعض المتاع. تعبه لم يمح الابتسامة عن وجهه. ويبادر بالقول: «المنزل بخير. الجدران لا تزال مكانها. وحده الزجاج تطاير».

احدهم يقبّل الجدران. انه المنزل الذي شهد ايامه ولياليه، شبابه وطفولة ابنائه. تدمع عيناه وهو يبحث عن منزل جيرانه فلا يجد لهم اثرا. «ماذا لو لم تجد منزلك؟». سألته، فأجاب: «كنت سأحمد الله وادعو بالسلامة. المهم اننا بخير وكل شيء يعوض».

«هناك كان الفوال» قال مرافقنا.. بالقرب من الفوال محل «شمص مصفف للشعر». وها هم ثلاثة شبان يتفقدون صالون الحلاقة ليستخرجوا من بين حطامه اوراقا ثبوتية وصكوك ملكية كانت لا تزال هناك. يقول احدهم: «لا نستطيع ان نخرج سوى الاوراق خوفا من ان يتهاوى السقف على رؤوسنا».

تطل امرأة بزيها الاسود من خلف الركام تصرخ وتنادي: «المجرم بوش وقنابله الذكية. انهم ارهابيون. ونحن رجال الله. الله يحمي السيد حسن (نصر الله). ما نفع البيوت بلا كرامة؟». تقف على انقاض بناء مرتفع وتهتف بالنصر. شبان يحملون امتعة يتضاحكون. وشر البلية ما يضحك.

سيدة انيقة تحمل فردة حذاء تقول: «بالأمس وجدت واحدة بين انقاض بيتي. واليوم وجدت الاخرى. ولا نزال تبحث عن اغراضنا». على مقربة من المكان الذي تغيرت ملامحه ورسم الدمار خريطة جديدة لطرقه، تبدو لافتة كانت تدل على مقر تلفزيون «المنار» التابع لـ«حزب الله». بقيت اللافتة وغاب المقر. ولا يختلف الامر بالنسبة الى مقر الوحدة الاعلامية للحزب... كانت هنا ولم تعد.

تتشابه المشاهد. دمار وابنية اتشحت بالسواد بعدما اشعلتها القذائف التي لم تقو على تسويتها بالارض. وجوه ارتدت قسوة الصخر وعيون زاوجت الحزن بالغضب. يضيع الشعور بالوقت. الزمن توقف هنا.

علم لبناني معلق على شرفة يذكّر بساحتي 8 و14 مارس (اذار) من العام الماضي والتي حمل فيها اللبنانيون اعلامهم وهتفوا كل بشعاراته.

احد المراسلين الاجانب سأل مرافقنا: «اين هم المقاتلون؟» فأجابه: «على الجبهة». هدير الطائرات الاسرائيلية يعلن انتهاء الرحلة... «الطيران الحربي بالجو...». نترك المكان ويتركه اهله الذين جاؤوا لالقاء نظرة... ولكن هل تركوه فعلا؟