خروج الضاحية على الدولة

افتتحه اللاجئون الفلسطينيون وواصله المهجرون الشيعة

TT

فيما تتعرض الضاحية الجنوبية لاستهداف إسرائيلي مدمر، أجهز على عدد كبير من مبانيها وسواها بالأرض، تبدو مدينة بيروت لكثيرين واقعة على هامش الحدث المركزي، لا ضاحيتها على ما هو مفترض للضواحي من أدوار ومكانة.

للمرء أن يوافق على التوصيف الآنف لهامشية المدينة إزاء مركزية الضاحية اليوم. وللمراقب المتتبع أن يزيد عليه بالقول ان الانقلاب في الأدوار بين الضاحية ومدينتها بيروت، ليس وليد الساعة، ولا هو وليد الاستهداف الإسرائيلي، بل يرجع إلى عقدين من الزمن على أقل تقدير. بيد أن قصة الضاحية لا تستغرقها المكانة التي تحتلها اليوم، في مجرى الصراع الدائر على أرض لبنان، فإليه ثمة اسباب عديدة جعلت لهذه الناحية جنوب بيروت هذه الوضعية الاستثنائية.

على مدى حلقات خمس نستعرض قصة الضاحية من البداية حتى يومنا هذا. من بداية تحولها من مجتمع زراعي إلى ضاحية مكتظة بالسكان. قصة خروج الضاحية على سلطة الدولة من البندقية الفلسطينية إلى الشيعية. ومن صعود حركة أمل وأفولها إلى صعود نجم حزب الله انتهاء بتكوينه فيها نصاب دولة كاملا، له السيادة التامة عليها. إلى قصة المربع الأمني، والمباح والمحظور في دولة حزب الله واسباب عجز الدولة عن بسط سلطتها في تلك الناحية.

في هذه الحلقة نعرض لموقف أهل الضاحية الأصليين، بما حل بمنطقتهم، لا سيما الشيعة منهم. كما نعرض لإسهام السلاح الفلسطيني في ما آلت إليه أحوال هذه المنطقة، اضافة إلى المكانة التي تحتلها الضاحية في نسيج الهوية الشيعية اليوم.

الضاحية تسمية حديثة نسبياً، ترجع إلى سني الحرب اللبنانية ومسمياتها. قبل ذلك كانت المناطق الواقعة تحت هذه التسمية العامة، تستقل كل منها باسم خاص، وكانت الضاحية أحياء: حارة حريك وبرج البراجنة والشياح والرويس والصفير والمريجة والغبيري، أما اليوم فجميعها «ضاحية» على وجه الإجمال. في المقابل يحرص أبناء الضاحية الأصليون1 على انفراد مناطقهم بأسمائها الحقيقية، وقلما يستعملون مسمى الضاحية للإشارة إليها، خلافاً لما جرت عليه عادة الوافدين إليها، كأنهم بهذا يتنصلون من الحال التي آلت إليها مناطقهم، تلك التي تزامن إجمالها بهذا الاسم (الضاحية) مع بداية فعل المهجرين الوافدين اليها، فعلهم في المنطقة هكذا تراهم حين يضطرون إلى إجمالها، يفضلون مسمى «ساحل المتن الجنوبي» ولا يخفون تفضيله على مسمى الضاحية. قبل أن تستقر مناطق ساحل المتن الجنوبي على مسمى «الضاحية» أطلق عليها أكثر من طرف سياسي وأهلي أسماء عدة، فالزعيم الشيعي موسى الصدر أسماها بـ«ضاحية المحرومين»، ووصفها اليسار بـ«ضاحية البؤس». أما حزب الله فجعلها في أدبياته الأولى «ضاحية المستضعفين». من بين كل هذه الأسماء والمسميات نجح النازلون في الضاحية والنازحون إليها تهجيراً، في تثبيت الاسم الذي اختاروه، على حين أخفق أهلها الأصليون في ترويج تسميتهم، فبقيت محصورة في أوساطهم. غير أن نجاح النازلين وإخفاق الأهالي في شأن التسمية ليس سوى مرآة نجاح أكبر حققه النازلون، ألا وهو نجاحهم في جعل هذه المنطقة على الصورة التي يرغبون، بمعزل عن رأي أبنائها وطموحاتهم، إن لم يكن رغماً عنهم. فتاريخ هذه المنطقة الحديث ليس سوى تاريخ فعل النازحين فيها وتأثيرهم في مجراها، فيما أهالي المنطقة الأصليون لم يكونوا بغالبيتهم حيال الذي يحدث أكثر من شهود ومشاهدين لا يملكون من أمرهم سوى التفرج وحسب. وحين تسأل عن الجديد في الضاحية يجيبك أهلها القدامى، «كل شيء جديد، لا شيء قديم بعدما صارت هالدني غير دني»2. والجديد في لغة أهل الضاحية ليس سوى التغيير الهائل الذي طال مناطقهم عمراناً واجتماعاً وسياسة. تغيرت الضاحية على غير ما يرتأي أهلها ويتمنون، هذا أقله ما تشي به حرقتهم إزاء ما انتهت إليه أحوال مناطقهم، وما يؤكده ضعف إسهامهم في هذا التغيير، إن لم يكن انعدامه، فالذي غير الضاحية ليس أهلها وليس سنن الزمن والتطور، بل أغيار قدموا إليها في صورة اللاجئ والمهجر. منذ مطلع عهد الاستقلال كانت مناطق الضاحية الجنوبية قد بدأت بالتحول إلى قبلة سكن وإقامة للنازحين إلى المدينة من الأطراف، لكنها هجرات بقيت في جانب كبير منها هجرات فردية، شملت في عدادها متنوعين دخلاً ونسباً، فلم تعرف هذه المناطق، أقله حتى خمسينات القرن الفائت، تاريخ قدوم اللاجئين الفلسطينيين إليها، لم تعرف الهجرات الجماعية، تلك التي كانت اثنتان منها كفيلتين بتغييرها. الأولى كانت فلسطينية مع إنشاء مخيم برج البراجنة في عام 1950 والثانية شيعية (من الجنوب والبقاع) بدأت بعد حرب عام 1958 لتعود وتتفاقم إبان الحرب ابتداءً من عام 1975، لا سيما غداة التهجير الذي طال الشيعة من قاطني الضواحي الشرقية ومن جنوب لبنان.

* نزول الفلسطينيين

* قدم الفلسطينيون إلى الضاحية في عام 1950 فنزلوا في برج البراجنة، حيث أنشئ المخيم على تلة رملية محاذية لطريق المطار. بداية لقي الفلسطينيون كل حفاوة وترحاب، نظراً للتعاطف الكبير مع مأساتهم. فكانت العلاقات بنازلي المخيم جيدة، واتسمت بالود المتبادل، ولم يعكر صفوها سوى بعض الإشكالات الفردية التي كانت تحدث بين الفينة والأخرى بين شبان من المخيم وآخرين من أهالي المنطقة. غير أنها بقيت إشكالات محدودة النطاق ولم يكن لها أن تعبر عن حالة عامة من النفور والعداء أو الضيق بالنازلين الجدد في أوساط أهل المحلة. فالنازلون الجدد يومها كانت أمارات الضعف غالبة على صورتهم، وبسبب من ذلك، ما كانوا ليلوحوا لأهل المنطقة كمصدر تهديد واستفزاز. كما أن الظن المشترك، سواء في أوساط اللاجئين الفلسطينيين أو في أوساط أهل المنطقة على السواء، بأن وضعية اللجوء ليست أكثر من حالة مؤقتة وعابرة، لا بد أن تعقبها عودة اللاجئين إلى ديارهم، واطمئنان الطرفين إلى حتمية حصول هذا الأمر عاجلاً أم آجلاً، جعل الفلسطينيين من جهتهم لا يطلبون شيئا آخر أكثر من الإقامة، وجعل أهل المنطقة لا يرتابون بنزول الفلسطينيين في منطقتهم وتأثيرهم فيها. ظلت هذه الحال سارية نحو عقد ونيف، إلى أن كان عام 1967 وتحديدا شهر يونيو (حزيران) منه، الشهر الذي شهد هزيمة الجيوش العربية أمام الجيش الإسرائيلي، واحتلال المزيد من الأراضي في فلسطين ومصر وسورية والأردن، الأمر الذي كان له الأثر الكبير على طرفي العلاقة، اللاجئين الفلسطينيين وأهل الضاحية.

دلت هزيمة عام 1967 ، كما جرت العادة على تسميتها، على ضعف الجيوش العربية ونكوصها عن حمل مهة استرجاع الأرض. وبدوره أرسل ضعف الجيوش العربية رسائل كثيرة في أكثر من اتجاه. فبالنسبة للفلسطينيين جاءت هزيمة 67 لتبدد ما كان ترسخ في ذهنهم من أن العودة إلى الوطن معقودة اللواء على الجيوش العربية. هكذا فبعدما جوبهت الاتصالات الأولى بالمقاومة الفلسطينية بتحفظ شديد من عائلات المخيم الفلسطيني في برج البراجنة، أسهمت الهزيمة في ارتفاع حظوة المقاومة في أوساط الفلسطينيين بشهادة عمليات الالتحاق الواسعة بالمقاومة الفلسطينية غداتها. هذا بالنسبة للفلسطينيين، أما بالنسبة لأهل المحلة من مسلمين ومسيحيين فكان أول ما فعلته هزيمة 67 أن أسقطت صفة المؤقت عن اللاجئين الفلسطينيين؛ وما زاد من حدة الأمر وبعث القلق في نفوس الأهلين الطابع العسكري الذي راح يتخذه الوجود الفلسطيني، هذا الذي تبدى في طفرة الانضمام إلى المقاومة الفلسطينية، وسط أبناء مخيم برج البراجنة.

* بداية الخروج على الدولة

* لم يكن انخراط فلسطينيي المخيم في صفوف المقاومة بعيد الأثر عن شكل العلاقة بالجوار اللبناني الشيعي والمسيحي في محيط المخيم، فقد أفضت عسكرة الوجود الفلسطيني إلى رجحان كفة أهل المخيم على أهل المحلة.

في البداية تمكن المسلحون الفلسطينيون من انتزاع المخيم من سلطة الدولة، وشيئاً فشيئاً راحت سلطتهم تتمدد خارج حدود المخيم لتشمل جواره3 ؛ فحين حصلت أولى المجابهات بين المقاومة الفلسطينية والدولة اللبنانية وانتهت بهزيمة الدولة وشرعنة المقاومة الفلسطينية من طريق اتفاق القاهرة، جرى تثبيت سلطة المقاومة على مناطق واسعة من الضاحية الجنوبية، فكان هذا فاتحة خروج الضاحية عن سلطة الدولة الجامعة التي لم ترجع اليها حتى الآن. بديهي أن الجوار، لا سيما الشيعي، لم يرق له الأمر في البداية ولم يستطع الأقرار بسهولة بأن من كانوا مسودين عليهم أضحوا هم سادتهم4، لكنه في خاتمة المطاف رضخ للأمر الواقع وماشاه على خفر. هذا كان حال الشيعة، لكن المسيحيين من سكان حارة حريك كان أمرهم على النقيض من ذلك، حيث بعثت عسكرة الفلسطينيين في الجوار، مصحوبة بتهاوي سلطة الدولة في المنطقة، في نفوسهم القلق وحملت البعض منهم على الرحيل من المنطقة إلى مكان أكثر أمناً، حتى أنه، إن كان لأحد أن يعين تاريخاً محدداً لبدء نزيف الهجرة المسيحية من المنطقة، جاز له القول بتزامنها مع خروج المخيم على سلطة الدولة. بيد أن هجرة المسيحيين بعامة من المنطقة لم تبق مستندة الى مخاوف وحسب، بل زاد على ذلك اعتداءات تعرضوا لها في أكثر من محطة جاءت كترجمة أمينة للمخاوف المسيحية إياها. فمنذ عام 1969، تاريخ خروج المخيمات الفلسطينية على سلطة الدولة، تحول المسيحيون من أهالي حارة حريك إلى رهائن يجري الاقتصاص منهم كلما تعرض الفلسطينيون إلى اعتداء من أي طرف لبناني، وفي أي مكان على الأراضي اللبنانية. هكذا، فبعد حادثة الكحالة التي وقع ضحيتها عدد من الفلسطينيين كانوا متوجهين إلى دمشق لتشييع أحد شهدائهم، وجد مسلحو المخيم في مسيحيي حارة حريك بديلاً مناسباً للاقتصاص من المتهم المفترض باعتداء الكحالة، فنظموا هجوما على حارة حريك من طرف واحد، حيث لم يسجل خلال «المعركة»، التي استمرت اكثر من 18 ساعة، أي حالة إطلاق نار مصدرها حارة حريك5. لكن، وعلى الرغم من ذلك، وبسبب ضعف شوكة أهالي الحارة المسيحيين، أجبر هؤلاء على الاعتراف الضمني بأنهم كانوا طرفاً في الاشتباك. ومنذ ذلك التاريخ ازدادت حركة النزوح المسيحي من حارة حريك، فلم يبق فيها حتى عام 1983 سوى من لم تسعفهم حالتهم المادية على ترك مسقط رأسهم، حتى إذا ما قتل ميشال واكد، اليساري ابن حارة حريك وداعية بقاء المسيحيين في بلدتهم، فهم الجميع الرسالة فشدوا الرحال إلى جهة آمنة لا يكونون فيها مادة اقتصاص، كلما خطر ببال أحد الأطراف المحاربة إرسال الرسائل إلى الكتائب اللبنانية، الميليشيا المسيحية.

قضى الفلسطينيون على التنوع داخل الضاحية من طريق التسبب بهجرة أهلها المسيحيين، وأسهم التهجير الشيعي إبان الحرب في رفد العسكرة بمادتها البشرية وتأمين دوامها، حتى إذا ما أخلى الفلسطينيون الساحة غداة الاجتياح الإسرائيلي في عام 1982، لم ترجع الأمور إلى سابق عهدها، بل كان الشبان الشيعة من المهجرين إلى الضاحية، بتنظيماتهم اليسارية والشيعية الصريحة آنذاك، جاهزين للحلول مكان الفلسطينيين وإكمال مسيرة العسكرة في المنطقة، فلم يكن بلا معنى بالمرة أن أوائل المقاتلين الشيعة كانوا من أولئك الشبان الذين تلقوا تدريبهم العسكري على أيدي تنظيمات فلسطينية كانوا انخرطوا فيها منذ زمن. أما لماذا حل الشيعة الوافدون إلى الضاحية محل الفلسطينيين، ولم يؤل ذلك إلى شيعة من أهل الضاحية الأصليين، فهذا يسأل عنه ما هو مشترك بين الفلسطينيين والنازحين الشيعة من سيرة سوسيولوجية قوامها الهجرة ولحمتها الاقتلاع من الأرض. وبديهي أن مثل هذا التكوين ليس صفة أهل الضاحية الأصليين من الشيعة، ولا سمة الجزء الغالب منهم أو أكثريتهم.

* الضاحية في الهوية الشيعية

* ترتدي الضاحية الجنوبية مكانة مميزة في نسيج الهوية الشيعية المحدثة، التي بلورها خلال الحرب مهجرون من الشيعة، فبإزاء ماض قوامه الهجرة والاقتلاع تعني الضاحية لهؤلاء الشيعة المقام الذي استقروا فيه بعد رحلة التيه والتهجير، وهي، في هذا المقام، جامع ما تبدد وتفرق لولا نزولهم فيها وثباتهم عليها، ولولا ذلك لما غدا حالهم اليوم على ما هم عليه من قوة ومنعة. وهي المكان الذي احتضن صيرورتهم قوة يعتد بها ويُرهب جانبها، بعدما كانوا ضعيفي الحيلة ووقوداً لسياسات لا تعير مصالحهم وحياتهم أدنى اهتمام، جرت عليهم ما جرت من ويلات جعلتهم يتصدرون قائمة المتضررين من الحرب.

الناظر في أحوال الشيعة، لا سيما المقيمين في الضاحية منهم والنازلين فيها إبان الحرب، يلحظ نزوعهم، في معرض سرد تاريخهم الحديث، إلى قسمته قسمين اثنين: واحد سبق الصحوة يوم كانوا مشتتين وموزعين على مناطق عدة، تخالطهم فيها جماعات مختلفة يشكلون هم أقلية بينها، وتتنازع أبناءهم أهواء شتى قومية ويسارية، وما لحق بهم جراء ذلك من ضعف ومآسِ. وثان يلي الصحوة التي تجلت باجتماعهم في الضاحية. وهو الاجتماع الذي آل بهم الى انكفاء وداخلية يخالفان النزول في الضواحي. ذلك ان المدينة التي تحمل الجماعات الوافدة اليها والنازلة في ضواحيها على الخروج عن عاداتها وتقاليدها ونمط علاقاتها السابقة القائمة على صلات الرحم والقربى، واستبدالها بعلاقات جديدة تقوم على القبول بالجديد والسعي اليه، وهذا ما يضع الجماعات الاهلية ازاء ظروف مستجدة تمتحن لحمتها وعصبيتها وتفككها الى ذرات فردية ذات مصالح ذاتية، بعيدا عن معايير الجماعة العامة وعصبيتها.

كل هذه الامور التي يسع المدينة فعلها تفترض، في محل أول تعدد روافد الهجرة والجمع بين أناس من منابت قرابية وسكنية متفرقة ومختلفة في المكان الواحد. ومثل هذا الجمع هو ما تكون عليه الضواحي التي تستقبل الوافدين الى المدينة. بيد ان هذا ما لم يتيسر حدوثه في اجتماع الضاحية، وما لم تتحه ظروف الهجرة إليها التي أملتها، في وجهها الغالب، ظروف مغايرة لما تكون عليه عادة الهجرات الداخلية من الريف الى المدينة، بل كانت الحرب وظروفها هي من حتمت نزول من نزل في الضاحية، وهم جمع من مهجرين هجروا قسراً من مناطق الضواحي الشرقية في النبعة والكرنتينا والدكوانة، إلى آخرين قدموا بعد ذلك من الجنوب غداة انتقال المناوشات الحربية الى القرى الحدودية عام 1976 وثم تبعهم بعد ذلك مهجرو اجتياحي 1978 و 1982. اضف الى هذا بقاعيين وفدوا منذ الخمسينات وتضاعفت هجراتهم خلال الحرب، فأقام معظمهم في التجمعات السكنية الناشئة على اراضي الغير في المرامل والجناح وحي السلم والاوزاعي. وكان لنزول هؤلاء مجتمعين في الضاحية، بالتزامن مع تعطل آلة المدينة الآنفة الوصف، الأثر البالغ على الوجهة التي سيسلكها اجتماع الضاحية بعد ذلك.

* عقدة الاضطهاد

* وقد كان لضعف مساهمات تنظيمات اهالي الضاحية الطائفية وهامشيتها في بدايات الحرب، أن مكنهم من التحلل من مسؤولية المساهمة المباشرة في الحرب. في وقت استحكمت بهم الى حد بعيد عقدة الاضطهاد. هكذا وعلى الرغم من ان القسم الكبير من البيوت التي نزلوا فيها في بادئ الأمر تعود ملكيتها الى ملاك مسيحيين هجروا منها قسراً، فقد بقي التهجير بالنسبة الى أهالي الضاحية عملا التصق بالاخر وصنيعه ضدهم. ذلك ان من أخلى هذه الأحياء والمنازل التي نزلوا فيها من أهلها كان التنظيمات الفلسطينية.

على ان الهامشية التي اتسمت بها تنظيمات الشيعة العسكرية، في بداية الحرب، وسّعت لهم في وقت لاحق تصور الحرب كمؤامرة حاكها ضدهم الفلسطيني واعداؤه على حد سواء. هكذا اختلطت في رواياتهم لسقوط الأحياء التي هجروا منها اخبار عن تقاضي مسؤولين فلسطينيين أموالا لقاء تسليم المناطق هذه. وعزز مثل هذه الأوهام شيوع أخبار اثناء الاجتياح الاسرائيلي عن عمالة بعض المسؤوليين الفلسطينين لاسرائيل وارتقاء بعضهم الى مراتب عالية ومرموقة في صفوف جيشها.

هذا النحو من التصور لحياتهم السابقة على نزولهم في الضاحية، ورد كل ما لحق بهم من احداث ومآسِ أثناء الحرب الى الفرقة والتشتت اللذين كانا سائدين في أوساطهم، وحملهم الحياة المختلطة، أو ما حسبوه حياة مشتركة قبل الحرب، على محمل الضعف الخالص وتصورهم الحرب كمؤامرة.

ان هذه التصورات والخلاصات الآنفة الذكر لم تعدم الأثر البالغ في إمعان الجماعة في نزوعها إلى الانكفاء على نفسها وتسوير دارها، والارتداد الى أصل متوهم حسبت انها نكصت عنه، وان ما لحق بها لم يكن سوى نتيجة لهذا النكوص.

يبقى أن الآثار المتولدة عن مثل هذه التصورات تصح في جانب منها على جيل الآباء، فيما جيل الأبناء من الذين ولدوا ونشأوا في الضاحية، لم يتسن لهم التعرف على أي حياة مشتركة بينهم وبين غيرهم من اللبنانيين، وهذا ما يجعلهم يشعرون بأن انكفاءهم ليس انقلابا على سوية عيش ألفوه أو خبروه سابقاً.

صحيح ان ما لحق بالشيعة من أحداث ومآسِ في مجرى الحرب، والشكل الذي تمت عليه روايتهم له، كان له الآثر البالغ فيما انتهوا اليه بعد توطنهم في الضاحية واستقرارهم فيها، غير أن مثل هذه الأحداث لا تعدو كونها مقدمات محفزة على انكفاء ما كان له أن يتحقق لولا سعي تنظيماتهم الطائفية إليه سعياً دؤوباً، سعياً اتخذ شكل حرب تحرير توجت بانتفاضة 6 فبراير (شباط) 1984، تاريخ خروج الضاحية على سلطة الدولة واستكمل بعد ذلك على أيدي حزب الله موصلاً إياه (الخروج) إلى ما يقرب من نصاب دولة تامة في الضاحية الجنوبية.

* مؤلف كتاب «بلاد الله الضيقة.. الضاحية أهلا وحزبا» ـ دار الجديد ـ بيروت.

* غداً الدولة الأهلية في الضاحية

* الحلقات تستند إلى الكتاب.

1 المقصود بهذا الوصف هم السكان الذين تعود أصولهم الى بلدات في منطقة الضاحية وهم يتوزعون بشكل رئيسي على الطائفتين الشيعية والمارونية مع أقلية سنية.

2 «تغيرت كثيرا الحارة علي، هنا مثلا، حيث اقترعت للتو كانت المنطقة كلها بساتين خضراء....» هذا ما قاله الجنرال ميشال عون إثر قيامه بالاقتراع للمرة الأولى في مسقط رأسه حارة حريك التي لم يزرها منذ العام 1983، من موقع www.tayyar.org 3 نقد السلاح الفلسطيني ، فيصل جلول (دار الجديد، ص 54، 55) 4 المصدر السابق ص 59 5 صحيفة «النهار» اللبنانية ، فيصل جلول نقد السلاح الفلسطيني، ص 74