بعلبك تتحدى الغارة الإسرائيلية بعنفوانها المعهود وأهلها يجمعون أشلاء أولادهم برباطة جأش

TT

تستقبلك بعلبك برحابتها المعهودة وعنفوان قلعتها. لوهلة يخيل إليك أنها لا يمكن أن تتأثر بأكثر من مائتي كوماندوز إسرائيلي اقتحموها ليل الأول من أمس واختطفوا خمسة من أبنائها. ساحتها هادئة، تدب فيها الحياة بلطف. تظللها لافتة كتب عليها: «وعدنا سماحة السيد بالرد. وهو وفي لوعوده». عند مدخل القلعة التاريخية تلقفنا دليل سياحي. عرف عن نفسه وعرض خدماته، ولكن عوضا عن السياحة أبدى استعداده للعمل كمرشد حربي. وبالطبع بدأ بعرض بطولات المقاومة في التصدي لعملية الإنزال التي ما زالت حديث المدينة ومصدر خوف لأهاليها.

عضو المجلس السياسي ومسؤول البقاع في «حزب الله» موفق الجمال كان بانتظارنا. سلمنا إلى «الشباب» لنبدأ جولتنا و«نستكشف» آثار العدوان الأخير وأوضاع الأهالي.

المحطة الاولى كانت حي «شميس» الذي استهدفته القذائف لتعيد أبنيته الى مادتها الاولى: التراب. يحاول الأهالي تحليل ما حصل، يجتهدون للوقوف على أسباب الإنزال الاسرائيلي في بلدتهم. يقول خليل: «قرابة العاشرة شاهدنا الطائرات المروحية، إضافة إلى طائرات الاستطلاع. كانت تحلق على ارتفاع مخفوض ثم بدأت قصفها في كل الاتجاهات. الناس أصيبوا بالهلع. كانوا يسهرون وفجأة انهالت عليهم القذائف. لم يقتصر القصف على محيط مستشفى دار الحكمة حيث حصل الانزال، وانما على مسافة بعيدة، وصلت الى القرى المجاورة».

بعلبك لم تشعر أنها مستهدفة من قبل على رغم وجود مسؤولين ومؤيدين لحزب الله فيها. لكن هذه المرة نالت حصتها، والشواهد كثيرة بيوت وأسواق مهدمة وسيارات محترقة والأهم محطات الوقود التي نسفت عن بكرة أبيها.

لماذ؟ يجيب موفق جمال: «ربما حسبوا أن أحد المسؤولين وهو الشيخ محمد يزبك في مستشفى دار الحكمة وأرادوا اختطافه. استخدموا لهذه الغاية 40 طائرة. ونفذوا عملية ضخمة استغرقت ست ساعات بالتمام والكمال. لكنهم لم يحققوا أي انجاز. والنتائج دلت على ضعف في معلوماتهم. حتى أن المراكز التي قصفت هي قديمة، كانت تستخدم قبل عشر سنوات. وجل ما استطاعوا فعله هو دك المراكز التربوية والمدرسية والصحية والاعلامية». وأضاف: «كانوا يبحثون عن نصر يرد لهم اعتبارهم ويرفع معنوياتهم».

حسين شميس الذي يعيش في الحي المقصوف مع زوجته و12 إبنا وإبنة قال: «نعيش منذ عشرة أيام تحت وطأة تحليق طائرات الاستطلاع والقصف المتقطع. لذا ارسلت نصف اولادي الى بيروت وابقيت النصف الآخر هنا في بعلبك. وذلك حتى أضمن بقاء البعض منهم أحياء إذا تأذى البعض الآخر». المحامية عبير الحسيني لم تغادر. قالت: «لا أزال صامدة مع أمي وأبي. اليوم أخرج من منزلي للمرة الأولى. أشعر أني في إقامة جبرية. عندما بدأت الغارات حاول والدي طمأنتي بقوله إنها غارات وهمية. لكن صوته كان يرتجف وهو يتلو آيات من القرآن الكريم. فهمت وسلمت أمري لله».

المحطة الثانية من الجولة ودائما بمرافقة «شباب الحزب» كانت مستشفى دار الحكمة. المبنى من الخارج لا يشي بما حصل في داخله. يقول أحد المقاومين بعد تحذيرنا من تصويره: «أنزلت الأباتشي الكوماندوس. تسلقوا الحائط. كانوا حوالي 100 عنصر. انقسموا ثلاث مجموعات وبدأوا إطلاق النار. اثنتان للتغطية، والثالثة توجهت الى مدخل المستشفى. لم يكن في المكان سوى خمسة ممريضين وطبيب مناوب. كانوا يجلسون خارجا. حاولوا الفرار. قتل واحد ونجا الباقون». الدخول الى المستشفى ممنوع. لم نمسح المكان بعد. نخاف وجود أجسام متفجرة تؤذيكم». المحطة الثالثة هي محطة الوجع الاكبر في بلدة الجمالية التي تبعد حوالي اربعة كيلومترات عن بعلبك. هناك في حديقة مختار القرية حسين جمال الدين ارتكب الطيران الاسرائيلي مجزرة جديدة مستخدما الصواريخ الذكية التي تصيب الهدف من دون احداث دمار كبير. ذهب ضحيتها سبعة اشخاص. رباطة الجأش لدى العائلة المنكوبة تبعث على القشعريرة والذهول. فالرجل خسر ابنه الوحيد مكسيم، الذي لم يتجاوز الثامنة عشرة، كان قد نال شهادته الثانوية ويتحضر لدخول الجامعة. تستقبلنا والدته وحول عنقها ميدالياته. تقدم لنا العصير بقولها: «تفضلوا اليوم عرس ابني». أما الوالد فيقودنا الى البستان الذي عاد اصحابه الى ترابه اشلاء، يدلنا على الاشجار المحروقة وعلى بقايا الأشلاء ونتف الثياب. يقول: «كانوا تحت شجرة الجوز، ممددين على فرش ليناموا. لأني طلبت إليهم أن يخرجوا من الدار ويتركوا المجال للنساء والأطفال. فقد اجتمع أهل القرية في منزلي. أكثر من 100 شخص خافوا من القصف لأن بيوتهم على الطريق العام. كانت الكهرباء مقطوعة والظلام دامس. قصفنا الطيران بستة صواريخ ذكية. السبعة صاروا أشلاء. لم أجد من ابني الا حذاؤه. كانت الساعة تقارب الثانية فجرا. استمر القصف حتى الخامسة صباحا. حينها حاولنا جمع ما تبقى من الجثث. كان الامر مستحيلا. طلبنا جرافة لتتولى هذا الأمر».

يعتذر المختار ودائما برباطة جأش مذهلة، ينسحب ليطمئن الى ابنته المصابة في المستشفى. يكمل قريبه أيمن الطفيلي الحكاية. يشير الى بقع الدم على جدار مبنى مجاور للحديقة والى بقايا بشرية على كابل كهربائي. يقول: «نحن شيوعيون ولا ننتمي الى حزب الله. لكن اسرائيل لا تفرق بين المقاتلين والمدنيين». يدلنا على بقايا «صاروخ ذكي». يقرأ ما كتب عليه. ثم يشير الى بقايا قذيفة من اجتياح العام 1982، ما زالت مغروسة في شجرة الجوز، ويقول: «عام 1982 كانت اسرائيل تريد القضاء على المقاومة الفلسطينية. اليوم هي تهدف الى ابادة الشعب اللبناني بكامله».