السعودية: «البلدة القديمة» في العلا تحاكي طليطلة وتهددها الكلاب الضالة

يضيئها فانوس عتيق

TT

«ظهرت أزقة المدينة الضيقة نظيفة جدا، ولكنها مظلمة بسبب وجود غرف مبنية فوق الأزقة الضيقة المساحة، وعند كل بيت توجد دكة بنيت من الطراز العربي، ويلاحظ عدم انتشار الأوساخ في شوارع البلدة، ولا يسمح للكلاب بدخولها»، هذا ما كتبه الرحالة الإنجليزي تشاليز دواتي عن البلدة القديمة التي زارها مطلع عام 1877، في منطقة العلا، وبقيت بيوتها الطينية وأزقتها الضيقة لعدة قرون صامدة تتنفس عبر نوافذها الصغيرة العالية ضوء الشمس.

لكن لم تكن البيوت الطينية وأزقتها وحدها الصامدة، بل كان هناك فانوس يدوي يوقد بواسطة الجاز معلق في الهواء، من علية سقيفة أحد البيوت الطينية المبنية من الطين وسعف النخل وجذوعه، كان هادئا وساكنا رغم امتلائه بالصدأ وتكسر زجاجه، منتظرا يدا تمتد له، كي تشعل الفتيلة مرة أخرى ليضيء المكان من جديد، وقد علق على ذلك مطلق سليمان المطلق مساعد مدير وحدة الآثار والمتاحف في منطقة العلا، الذي اصطحب الشرق الأوسط في جولة إلى داخل القرية المتهالكة «هذا الفانوس وحيد ها هنا بين أنفاس الطين، وبقايا أثاث خشبي قديم يترامى هنا وهناك».

ويشير المطلق إلى بيت الطين قائلا «كان هذا المكان مقهى يجلس فيه رجال البلدة خلال المساء ليتداولوا الأحاديث» وهذه الأحاديث غادرت مع أصحابها وأبقت صدى صوتها تهمس به الريح العابر من بين النوافذ والأزقة والبرحات الصغيرة التي كان يجلس عليها الباعة لتكون بمثابة سوق تجاري شعبي.

والبلدة المتباهية ببيوتها أمام غيمات الصباح رغم هجرة ساكنيها منها، تغير مظهر ابتسامتها واتسم بالحزن بسبب ما تعاني من إهمال، وهي عبارة عن مجموعة من البيوت الطينية الصغيرة والمتلاصقة مع بعضها بعضا، لا يفرقها سوى شوارع صغيرة ضيقة أشبه بالأزقة التي لا يتجاوز عرضها المترين، فيما تعلو بعض جوانب هذه الأزقة سقوف لعليات كانت عبارة عن غرف علوية طينية للبيوت، بنيت بغرض توسيعها.

والعابر بين أزقة البلدة حتما ما تثيره الدهشة بسبب درجة تلاصق البيوت بعضها بعضا، بشكل تكاد تكون فيه أشبه ببيت كبير متماسك، ولعله السبب الذي جعل البلدة صامدة حتى اليوم، كما أوضح ذلك الدكتور عبد الله آدم نصيف عالم الآثار السعودي وأستاذ بكلية الآثار والسياحة بجامعة الملك سعود بالرياض، وكما قال لـ «الشرق الأوسط» «من شدة تلاصق المنازل تكاد أصوات ساكنيها تسمع لدى الجيران حتى وإن عطس عطسة واحدة، فإنها تسمع لدى الجيران ولمن يمشي في الشارع».

والدكتور نصيف أحد أبناء البلدة القديمة التي ولد بها ونشأ بين أزقتها الضيقة التي هجرها أصحابها منذ ما يزيد على 30 سنة تقريبا، حينما نزحوا أبان الطفرة الاقتصادية بالمملكة تجاه ما تعرف به حاليا البلدة الحديثة أو العلا الجديدة، مقابل البلدة القديمة التي رفض أصحابها هدمها وطالبوا ببقائها كمعلم آثاري في منطقة العلا، وعنها يقول نصيف «لقد كان أصحابها مثل الأسرة الواحدة».

ويتابع حديثه «إنها تعود إلى القرن السابع الهجري وقد احتلت موقعا استراتيجيا بعد اندثار مدينة المابيات المعروفة بالقرح قديما، وأصبحت بعدها محطة رئيسة لمرور واستراحة الحجيج المتجهين إلى مكة والمدينة» والقرية الطينية تقع في أضيق نقطة في الوادي الممتد من حوض الحجر (مدائن صالح) شمالا إلى حوض قرية المابيات جنوبا، وقد بنيت كما أوضح نصيف في الضفة الغربية للوادي على مكان مرتفع حول هضبة صخرية تعرف بأم ناصرة، لحمايتها من السيول والغزاة وقطاع الطرق.

ويقول «لم يكن في البلدة سور مستقل يحميها، وإنما تلاحم البيوت مع بعضها كون بطبيعة الحال منها سورا يحيط بالبلدة له أربعة عشر بابا تفتح على الأزقة والطرقات الضيقة، المتجهة لهذه المنازل»، ومن هذه الأبواب، كان باب أبو ذياب وباب الشواكين، وباب حسناء، وباب الخصيصة، أما عن حاراتها فقال نصيف «هما حارتان، الشقيق في الجزء الشمالي من البلدة، فيما كانت حارة الحلف في جنوبها»، كما وجدت بها قلعة عرفت بقلعة موسى ابن نصير، وقال عنها المطلق «يشاع أنه سكن بها، إلى أن مات ودفن فيها، لكنه قول غير موثق».

ويذكر نصيف أن كثيراً من الرحالة المسلمين كانوا قد زاروها وكتبوا عنها، أمثال ابن بطوطة، ومن شهرتها كونها تقع في منطقة أثرية حرص الرحالة الغربيون على زيارتها، وذكروها في كتبهم أمثال الإنجليزي داوتي، والفرنسي شارل هوبير الذي زارها صيف 1980، ويوليوي أويتنج عام 1884، كما زارها العالمان الأثريان جوسين وسافنياك عام 1907، وهما راهبان فرنسيان من أساتذة الإنجيل في القدس، وزيارتهما كانت بتكليف من الجمعية الفرنسية للتنقيب الأثري حيث زارا منطقة الحجر أيضا المعروفة بمدائن صالح حاليا.

ويقول نصيف «منذ فترة قصيرة زارها وفد إسباني يعنى بالآثار، وقد دهشوا برؤيتهم لقرية متكاملة البناء صامدة كل هذا الزمن، وذكروا لي أنها تشبه مدينة طليطلة في إسبانيا»، وهذه البلدة التي يعتبرها نصيف أكبر قرية طينية قديمة موجودة في المملكة ومحتفظة بهيأتها تثير لديه ولدى العابرين بها الشجن والحزن لما تعانيه من إهمال، ويقول «عندما تذكرينها لي، ينفطر قلبي حزنا على هذا المعلم الأثري المهم في المملكة، وكم أخشى عليه من الاندثار والموت، لأننا سنفقد مع ذلك تاريخا عريقا ينتظر استغلاله سياحيا واقتصاديا».