قرية «إس.أو.إس» بتونس.. بوابة لإدماج الأطفال في المجتمع

مدير المركز: لسنا ملجأ للأيتام.. وهدفنا تعويض العائلة

TT

قمرت (تونس) ـ رويترز: لم تتمتع فاطمة فتاة العشرين عاما بدفء أحضان أبويها سوى يومين فقط، بعد أن ولدت خارج إطار الزوجية لتجد نفسها بين أحضان عائلة جديدة هي عائلة قرية «إس.أو.إس» قمرت لرعاية من لا عائل لهم والتي جعلت حياتها شبيهة بحياة باقي أندادها من الفتيات.

فاطمة التي تعرفت إلى والديها في الآونة الأخيرة بعد فراق دام زهاء عشرين عاما، قالت إن حنينها الوحيد هو إلى أمها آمال التي رعتها في قرية قمرت. وأضافت أنها غير متحمسة للعيش مع والديها من جديد وتفضل البقاء بجانب أمها وجدتها وأخوتها في القرية هنا.

تعيش فاطمة في «دار الصبايا» داخل قرية جميلة تتوسطها شقق زركشت شبابيكها وأبوابها باللون الأزرق في شكل معماري مشابه لنمط منتجع سيدي بوسعيد السياحي.

القرية محاطة بمنظر جبلي خلاب والأطفال بالقرية تشملهم رعاية متميزة من قبل مسؤولي هذا المركز الاجتماعي الذي أنشئ عام 1984 بغية تضميد جراح مثل هؤلاء الأطفال وإعادة إدماجهم في المجتمع.

تأوي قرية قمرت في الضاحية الشمالية للعاصمة تونس نحو مائة طفل وبعضا من الشبان ترعرعوا هنا بعد أن لفظهم المجتمع بسبب مآس اجتماعية تتراوح بين الولادة خارج نطاق الزواج وبين وفاة الأبوين وبين انتحار أو سجن آخرين. لكل طفل في هذه القرية حكاية وفي كل حكاية دموع سعى أب القرية الروحي «المدير» والأمهات والخالات إلى أن يكفكفها بتوفير رعاية خاصة لكل حالة.

ووزع الأطفال منذ مجيئهم إلى القرية على عشرة بيوت يضم كل بيت قرابة 10 أطفال برعاية أم وهبت كل وقتها لتربيتهم. ومثل كل بيت يعيش الأطفال علاقة إخوة قريبة جدا من الإخوة الحقيقية.

ويروي اسكندر ابن التسع سنوات الذي يعيش في بيت يضم ثمانية إخوة وأمهم شهلة قائلا «أتشاجر مع باقي الأطفال في القرية في حالة واحدة إذا اعتدى احدهم على واحد من إخوتي». لكن انتصار هؤلاء الإخوة لبعضهم لا يمنع حدوث المشاكل بينهم مثلما يحصل في كل بيت، إما بسبب الغيرة أو بسبب بعض اللعب.

وتقول شهلة، وهي امرأة تجاوزت الستين عاما، خصصت كل وقتها طيلة اليوم لتربية أبنائها «لا أستطيع تحمل ذلك، وأرسل جميع إخوته للبحث عنه فورا».

وتضيف شهلة التي تقول إنها فخورة بتفوق أبنائها في الدراسة «ليس لي أسلوب خاص في تربية أطفالي..أنا مثل كل أم قد أضرب احدهم إذا اخطأ وقد أبكي لآلام آخر».

وقال مدير القرية عماد اللبان «نحن لسنا ملجأ للأيتام.. وهدفنا تعويض العائلة إذا فقدت بسبب أو بآخر.. فنحن عائلة بأتم معنى الكلمة». وتبلغ ميزانية القرية قرابة نصف مليون دولار.

والأمهات في القرية متفرغات كليا طيلة ساعات اليوم وطيلة أيام الأسبوع للاهتمام بأطفالهن، ومستواهم التعليمي لا يقل عن البكالوريا ويخضعن لتدريبات طويلة قبل مباشرة هذا «العمل النبيل».

وفي القرية حدائق وروضة للصغار ومراكز إعلامية ونوادي ترفيه، إضافة إلى نحو 35 مسؤولا يسهرون على الاهتمام بكل من يحتاجهم. وزار القرية عدد من نجوم الفن مثل مغني البوب مايكل جاكسون وعدد من الفنانين العرب والرياضيين إضافة الى رؤساء حكومات عدة بلدان.

ويفتخر مدير المركز بأن عددا من أطفال القرية يدرسون بالجامعات ومن بينهم من هو مهندس، وهو ما اعتبره دليلا على نجاح المساعي التونسية في مجال العناية بالطفولة. ويقول «نحن نشجع أبناءنا على الاختلاط بصفة عادية بباقي الأطفال والشبان في المدرسة والمعهد، لكي يستطيعوا الاندماج في المجتمع بصفة تدريجية من دون الحاجة لتهويل مشاكلهم».

حالات معقدة اجتماعيا يسعى المشرفون على المركز إلى التوصل لإدماج أصحابها بشكل تدريجي في المجتمع من خلال الحديث لكل طفل تجاوز ثماني سنوات شيئا فشيئا عن حالته الاجتماعية التي سبقت مجيئه إلى هنا. لكن الأمر لا يقتصر عن التحدث إلى الأطفال بمشاكلهم، بل يسعى المسؤولون أيضا إلى معالجة كل حالة على حدة.

من بين هذه الحالات الحزينة وضع الأخوين أنور، 4 سنوات، ويسري، 11 عاما، اللذين تقبع أمهما في السجن بعد أن قتلت زوجها.

وكان أنور ويسري يرفضان زيارة أمهما في السجن وأصبحا يتنقلان بواسطة سيارة شرطة تأتيهم للقرية ليلتقيا بأمهما كي تخفف شيئا من آلامهما.

ويقول يسري الذي يجتهد في الصف الخامس الابتدائي بابتسامة متفائلة وبثقة متناهية «رفضت رؤية والدتي في البداية، لكن الحمد لله الآن أزورها شهريا وهي فخورة بنتائجي الدراسية».

وأشاد مدير القرية بالرعاية الشخصية التي يحظى بها أطفال القرية من الرئيس التونسي، وقال «حرم الرئيس ليلى بن علي تعرف أيضا أغلب أسماء الأطفال وتتدخل باستمرار في عديد من الحالات».

ويستقبل المركز الأطفال بعد تلقي نداء من مندوبي الطفولة في تونس الذين يشيرون إلى حالات خطرة تستوجب رعاية خاصة بسبب حالاتهم الاجتماعية، التي غالبا ما تتمثل في إنجاب أطفال خارج إطار الزوجية.

وتشير دراسات اجتماعية إلى انه يتم تسجيل ما بين 1600 و2000 حالة ولادة غير شرعية كل عام في تونس، لكن يعتقد أن الولادات غير الشرعية أكثر من ذلك بكثير، غير أن الحرج الاجتماعي يحول دون إعلان العديد من الحالات.

كما أن نجاح مسؤولي القرية في توفير حلول مناسبة لعدة حالات اجتماعية معقدة، لم يحل دون فشل البعض الآخر، ممن خرجوا منها إلى معترك الحياة.

ولعل حكاية الهاشمي، 24 عاما، الذي كان إلحاحه على التعرف إلى عائلته الحقيقية مصدر مأساته ومعاناته، أحد أبرز العناوين الفاشلة.

وقدم الهاشمي إلى القرية طالبا من أبيه الروحي «المدير» إعطاءه مبلغ 50 دينارا تونسيا (30 دولارا) لتمكينه من المعالجة، بعد أن أقدم على محاولة انتحار اثر ادعاء أخته الحقيقية بمحاولة اغتصابها.

ويروي الهاشمي بصوت متحشرج تغلب عليه الغصة «أختي من دمي أودعتني السجن لعام ونصف العام وأوصلتني إلى محاولة الانتحار».

وناشد الهاشمي المسؤولين قائلا «أمنيتي تأسيس جمعية لشباب القرية تعنى بخلق فضاء لربط صلة متينة مع العائلة الحقيقية، لأن القطيعة عاقبتها وخيمة». إضافة إلى ذلك يبقى هاجس تشغيل أبناء القرية أحد أبرز العوائق التي تعترضهم في عمر الشباب، حسب قول مدير القرية الذي طالب بمعاملة أبنائهم على اعتبار أنهم ذوو احتياجات خاصة تستوجب إعطاءهم أولوية في التشغيل.