عشرات الآلاف نزحوا من الجنوب في «هدنة» القصف الجوي وغلاء أسعار البنزين حمل العديدين على الاستعانة بالدواب

TT

شجعت الهدنة الجوية التي أعلنتها إسرائيل لمدة 48 ساعة خلال اليومين الماضيين، على نزوح عشرات الآلاف من الجنوبيين الذين عضوا على جراحهم وحملوا معاناتهم وغادروا قراهم بحثاً عن مأوى يقيهم جحيم العدوان الإسرائيلي، ما تسبب بازدحام خانق على امتداد الطرق المستحدثة بين البساتين وفي الجبال، بسبب تقطيع أوصال الاوتوسترادات وتدمير الجسور بين العاصمة اللبنانية والجنوب. وما رفع نسبة الازدحام أن تدفق السيارات لم يقتصر على النازحين باتجاه بيروت، والذين فاق عددهم من سبقهم على درب النزوح منذ اندلاع الحرب على لبنان، وإنما شجع الذين كانوا قد غادروا في بداية العدوان، على استغلال الهدنة للعودة الى منازلهم وتفقدها ونقل بعض اللوازم الضرورية منها الى مكان وجودهم الحالي. فمعظم هؤلاء تركوا منازلهم من دون التزود بأوراق ثبوتية وبطاقات اعتماد. ولعل المساهم الأكبر في هذا الازدحام هو تدفق شاحنات الإغاثة التابعة للأمم المتحدة من بيروت بمواكبة عسكرية على الطرق الجبلية الضيقة. باختصار شكلت الهدنة فسحة تحرك ناشطة لتدبير الأوضاع قبل تدهور الأحوال الأمنية من جديد.

الهم الأكبر لدى الجميع كان تأمين وقود السيارات، وقد تغلب معظمهم عليها على رغم الأزمة الحالية التي تشهدها المناطق اللبنانية كافة. هذا الأمر أدى الى ازدهار سوق سوداء لسيارات الأجرة. «فقد طلب أحد مكاتب السيارات مبلغ 700 دولار مقابل نقلنا الى الجنوب يوم أمس. ما دفعنا الى المغامرة بما تيسر من وقود في خزان السيارة لمرافقة عملية النزوح، إضافة الى الاعتماد على أهل المروءة والكرم، لأن محطات بيع هذه المادة علقت الخراطيم وأقفلت مداخلها بشريط أصفر، يستخدم عادة لعزل موقع الجريمة عن العابرين والفضوليين. الشيخ حسن غنام على طريق كفرحيم كان المنقذ، اذ تخلى عن بعض محتوى خزان سيارته لنا ورفض حتى تسديدنا ثمنها. ولعل تعليق احدى الزميلات لدى تصاعد رائحة البنزين خير دليل، اذ وصفت الرائحة بأنها أحلى من العطر».

استغرق الوصول من بيروت الى مدخل صور أربع ساعات. تخللته استراحات قسرية في عدد من المناطق غير المهيأة دروبها لاستيعاب هذا الكم من السيارات. هناك يمكن التعرف على «يوم الحشر» عن كثب، فالطريق الترابية الوحيدة التي شقت لإنجاز مشروع «الجزيرة» السياحي على ضفاف نهر القاسمية صارت ملتقى النازحين والعائدين. أحدهم فوجئ بقريبه، وكان فقد الاتصال به منذ اليوم الأول للقصف. سأله بعد العناق: اين تقيم حالياً؟ أجاب: في بحمدون (قضاء عاليه). وأنت؟ ليأتيه الجواب: في بعقلين (قضاء الشوف).

الحشر لم يقتصر على السيارات، فالبعض اكتفى بوسيلة نقل عابرة حتى يغادر صور، ليكمل رحلة النزوح مشيا على الاقدام بانتظار من يقله بعد اجتياز المعبر الترابي. قد يسعده الحظ بالعثور على شاحنة فارغة، ليتكدس فيها مع آخرين، ذلك أن كل الوسائل باتت صالحة لإتمام طقوس النزوح. والأفضل يظل البقاء على قيد الحياة مهما كانت الظروف، من أن يصبح بضاعة الموت الرائجة في جحيم الجنوب. ولأن الحاجة أم الاختراع شكلت مجموعة من العابرين وعدد من أفراد قوى الأمن لجنة ميدانية لتنظيم السير. ما سمح بالتحرك وتخفيف الضغط وتوتر الأعصاب. فـ«العونة» على طريقة الريفيين كانت سيدة الموقف، كذلك أصول الضيافة، اذ حرص بعض سكان الضفة النهرية على تأمين الماء للعابرين وتقديم المساعدة للنساء والأطفال.

خبر قصف البوارج الاسرائيلية لشاحنة تابعة للجيش اللبناني عند جسر القاسمية، لم يكسر ايقاع النزوح، مع أن الموقع المذكور يبعد مرمى حجر عن الحشود الساعية للعبور.

مشاهد المواطنين المغادرين قرى العمق الجنوبي وصولا الى صور أشد قساوة. السيارات نادرة، معظمها تحطم أو احترق. بعض الدواب استعادت دورها الذي افقدتها اياه الحضارة لتذكرنا بقوافل السفر في القرون الوسطى. فقد حمّل النازحون حميرهم وبغالهم الفرش وصرر الثياب ومشوا الى جانبها يحملون همومهم أو عجوز عاجز عن السير. بعد الخروج الصعب من محيط التراب، تأخذ مواكب النازحين إستراحة قصيرة. تلم شملها تحضيرا للمرحلة الثانية. ومنعا للتشتت والضياع، حرص ابناء القرية الواحدة على ترتيب مواكبهم والانتظار الى جانب الطريق حتى يلتحق بهم من تأخر. موكب أهالي بلدة رميش التي عاشت حصارا رهيبا، كان مميزا بتنظيمه. اذ حرص الاهالي على احصاء المغادرين وتوزيعهم في السيارات وتفقدهم عند كل استراحة.

المشهد في منطقة الزهراني عند المدخل الجنوبي لمدينة صيدا أضاف لمسة حياة الى قوافل النازحين، فقد توقفوا لتناول الطعام في أحد المطاعم المتخصصة في فطائر اللحم بالعجين، كأنهم يتزودون الطاقة، تساعدهم على تجاوز الرعب وتدعم ترقبهم المجهول الذي ينتظرهم.

في صيدا تقف مجموعة كبيرة من النازحين فعلا على أبواب المجهول. فقد غادر عدد كبير منهم السيارات، تجمهروا في ساحة النجمة (وسط المدينة) حائرين لغموض المرحلة المقبلة. ذلك أن الهدنة المفاجئة لم تسمح لهيئات الاغاثة والمؤسسات الاهلية بترتيب أوضاع هذا العدد الهائل من الناس الباحثين عن مأوى. كان الليل قد اقترب. بعضهم افترش الارض الى جانب الطريق. والبعض الآخر اختار موقفا كبيرا للسيارات ليستقر فيه حتى يأتي من يدبر الأمر.

أما الذين حددوا وجهة سيرهم باتجاه بيروت فقد خاضوا مغامرات الدروب المقطوعة سهلا وجبلا. والبعض سعى الى اختصار الرحلة، فتحايل شباب على الجسر المقصوف في منطقة الدامور، دعموا إحدى زواياه غير المتضررة كليا بألواح من الحديد، مدوها ومرروا السيارات الفارغة إلا من السائق. أما الركاب فقد عبروا جسر النزوح سيرا على الأقدام. وكأنهم في تحدٍ مستمر مع الآلة العسكرية التي تقطع أوصال الوطن.

الآلة قبلت التحدي. رفضت المهارة اللبنانية القادرة على التواصل بمبادرات بدائية. فصباح أمس قصفت البوارج الإسرائيلية جسر الدامور مرة جديدة.