الضاحية بين مرحلتين

TT

ظلت المنطقة التي تسمى اليوم «الضاحية»، حتى الحرب العالمية الاولى منطقة زراعية، يعيش أهاليها من العمل في الزراعة وتربية دود القز، شأنها في هذا شأن غيرها من المناطق اللبنانية، قبل الأزمة التي أصابت سوق الحرير في أعقاب الحرب العالمية الأولى، فاتجه بعض أهاليها إلى العمل في التجارة، ومنهم من اتجه إلى العمل في الصناعة، بينما أهّل التعليم العالي قلة منهم إلى الوظائف والعمل الإداري. في الثلاثينات من القرن الماضي، بدأت بالتشكل نواة وجاهة شيعية جديدة، عمادها حسين عمار1 الذي كان تاجر مواد غذائية. فبحكم عمله هذا، وما نجم عنه من ثراء نسبي، تيسّر له التعرف إلى نافذين وإقامة صلات وعلاقات بهم، كانت أوثقها صلته بكل من المير حارث شهاب ونمر شمعون، والد الرئيس كميل شمعون. بيد انه وحتى ذلك التاريخ، لم يكن التنافس على الوجاهة والتصدر السياسيين قد ظهر بعد بين العائلات المحلية الشيعية في المنطقة، إذ أن التمثيل السياسي، النيابي وغير النيابي، كان لا يزال شأنا جديدا في فكرته وفي الحيز الإجرائي في الحياة العامة. ومع إنشاء المجالس البلدية في المجتمع المحلي في برج البراجنة وغيرها من المحال التي كانت تسمى ضياعا (جمع ضيعة) كالشياح وحارة حريك والغبيري، بدأ التنافس الفعلي بين العائلات المحلية بالظهور. وفي الأربعينات برزت في برج البراجنة عائلة الحركة التي أخذت تنافس عائلة عمار على الوجاهة. لكن ذلك التنافس ـ وإن عرف شيئا من الحدة في بعض الأحيان ـ ظل في حدود وأطر مقبولة، إذ لم يظهر بين العائلات المحلية فريق ينادي بالخروج على أعراف السياسة المحلية وتقاليدها وإجماعاتها. فظل الأقطاب والزعماء المسيحيون في دائرة بعبدا الانتخابية مرجع التنافس وفيصله بين العائلات المسلمة في ضياعنا. إلا أن هذا لم يحل قط دون أن تشكل هذه العائلات، رغم جدة وجاهتها وهشاشتها، عنصرا حاسما في ترجيح كفة المتنافسين على النيابة، رغم قلة عدد أصواتها في دائرتنا الانتخابية المتنوعة الانتماء الطائفي. فمنذ عهد الانتداب الفرنسي وصولاً إلى الحقبة الاستقلالية، ظل المسلمون في المنطقة على علاقة طيبة مع المسيحيين. آنذاك لم يكن المسلمون يشعرون بأي تمييز أو غبن يلحقه بهم المسيحيون. لكن الوئام الاجتماعي لم يكن يحول دون بروز الانقسامات السياسية المحلية التي لم تتعدَ الحدود الداخلية اللبنانية. وكان الانقسام والتنافس السياسي الأبرز بين التيار الدستوري وتيار الكتلة الوطنية في أواخر أيام الانتداب وبدايات الاستقلال. إلا أن الانقسام والتنافس كانا يقسمان المسيحيين كما يقسمان المسلمين على نحو أفقي. فكما كان بين المسيحيين دستوريون وكتلويون، كان للتياران حضورهما بين المسلمين أيضاً. فلم يظهر بين العائلات المحلية فريق ينادي بالخروج على أعراف السياسة المحلية وتقاليدها وإجماعاتها.

لكن التأييد والحماسة اللذان لقيهما بين المسلمين في لبنان عبد الناصر في أعقاب حرب 1956 في السويس، أخذا يخيفان أقرانهم المسيحيين الذين رأوا فيهما تباشير خروج المسلمين على بنود الميثاق الوطني، وعلى أعراف السياسة المحلية وحدود انقساماتها التقليدية المتعارفة. وهكذا تسلل القلق والشك، للمرة الأولى، إلى العلاقات السياسية والأهلية بين أبناء المنطقة. إذ قبل بروز الموجة الناصرية لم يكن شيعة الضاحية من سكانها الأصليين يمتلكون أدنى حساسية قومية وعروبية، تلك الموجة التي راحت تؤسس، للمرة الأولى، انقساماً عمودياً بين مسلميها ومسيحييها، وتضع البعض من كل منهما في مواجهة الآخر. وقد تواكب ذلك وتزامن مع تزايد أعداد الوافدين الشيعة إلى المنطقة من الجنوب والبقاع. ومع تزايد أعداد الوافدين بدأ يبرز الكلام عن الغبن والحرمان اللاحقين بالطائفة الشيعية، واللذين تزامنت بداية الكلام عنهما مع بدء غياب الأسماء المختلفة لكل ضيعة ـ محلة في المنطقة التي راحت تُسمّى باسم واحد موحد: الضاحية الجنوبية.

في هذا السياق لا بد من الإشارة إلى أن ميل الشيعة من أهل الضاحية الأصليين إلى الانخراط في الأحزاب العقائدية، كان ضئيلاً، وظل محصوراً في فئة ضيقة من الشبان المتعلمين الذين لم يتجاوز عددهم العشرات، فالاطمئنان الاجتماعي والاقتصادي إلى ملكية الأرض التي غدت رأسمالاً مالياً مع زحف موجة العمران في الخمسينات، حال دون انخراط السكان المحليين في بعض وجوه الحياة الحديثة المحمومة والتي يشكل الانتماء الحزبي صورة من صورها. وشأنهم مع التحزب وعلى خلاف حالهم مع التعليم الحديث لم يُقبل الشيعة من أهالي المنطقة على التعليم الديني، ولم تبرز بينهم عائلات دينية كتلك التي كانت معروفة في الجنوب اللبناني. فجميع المشايخ الذين كانوا يؤمّون المصلين في مساجد المنطقة كانوا يأتون إليها من خارجها. ثم أنهم كانوا أصحاب تقوى ورسالة، ويؤثرون البساطة في حياتهم على المظاهر، ولم يكن أي منهم يشبه مشايخ اليوم في جبروتهم الذي يظهرونه في الحياة العامة وفي السيارات الفارهة التي يتنقلون فيها مدججين بالمرافقين. والفرق بين مشايخ الأمس واليوم ينسحب على الاحتفالات في ذكرى عاشوراء. فالاحتفال في هذه الذكرى كان يقتصر على تلاوة القرآن الكريم وسرد محطات من السيرة الحسينية الكربلائية، تليها عظات للمشايخ لم تكن تتجاوز في موضوعاتها الحدود الدينية والاجتماعية إلى الإسقاطات السياسية الشائعة اليوم في أدوار رجال الدين وخطبهم وجميع أنواع نشاطهم. وما خلا البكاء تأثرا بالسيرة الحسينية الكربلائية، لم تعرف المنطقة المظاهر التي شاعت لاحقا، كاللطم والضرب بالجنازير وشجّ الرؤوس وغيرها. وما يحدث اليوم في المنطقة على هذا الصعيد لم يصدر عن اجتماعها التقليدي الذي كان التدين فيه تدينا عاديا وتقليديا، لا تترتب عليه التزامات من شأنها إرباك علاقة الأهالي المسلمين بأقرانهم وجيرانهم المسيحيين. فشيعة جبل لبنان عموما، وليس فقط شيعة الضاحية، كانوا يتأثرون إلى حد بعيد بنمط حياة جيرانهم المسيحيين، نتيجة اختلاطهم بهم في الحياة اليومية. ومن العلامات الواضحة لهذا التأثر تدني نسبة الطلاق، وندرة حالات الزواج من أكثر من امرأة واحدة، بين شيعة جبل لبنان. وندرة الزواج المختلط بين المسلمين والمسيحيين في المنطقة لم تكن عائقاً في وجه متانة الصلات الاجتماعية بينهما، ما دامت نابعة من حسن الجوار ومشاعر الود المتبادل.